عادت الطبقة الوسطى لاهتمامات العالم أكثر من أي حقبة سابقة، فالأرقام تتحدث عن نمو وصعود غير مسبوق، وزيادة في الاعتراف بأهمية المحافظة عليها، بعدما كانت في طريقها للتلاشي تمامًا في أكثر من ثلثي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، خلال القرن الماضي، فما الذي حدث حتى تعود بهذه القوة للواجهة من جديد، وإن كانت تحظى عودتها مقترنة بسياسات قد تضيق على المهاجرين ومعظمهم من العرب، فماذا عن حقوق الطبقة الوسطى والوعي بأهميتها في المنطقة العربية؟
ما الطبقة الوسطى؟ ولماذا عادت للصعود في أوروبا؟
هناك الكثير من التعريفات التي توضح بعناية ما الطبقة الوسطى وخصائصها وتركيبتها السياسية والاقتصادية والثقافية، فأغلب الدراسات ترصد أفرادها بناء على حجم الاستهلاك ومستويات الدخل والتعليم ونوع الوظيفة وعدد أفراد الأسرة والمحيط الاجتماعي الذي يوجدون به ومدى انخراطهم في صفوف التيارات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، ولكن الأكثر تشابكًا مع الواقع، تعريف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الذي يراها تلك الطبقة التي تقع بين الطبقتين العليا والدنيا، أي في أواسط الهرم الاجتماعي.
المؤشرات الجيدة لصعود الطبقة الوسطى، رصدها الخبير الإستراتيجي بمعهد بروكينغز العالمي هومي خاراس، ونقلها عنه “نون بوست” في تقرير مترجم قبل أيام، وأكد فيه أن أكثر من نصف سكان العالم سينتمون إلى الطبقة المتوسطة، التي يعرف خاراس أفرادها بمن يملكون قدرًا كافيًا من المال لتغطية احتياجاتهم الأساسية مثل الطعام والملابس والمأوى، وبعض الكماليات مثل الطعام الفاخر والدراجات النارية وتحسينات البيت والتعليم العالي.
في دراسة مختبر البيانات العالمي، يزداد الناس ثراءً في كل مكان بالعالم تقريبًا، يبارحون مكانهم عن زمرة الفقر، إذا اعتمدنا على تعريفه بالأمم المتحدة التي تعتبر الفقير هو من يعيش على أقل من 1.90 دولار في اليوم
لم يكن الباحث خاراس فقط، ومعهد بروكيز، أول من توصلوا لهذه الإحصاءات، بل سبقهم مركز الأبحاث العالمي “World Data Lab“، أو مختبر البيانات العالمي، الكائن بفيينا، إلى إنتاج بحث متماسك في شهر أكتوبر من العام الماضي، وصل من خلاله إلى اعتبار أغلب سكان العالم من أبناء الطبقة المتوسطة، وكانت نتائج التقرير انقلابًا كبيرًا على قناعات شبه راسخة لنخبة من كبراء الاقتصاد الذين لطالما همشوا الطبقات الوسطى في تحليلاتهم، وأكدوا أنها تشكل نسبة صغيرة من السكان، بما في ذلك بلدان العالم المتقدم.
في دراسة مختبر البيانات العالمي، يزداد الناس ثراءً في كل مكان بالعالم تقريبًا، يبارحون مكانهم عن زمرة الفقر، إذا اعتمدنا على تعريفه بالأمم المتحدة التي تعتبر الفقير من يعيش على أقل من 1.90 دولار في اليوم، لذا يرى المختبر أن هناك من يصعد كل ثانية بعيدًا عن هذه الدائرة منذ عام 2000، وله قصة يراها منطقية، عن عدم إحساس الملايين حول العالم بهذه النتيجة، الذين يروق لهم تصديق ازدياد جمهور الفقراء في العالم، بناء على آراء صانعي الوثائق ومن أسماهم المؤلفين المزعجين وغيرهم الكثير.
يعترف المختبر بمأساة الصوماليين والسوريين وغيرهم مما يعانون من ويلات الحرب الأهلية، ويعتبر أن لهم ظروفًا موضوعية، ولكنه يرى أن الفقر في دول أخرى له علاقة بسلوكيات أنظمة الحكم، ولا يحدث ذلك في المناطق العربية فقط، ولكنه يتخذ من فنزويلا مبحثًا للدراسة، ويعتبرها واحدة من البلدان التي تراجعت عن التعامل وفق آليات اقتصاد السوق الحر في السنوات الأخيرة، فانعكس ذلك على حال الملايين منها، ووقعوا في أدغال الفقر المدقع، وهي أزمات تحتاج إلى معالجة، ولكن لا يعني ذلك الانتقاص من الصورة العامة الشاملة لارتفاع مستويات المعيشة، ويعتبر في نهاية دراسته رافضي الاعتراف بهذه الحقائق من منكري التنمية العالمية.
تقيس بعض الدراسات الأوروبية، أزمات العولمة ورفض التيار الشعبوي لها، بما تتعرض له دولة صغيرة مثل السويد، يقل عدد سكانها عن 10 ملايين نسمة
على جانب آخر، تضع بعض التيارات السياسية الصاعدة وخاصة الشعبوية في الكثير من دول أوروبا، خطتها لإعادة تدعيم الطبقة الوسطى، على رفض منتجات العولمة التي دمرت بحسب زعمهم قيم المساواة الاقتصادية وضاعفت من عدد الوظائف غير الآمنة، وهي نتاج التغييرات الهيكلية في اقتصادات أوروبا، منذ الخمسينيات إلى أواخر الثمانينيات، الحقبة التي شهدت هيكلة الصناعة من بناء السفن إلى الفولاذ، نهاية بالزراعة والمشروعات الصغيرة ومتوسطة الحجم ومعظم صناعة الملابس، وضيعت برأيهم على الأوربيين مكاسب كبرى جراء الزيادة الهائلة في عدد المهاجرين واللاجئين الذين يقبلون بأدنى راتب، بجانب إخراج معظم هذه الصناعات إلى بلدان أخرى للاستفادة من ضعف التكلفة ورخص الأيدي العاملة.
وتقيس بعض الدراسات الأوروبية، أزمات العولمة ورفض التيار الشعبوي لها، بما تتعرض له دولة صغيرة مثل السويد، يقل عدد سكانها عن 10 ملايين نسمة، ورغم ذلك استقبلت أكثر من 300 ألف لاجئ منذ عام 2014 فقط، وعلى نفس النحو استقبلت النرويج والدنمارك المجاورتان لها نحو 45 ألف لاجئ في كل منهما، فيما استقبلت بريطانيا عددًا كبيرًا من اللاجئين يتناسب مع عدد سكانها، وصل إلى ما يقارب 1.8 مليون.
الطبقة الوسطى في آسيا.. حقائق مختلفة
في آسيا تتجاوز التوقعات الكثير للطبقة الوسطى، فالعديد من التحليلات تؤكد تنامي أعداد أبناء الطبقات المتوسطة في شرق آسيا، لأكثر من 3 مليارات شخص بحلول عام 2030، بينما ستحتضن الصين والهند فقط نحو ثلثي الطبقة الوسطى العالمية، بناء على بعض التقديرات التي ترى في بلدان آسيا والمحيط الهادئ، ما يدعم النمو في طبقتها المتوسطة بأكثر من 500% حتى عام 2030.
في بحث لمركز الجزيرة للدراسات كان لافتًا أن حجم الطبقة الوسطى في الكويت والإمارات وقطر، أكبر من نظيرتها في السعودية والبحرين وسلطنة عمان
بحسب هذه المعايير، تضم الطبقة الوسطى حاليًّا نحو 1.5 مليار في آسيا، بداية من الصين مرورًا بالدول التي شهدت ارتفاعًا كبيرًا في الناتج المحلي الإجمالي، على شاكلة الهند والفلبين وفيتنام وإندونيسيا وتايلاند وماليزيا، وهي بلدان تعيش اقتصاداتها الآن مرحلة نضج وارتفاع كبير في مستويات الدخل وتزايد مماثل للمنضمين إلى صفوف الطبقة الوسطى الذي أصبحوا يمتلكون بطاقات الائتمان والرهون العقارية، ولديهم خطط واضحة للتوفير وامتلاك الأسهم والسندات والعملات غير المحلية بما في ذلك الذهب.
أين الطبقى الوسطى الخليجية والعربية؟
قبل 5 أعوام، قدم مركز الجزيرة للدراسات بحثًا متقدمًا يرصد تقدم الطبقة الوسطى في الوطن العربي والخليج بشكل خاص منذ أواخر العام 2010، مع بداية بروز الحراك السياسي في المنطقة والاحتجاجات الشعبية الواسعة التي لم تعهدها من قبل، وكان لافتًا أن هناك شبه إجماع على تغذية هذه الاحتجاجات من الفئات الشابة للطبقة الوسطى العربية التي تصدرت مشهد الفعل الثوري القائم والمحتدم.
حاول البحث معرفة من أبناء الطبقة الوسطى، فاعتبر أنهم يمثلون بين 12% في السعودية و20% في البحرين وسلطنة عمان، وما يقرب من و35% في الكويت والإمارات، واستند البحث آنذاك على دراسة حديثة للبنك الدولي، كشف فيها أن رواتب العاملين بالقطاع الخاص السعودي هي الأدنى خليجيًا، كما أن ضعف حجم الطبقة الوسطى في عمان، يعكس اعتماد المقياس على العاملين في القطاع الخاص، حيث تتدنى رواتبهم أيضًا، وفي البحرين ترتفع نسبة العاملين في القطاع الخاص لنحو 89% من مجموع العاملين، مع تدني رواتبهم.
وصلت الدراسة إلى ضرورة الاتجاه إلى التنمية المستدامة القائمة على تنمية الاقتصاد، عبر تنمية بشرية حقيقية للمواطن الخليجي
كان لافتًا أن حجم الطبقة الوسطى في الكويت والإمارات وقطر، أكبر من نظيرتها في السعودية والبحرين وسلطنة عمان، وخلص البحث إلى أن الحفاظ على الطبقة الوسطى وتنميتها باستمرار، تحدٍ سياسي تنموي بالدرجة الأولى، وطالب بإيجاد حلول قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل لاستنهاض دور الطبقة الوسطى في دول المجلس، تعتمد على بناء دولة المؤسسات والمشاركة السياسية والشعبية وإطلاق الحريات السياسية، ضمن أطر معتدلة بعيدًا عن التزمت والتطرف، وتنمية قيم المواطنة والانتماء والوطنية والقومية والمساواة والحقوق والواجبات والوحدة الوطنية والتسامح وقبول الآخر.
وصلت الدراسة إلى ضرورة الاتجاه إلى التنمية المستدامة القائمة على تنمية الاقتصاد عبر تنمية بشرية حقيقية للمواطن الخليجي وتنويع مصادر الدخل وإدخال أنشطة أكثر إنتاجية وذات قيمة مضافة حقيقية للأفراد العاملين وليس فقط للمالكين لهذه الأنشطة.
وفي سياق مقارب، أنتج مركز دراسات الوحدة العربية، دراسة عن البنية الطبقية العربية، وأوضح لماذا تختلف وتتباين من قطر عربي إلى آخر، وخلص إلى أنها تصارع من أجل البقاء في معظم البلدان العربية، بما يمثل حاجة كبرى إلى الاعتماد على البحث العلمي الطبقي، ليس فقط من أجل الرصد، بل لكشف التحولات أيضًا، ووضع السيناريوهات والبدائل أمام صنّاع قرار التنمية في الوطن العربي.