حين عُرض فيلم “المليونير المتشرد”، الفائز بـ8 جوائز أوسكار لأول مرة عام 2008، حدثت العديد من النقاشات المتكررة بين النقاد والمشاهدين عن واقعية التصوير في تمثيل الهند وتساءل العديد ما إذا كانت مشاهد الفيلم نجحت بالفعل في تجسيد طبيعة هذا المجتمع وظروفه، فقد ركزت غالبية المشاهد على ظاهرة المتسولين والأحياء الملوثة وأعمال الشغب والانشقاقات الدينية.
ومن بين ردود الفعل، رأى البعض أن الفيلم الممول بأموال بريطانية وأمريكية عبارة عن “مجموعة من كليشيهات العالم الثالث المصورة لإمتاع جمهور العالم الأول”، فرغم أنه لم يختلق أحداثًا زائفة، فقد أظهر الهند، بالكامل، كموطن للجرائم والفقر المدقع والفساد، وحصرها في مدينة وطبقة واحدة، ما جعله يصدر صورة مبتذلة ومنقوصة عنها للعالم الخارجي، متجاهلًا التطور والتقدم الذي حققته البلاد في العقود الأخيرة، خاصةً إذا علمنا أنه بحلول عام 2050، ستصبح هذه الدولة واحدة من بين أكبر 5 اقتصادات في العالم، متجاوزةً بذلك المملكة المتحدة وفرنسا.
مشهد من فيلم “المليونير المتشرد”
أما المثير للدهشة بالفعل، هو ما يتم تداوله وحدوثه على الضفة الأخرى، وهو نمط حياة الأثرياء في الهند لا سيما فيما يخص بذخ وفخامة حفلات زفافهم، وما فيها من تفاصيل وتحضيرات باهظة، مثل نقل المدعوين بطائرات خاصة وتقديم المجوهرات والأحجار الكريمة لهم، ففي إحدى الحفلات وصلت تكلفة الدعوة الواحدة إلى 4 آلاف دولار أمريكي، وهو رقم كافٍ نسبيًا لتنظيم حفل كامل في بعض المناطق حول العالم، ومن هذه النقطة، نحاول في هذا التقرير التعرف على هذه الطبقة من المجتمع والتعمق في تفاصيل حياة مليارديراتها والعثور على إجابات عن أعدادهم والعوامل التي ساعدتهم في صناعة هذه الثروات وتنميتها بشكل هائل.
بإمكان الطبقة الثرية في الهند إلغاء جميع ديون الدولة
منذ التحرير الاقتصادي في الهند عام 1991، كان من الواضح جدًا النمو المستمر في ثروة الطبقة النخبوية وأصحاب الأعمال في البلاد الذين كانوا في المكان والوقت المناسبين للاستفادة من التغييرات والإصلاحات والسياسات الاقتصادية التي أقرتها الحكومة لتوسيع نشاطاتها واستثماراتها في الأسواق المحلية والأجنبية، ومنذ ذاك الوقت، وثقت التقارير معدلات النمو التي شهدتها الهند ومن أبرزها تحقيق البلاد أعلى معدل نمو في عدد الأفراد ذوي الدخل المرتفع أو الذين يمتلكون أصولًا واستثمارات لا تقل عن مليون دولار.
تأتي الهند في المرتبة الثالثة من حيث عدد المليارديرات بعد الصين والولايات المتحدة الأمريكية (الصين 819 شخصًا وأمريكا متقدمة بـ571 ملياردير والهند 121)
فوفقًا لتقرير “الثروة العالمية”، ارتفع عدد المليونيرات (من حيث القيمة الدولارية) في الهند بنسبة 20% إلى 263 ألف شخص عام 2017 وهو جزء صغير من إجمالي عدد سكان الهند، لكنه ساعد في ازدهار أسواق الأسهم المحلية، علاوة على ذلك، نمت ثروة هؤلاء الأفراد بنسبة 21% إلى أكثر من تريليون دولار(بإمكانهم إلغاء جميع ديون الهند العامة إذا أردوا)، وذلك مقارنة مع 11% من النمو العالمي لإجمالي ثروات أصحاب هذه الطبقة.
وبحسب قائمة “هورون لأثرياء العالم” الصينية فإن الهند تحتل المركز الثاني من حيث سرعة نمو عدد المليارديرات في العالم، فلقد انضم 31 ملياديرًا العام الماضي إلى هذه الفئة مقارنة بـ210 في الصين، كما تأتي الهند في المرتبة الثالثة من حيث العدد بعد الصين والولايات المتحدة الأمريكية (الصين 819 شخصًا وأمريكا متقدمة بـ571 ملياردير والهند 121)، علمًا أن أكبر عدد من المليارديرات في الهند يعملون في قطاع المستحضرات الصيدلانية أو الأدوية والسيارات والمنتجات الاستهلاكية.
73% من إجمالي ثروة البلاد المجمعة خلال عام 2017 يمتلكها 1% فقط من أغنياء الهند
ومن أهمهم من تم اعتباره عام 2012 ثاني أغنى رجل في آسيا، وهو موكيش أمباني، رئيس شركة “ريلاينس إنداستريز” الذي تقول مجلة فوربس الأمريكية إن ثروته التي ورثها عن أبيه، دهيروبهاي، تبلغ نحو 48 مليار دولار، بعد أن عاش سنوات طويلة في الفقر ونجح في تأسيس أكبر شركة في العالم لإنتاج الألياف وخيوط بوليستر، مشكلةً بذلك 15% من إجمالي صادرات الهند، وتحولت فيما بعد إلى صناعة البتروكيماويات وتكرير البترول ومن ثم إلى نشاطات استكشاف البترول والغاز، كما ركزت جزئيًا على مبادرات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
وعلى الرغم من أن أمباني لا يزال أثرى رجل هندي، فإن غوتام أداني أحد أثرياء الهند الذين يرون نموًا هائلاً في الثروة التي نمت بنسبة 109% لتصل إلى 14 مليار دولار مقارنةً مع ارتفاع ثروة أمباني بنسبة 73% لتصل إلى 45 مليار دولار، وبصفة عامة تشير هذه النسب إلى مشكلة جذرية في معدلات الدخل في الهند، فبحسب ما نشرته منظمة أوكسفام، فإن 73% من إجمالي ثروة البلاد المجمعة خلال عام 2017 يمتلكها 1% من أغنياء الهند، ما ضاعف ثروة الصفوة الغنية في المجتمع الهندي في الوقت الذي يكافح فيه الملايين من نفس المجتمع من أجل البقاء على قيد الحياة.
من أين جلبوا هذه الثروات؟
بحسب ما تشير إليه التقديرات، فإن هناك 70 مليارديرًا عصاميًا مقابل 30% ممن ورثوا أموالهم عن عائلاتهم، وبعض الإحصاءات الأخرى تذكر أن 5% من الأشخاص الأثرياء في الهند بنوا أنفسهم وثرواتهم بمساعدة آبائهم، بينما ورث 9% شركات صغيرة ونجحوا في تحويلها إلى ممالك تجارية عظيمة، وغالبًا ما يعيش الكثير منهم في العاصمة الاقتصادية للبلاد، مومباي التي تعد مركزًا لنحو 28% منهم.
ووفقًا لمجلة فوربس فإن القيمة الإجمالية لثروة أغنياء الهند هي 440 مليار دولار، ولم يكن ليتحقق هذا الرقم لولا النمو الاقتصادي الذي حققته الهند في مرحلة من المراحل وساعدت النخبة الغنية الجديدة في الهند لاكتساب المزيد من الأموال بسرعة أكبر من نظيراتها في أي بلد تقريبًا في التاريخ، عدا عن كون الهند مجتمعًا طبقيًا بطبيعته ومعروف تاريخيًا بانقساماته الطبقية والعرقية والدينية لا سيما خلال العقود الثلاث الأخيرة.
رغم ارتباط هذه الطبقة بفضائح الفساد، فإنها كانت مدفوعة أيضًا بالإصلاحات الاقتصادية المحلية التي أزالت العديد من القواعد والقيود والتعريفات على حركة التجارة والاستثمار
ومع ذلك كان الانفجار الاستثنائي للثروة في منتصف التسعينيات، عندما ظهر 2 من الهنود في قائمة المليارديرات السنوية من مجلة فوربس ومن ثم تضاعف عدد المشاركات إلى 84 شخصًا في القائمة، وبحسب البنك الدولي، وصلت الصين هذا المستوى من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2006، لكن الهند حققت 8 أضعاف الصين في نفس المرحلة من التطور.
أثرى عائلة في الهند تبني أطول مبنى سكني في مومباي
ورغم ارتباط هذه الطبقة بفضائح الفساد، فإنها كانت مدفوعة أيضًا بالإصلاحات الاقتصادية المحلية التي أزالت العديد من القواعد والقيود والتعريفات على حركة التجارة والاستثمار في قطاع البنوك والاتصالات والفولاذ، وبالتالي بدأت صفوف الأثرياء في الهند بالاستطالة والتضخم، وفي الجهة الأخرى، عصف هذا النمو والازدهار الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية بين طبقات المجتمع، تاركًا خلفه صدمة وطنية مدمرة للطبقات الدنيا، لا سيما أن ناطحات السحاب ومبانيهم السكنية التي وصلت تكلفتها نحو مليار دولار، تلوح من فوق لسكان الأحياء الفقيرة.
يرى الخبراء أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء ستتسع في السنوات المقبلة بشكل أكثر تعقيدًا، فكلما اقتربت الهند من تحقيق طموحاتها في النمو الاقتصادي زادت الفجوة حدةً، ما قد يسبب توترات مستقبلية بين الأثرياء والفقراء
يضاف إلى ذلك، الأرض الخصبة التي أسسها النظام القديم في الهند، مما أجبر المواطنين والشركات على حد سواء على دفع رشاوى لا تعد ولا تحصى مقابل الخدمات الحكومية الأساسية، لكن هذه المشاكل لا تزال تافهة مقارنة مع الفضائح الكبرى التي ظهرت خلال الـ10 سنوات الماضية التي تقدر بمليارات الدولارات ويتبادلها كبار رجال السياسة والبيروقراطيين للحصول على مشاريع بناء طرق وبنايات وغيرها من المشاريع التي تتجاوز القواعد البيئية.
وذلك فضلًا عن أن العديد من السياسيين أصبحوا أثرياء بشكل مذهل ولا يتم عادةً إدراج أسمائهم في قائمة فوربس للأثرياء بسبب إخفائهم إياها عن أعين الرأي العام في البنوك الأجنبية، وبشكل عام، فإن أصحاب الشركات والمشاريع في قطاع الخاص هم من يسيطرون على ثروة الهند ويديرونها بشكل يتناسب مع مصالحهم، وتبعًا لذلك، يرى الخبراء أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء ستتسع في السنوات المقبلة بشكل أكثر تعقيدًا، فكلما اقتربت الهند من تحقيق طموحاتها في النمو الاقتصادي زادت الفجوة حدةً، ما قد يسبب توترات مستقبلية بين الأثرياء والفقراء.