خلال الأسابيع الماضية، تصدر حي المزة الدمشقي أخبار القصف الإسرائيلي في سوريا، بعد أن كانت تلك الغارات تتوجه أكثر نحو منطقة السيد زينب، جنوبي العاصمة السورية، والتي تعد بمثابة “النسخة السورية”، من ضاحية بيروت الجنوبية.
كان التطور الأبرز في دخول حي المزة واجهة الأحداث على الرقعة السورية، حين أسفر قصف إسرائيلي، في مطلع أبريل/نيسان الماضي عن مقتل قائدين في الحرس الثوري الإيراني، و5 مستشارين عسكريين آخرين، بينهم محمد رضا زاهدي القيادي الكبير في “فيلق القدس”.
ومنذ بدء الحرب في لبنان في سبتمبر/أيلول الماضي، تعرض حي المزة لعدة ضربات إسرائيلية، استهدفت مسؤولين في “حزب الله”، في إطار تحول سوريا إلى “أرض صيد”، وفق تعبير صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، في إشارة إلى مطاردة عناصر أو قيادات من الحزب أو من فصيل “الجهاد الإسلامي”.
ويعد حي المزة، واحدًا من أهم أحياء دمشق الحديثة، ويقع على سفح جبل المزة بامتداد نحو الغرب، وهو مدخل العاصمة من الجهة الغربية الجنوبية، ووفقًا لموقع “الموسوعة الدمشقية”، فإن الحي نشأ زمن الوحدة بين سوريا ومصر في خمسينيات القرن الماضي، وأقيم فيه أوتوستراد كبير في الثمانينيات، كان في الأساس مهبطًا للطائرات الرابضة في مطار المزة العسكري، الذي كان المطار الرئيسي للعاصمة قبل إنشاء مطار دمشق الدولي الحالي في الستينيات، كما أقام الفرنسيون فيه سجن المزة الشهير، ومعه “المقبرة الفرنسية” التي كانت تقع غرب “ملعب الجلاء”.
ويمتد الحي على مساحة تقارب 7800 هكتار، تبدأ من ساحة الأمويين شرقًا، حتى منطقة السومرية غربًا، ومن جبل المزة شمالًا، إلى حي كفرسوسة جنوبًا، وكان في الأساس قرية من قرى غوطة دمشق، بحسب موقع “دمشق القديمة”، وسكن بها عدد كبير من الصحابة والعلماء، وقال عنها الرحالة الشهير ابن بطوطة: “وهي من أعظم قرى دمشق. بها جامع كبير عجيب، وسقاية معينة”، فيما وصفها الرحالة ابن جبير بأنها “قرية كبيرة، وهي من أحسن القرى”.
أهمية حيوية وأمنية
وفي العصر الحديث أصبح حي المزة أحد أهم أحياء دمشق الراقية، إذ يحوي العديد من المباني الحديثة والأبراج السكنية العالية والشوارع الفسيحة والجسور والأنفاق، والعديد من المراكز التجارية والمولات الحديثة والمدن الرياضية كمدينة الجلاء ومدينة الشباب، كما يضم تجمعًا من الكليات الكبيرة التابعة لجامعة دمشق، والمدينة الجامعية الكبيرة، وينقسم إلى عدة مناطق، هي: مزة شيخ سعد، مزة جبل، مزة أوتوستراد، مزة فيلات غربية، مزة فيلات شرقية، إضافة لمساكن “مزة 86” التي أخذت اسمها من الكتيبة 86 في المنطقة نفسها، وأكثر سكان تلك المساكن من الضباط والعسكريين الوافدين للعاصمة من عدة محافظات، ويخدمون في تلك الكتيبة.
وإضافة للأهمية التاريخية لحي المزة، اكتسب أهمية حيوية وأمنية مع إنشاء عدد من الوزارات والسفارات فيه، كما يضم مجمع المحاكم، و”قصر الشعب” الذي بناه رئيس النظام السوري السابق حافظ الأسد في الثمانينات على جبل المزة، كما أن الحي يلاصق من جهته الجنوبية منطقة المربع الأمني في حي كفرسوسة المجاور.
بعد اندلاع الثورة السورية بأشهر قليلة، برز اسم حي المزة في واجهة الأخبار، مع خروج مظاهرات شعبية حاشدة ضد نظام الأسد، واجهتها قوات الأمن بالرصاص الحي، ما أدى حينها إلى سقوط قتلى وجرحى في صفوف المتظاهرين، وبحكم الأهمية الإدارية والدبلوماسية والأمنية في الحي، فقد زج نظام الأسد حينها بأعداد كبيرة من عناصر الأمن والشرطة و”الشبيحة” لمنع تكرار المظاهرات وإخماد الحراك الشعبي فيه.
وارتبط اسم حي المزة، قبل الثورة السورية، بأنه – مع حي كفرسوسة المجاور – المكان المفضل للسكن عند قيادات الفصائل الفلسطينية، سواء حركة فتح أو حركة حماس والجهاد الإسلامي، إضافة إلى وجود عدد كبير من الموظفين والمستشارين الإيرانيين، وذلك لما يشكله الحيان المتجاوران من حماية أهمية عالية، وكثافة سكانية تساعد على عدم معرفة هوية القاطنين، ورغم ذلك، فقد استطاع الموساد الإسرائيلي في عام 2008، الوصول إلى القيادي الكبير في “حزب الله”، عماد مغنية، واغتياله في منطقة تقع بين المزة وكفرسوسة.
تغلغل إيراني قديم
إن الوجود المرتبط بإيران في الحي وأذرعها ليس جديدًا، ويعود لسنوات ما قبل الثورة، وفقًا للمحلل الأمني والعسكري العقيد إسماعيل أيوب، الذي يقول لـ”نون بوست”، إن وجود السفارة والقنصلية الإيرانية في حي المزة جعله سكنًا للسفير والموظفين الإيرانيين، فيما زاد حجم التغلغل الإيراني فيه بعد اندلاع الثورة، وتدخُل إيران بشكل مباشر في قمعها، ويؤكد محللون أمنيون أن الاختيار الإستراتيجي الإيراني لمنطقة المزة، يوفر مزايا لوجستية وقربًا من المرافق العسكرية، وبالتالي تمكين هذه القوات من المناورة داخل دمشق.
ولم يرتبط التغلغل الإيراني في حي المزة بالجانب الأمني والعسكري والدبلوماسي فقط، إنما ارتبط الحي – مثله مثل مناطق سورية كثيرة – بما وُصف بأنه “تغيير ديمغرافي ممنهج” اتبعته إيران بتسهيلات كبيرة من السلطات السورية. وفي مقال لها عام 2015 تحت عنوان “إيران تشتري سوريا”، سلطت صحيفة “الغارديان” البريطانية الضوء على مصادرة أراضٍ واسعة في منطقة المزة، لبناء مشروع سكني إيراني كبير قرب السفارة.
وحينها وجه موظفو محافظة دمشق بمساندة من دورية من عناصر فرع الأمن العسكري 215، إنذارًا لإخلاء مئات العوائل والأهالي القاطنين في حي البساتين شرق حي المزة، وتم إعطاؤهم مهلة شهرين لتسليم بيوتهم لقوات النظام لهدمها، وتنفيذ تنظيم جديد لمشروع “أبراج إيرانية” خلف بناء السفارة الإيرانية، يغير معالم وتركيبة السكان في المنطقة.
فيما كشفت “الهيئة العامة للثورة السورية” منتصف العام 2015، أن المشروع الإيراني المسمى “الحزام الأخضر” يعمل على تغيير ديموغرافية جنوب دمشق، بما فيها حي المزة والسيدة زينب والذيابية والشاغور، بالإضافة إلى أحياء داخل دمشق، وذلك بإسكان المليشيات التي استقدمتها إيران للقتال إلى جانب النظام محل سكان هذه المناطق.
“أخطر من الضاحية الجنوبية”!
في مقابل السعي الإيراني خلال سنوات الثورة، لتحقيق أكبر قدر من التغلغل في حزام مدينة دمشق، ولا سيما محيط السفارة في حي المزة، فقد أدت الاستهدافات الإسرائيلية، منذ أبريل/نيسان الماضي، إلى موجة من “النزوح الصامت” في الحي، خوفًا من القصف الذي بدأ يأخذ طابعًا عشوائيًا، ويؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين.
وأسفرت رغبة المدنيين في ترك منازلهم بحي المزة، عن تدنٍ كبير في قيمة العقارات هناك، رغم أن بعض مناطق الحي تُعد من بين “الأرقى” في العاصمة السورية، وأصبحت الكثير من المنازل تُعرض للبيع بأسعار أقل من قيمتها الحقيقية بسبب عزوف المشترين عن الشراء في منطقة مهددة، فيما يؤكد بعض سكان المزة أنهم يعيشون تحت ضغط نفسي مستمر، مع تزايد المخاوف من انفجار جديد في أي لحظة.
السيد “مروان. ع” (48 عامًا) هو من سكان المنطقة الواقعة خلف مشفى المواساة في حي المزة، ورغم أنه يقطن في الحي منذ مدة تقارب الـ20 عامًا، فإنه وضع منزله قيد البيع، بسبب القلق والتوتر المستمر.
يقول مروان لـ”نون بوست”، إن حالة الهدوء التي كانت أزقة حي المزة تتمتع به في السابق “قد انتهت تمامًا”، ويضيف: “يحلو للبعض تشبيه حي المزة مؤخرًا بضاحية بيروت الجنوبية، الواقع أن وضع ضاحية بيروت أفضل من وضعنا، لأن السكان هناك يتلقون إنذارات بالإخلاء قبل القصف، أما نحن فنجد أنفسنا فجأة تحت النيران.. يشبه الأمر تمامًا أن تسكن فوق صدع زلزالي نشط دائمًا”.
ويوضح أن غالبية السكان في الحي باتوا يشعرون بخطر يُحيط بهم في أي لحظة، بسبب وجود ما أسماه “الكثير من الغرباء الذي يسكنون بيننا دون أن نعلم”.
كيف يحدث الاختراق الأمني؟
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه مع كل استهداف لقيادات تابعة للحرس الثوري أو “حزب الله” أو حركة الجهاد الإسلامي في حي المزة هو: كيف تحصل “إسرائيل” على هذا الحجم من الخرق الأمني في منطقة يُفترض أنها “الأكثر تحصينًا” في دمشق، مع وقوع المربع الأمني في خاصرتها الجنوبية، ووجود عدد كبير من السفارات والوزارات، ووجود السفارة والقنصلية الإيرانية في الأوتوستراد الرئيسي للحي؟
في الإجابة عن هذا السؤال، يقدم العقيد إسماعيل أيوب عدة فرضيات، من بينها كثرة “الجواسيس والأعين المخابراتية في جميع أنحاء سوريا، لا سيما في المناطق التي يُتوقع فيها انتشار القادة والعسكريين الموضوعين ضمن بنك الأهداف الإيرانية”.
وإضافة إلى ذلك، يتابع أيوب، أن مفهوم المراقبة الأمنية الحديثة لدى أجهزة المخابرات، بات أكثر تطورًا مع تقدم تكنولوجيا الاتصالات وارتباطها المباشر بالأقمار الصناعية، وبالتالي فإن “وسائل الاتصال في الشرق الأوسط جميعها مصنعة لخدمة إسرائيل، وتستطيع إسرائيل عن طريق اختراق موجات الاتصال في سوريا، معرفة كل ما تريد عن الشخصية المُراد استهدافها، دون الحاجة أصلًا لوجود جواسيس على الأرض”، وفق تعبيره، ويضرب مثلًا على ذلك أن المخابرات الإسرائيلية استطاعت الإيقاع بآلاف العناصر من “حزب الله” في لبنان، في وقت واحد، عن طريق تفجير أجهزة “البيجر” في سبتمبر/أيلول الماضي.
ورغم أهمية الاختراق عبر الجواسيس أو تكنولوجيا الاتصالات، لا يستبعد أيوب، وجود نوع من التنسيق الاستخباراتي بين الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد و”إسرائيل”، “للتخلص من شخصيات معينة مقابل تسويات معينة”، لا سيما أن كبار ضباط النظام يمكن إغراؤهم بالمال مقابل تقديم معلومات استخباراتية معينة، وفقًا لتعبيره.