يشهد العراق إجراء التعداد السكاني العامّ الأول من نوعه منذ نحو ثلاثة عقود، وسط أجواء استثنائية تشمل فرض حظر تجوال واستنفار شامل على مستوى الدولة.
تكمن أهمية هذا التعداد في تقديم صورة دقيقة عن التركيبة السكانية والاقتصادية للبلاد، وهو ما سيكون له تأثيرات مباشرة على التمثيل السياسي وتوزيع الموارد والخدمات، ومع ذلك تثار تساؤلات حول مصداقية النتائج وضمانات نزاهتها في ظل الظروف السياسية الحالية.
أهمية بالغة
يلعب التعداد السكاني دورًا محوريًا في تحديد هوية المجتمع العراقي، فهو لا يقتصر على معرفة العدد الإجمالي للسكان، بل يمتدّ إلى تحليل التركيبة الديموغرافية والدينية والقومية وغيرها من البيانات الأساسية، لصياغة السياسات العامة وتخطيط التنمية الوطنية.
وانطلقت عملية التعداد العام للسكان على مدى يومَي 20 و21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وسيشمل جميع المحافظات بما في ذلك إقليم كردستان، ويهدف إلى توفير بيانات دقيقة وشاملة عن عدد السكان، وتوزيعهم الجغرافي، ومستويات المعيشة.
وقال رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، إن التعداد السكاني “خطوة حضارية وتنموية هامّة”، مشددًا على “عدم الإنصات للشائعات التي تبعدُ التعداد عن أغراضه التنموية، عبر ربطه بقضايا تتعلق بالضرائب، أو الحماية الاجتماعية”.
فيما وصفه رئيس مجلس النواب العراقي، محمود المشهداني، بأنه “فرصة تاريخية لتوثيق واقع البلاد الاجتماعي والاقتصادي”.
وقال المتحدث باسم فريق الإعلام الحكومي، حيدر مجيد، لـ”وكالة الأنباء العراقية (واع)”، إن “التعداد سيزوّد وزارة التخطيط ببيانات دقيقة عن حجم السكان وتوزيعاتهم الجغرافية، ما سيسهم في وضع خطط استراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب تحديد الاحتياجات الأساسية من الخدمات في مختلف القطاعات”.
من جانبه، أكّد المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي، لـ”وكالة الأنباء العراقية”، أن “هناك لجنة استشارية دولية شُكّلت من قبل صندوق الأمم المتحدة للسكان، تضمّ نخبة من كبار خبراء الإحصاء والتعداد، مهمتها متابعة جودة العمل وضمان تطبيق المعايير العالمية، في إجراء التعداد العام للسكان”.
ونقلت صحيفة الصباح الرسمية عن متحدث وزارة التخطيط قوله، أن تكلفة التعداد بلغت 459 مليار دينار (نحو 351 مليون دولار) وبمشاركة 120 ألف باحث.
تأثير سياسي
ومن المرجّح أن يكون للتعداد أثر كبير على توزيع مقاعد البرلمان والمجالس المحلية، فمدن مثل الموصل التي كان تعداد سكانها سابقًا يقدَّر بـ 1.8 مليون نسمة، يُعتقد أنّ سكانها تجاوزوا الـ 5 ملايين، ما يعني زيادة عدد نوابها في البرلمان بشكل كبير، وهذا التغيير سيمتدُّ ليشمل محافظات أخرى، ما قد يعيد رسم الخريطة السياسية في العراق.
ويرى أستاذ الجغرافية السياسية المساعد في الجامعة المستنصرية، الدكتور مثنى مشعان المزروعي، أن التعداد السكاني يُعدّ من الإجراءات الحيوية التي تعكس تطور المجتمعات، حيث يوفّر بيانات دقيقة تساعد في التخطيط السليم لجميع القطاعات التنموية في الدولة.
وفي حديثه مع “نون بوست”، يشير المزروعي إلى أن التعداد السكاني يسهم بشكل مباشر في التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويوفّر معلومات ضرورية حول السكان مثل أعمارهم وأنواعهم وتركيبتهم الديموغرافية.
وينوّه المزروعي إلى أن عدم إجراء تعداد منذ عام 1997 أدّى إلى خلل كبير في التخطيط التنموي، حيث تُبنى الخطط الحالية على إسقاطات سكانية غير دقيقة، تزيد نسبة الخطأ فيها عن 200%، ما ينعكس سلبًا على إدارة الموارد وتطوير القطاعات المختلفة، مثل النقل والخدمات والزراعة والتجارة وغيرها.
ويعرب المزروعي عن أمله في أن تسهم نتائج التعداد في وضع استراتيجيات تنموية شاملة تشمل قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات، ما ينعكس إيجابًا على حياة المواطنين ومستقبل الدولة العراقية بشكل عام.
بدوره، يقول الباحث الأكاديمي والمحلل السياسي بشار العكيدي، إن مثل هذه الإحصائيات توفّر للحكومة العراقية أداة فعّالة لتوزيع الدخول والمشاريع والموازنات بين المحافظات، بشكل يتناسب مع الاحتياجات والمتطلبات الفعلية لكل محافظة، بالإضافة إلى تحديث خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
وينوّه العكيدي في حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن أهمية التعداد لا تقتصر على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية فقط، بل تشمل الجوانب السياسية أيضًا، فالعراق كبلد برلماني يعتمد في إدارة شؤونه على البرلمان، يحتاج إلى تحديد التمثيل البرلماني الحقيقي لكل محافظة.
مخاوف من التلاعب
من القضايا المثارة بقوة خلال التعداد هو موضوع التجنيس، إذ يدور الحديث عن منح الجنسية لوافدين من عدة دول، وهذا يثير مخاوف من تغيير التركيبة السكانية بهدف تحقيق مكاسب سياسية وطائفية، وهو ما يزيد الضغط على الحكومة لضمان الشفافية.
وتشير بعض التقارير إلى تجنيس أعداد كبيرة من الإيرانيين والباكستانيين والأفغان منذ عام 2003، ما يضيف تعقيدات إضافية إلى مصداقية التعداد السكاني.
واتهم عضو مجلس محافظة نينوى عن كتلة “بابليون” ربيع يوسف، الحزب الديمقراطي الكردستاني بإدخال آلاف السوريين الأكراد والأتراك والإيرانيين وإسكانهم في المناطق المتنازع عليها، ومنحهم أوراقًا ثبوتية ومستمسكات عراقية من أجل كسب أصواتهم وزيادة عدد الكرد في تلك المناطق.
وحذّر يوسف في تصريح تلفزيوني من أن “الحزب الديمقراطي أدخل آلاف الأكراد من دول الجوار وأسكنهم في المناطق المتنازع عليها، وذلك سيؤثّر سلبًا على نتائج التعداد السكاني، وسيؤثّر على طبيعة تلك المناطق، لا سيما أن الغرض من وجود هؤلاء هو التغيير الديموغرافي”.
وردًّا على ذلك، نفى النائب عن الحزب الديمقراطي الكردستاني شيروان الدوبرداني، صحّة تلك المعلومات، مؤكدًا أن “بعض الجهات المسلحة تحاول بسط نفوذها وهيمنتها على المناطق المتنازع عليها، وتحاول الترويج لبعض الأكاذيب، ومنها وجود عمليات تغيير ديموغرافي لصالح الكرد، وتلك المعلومات عارية عن الصحة ولا أساس لها”.
نموذج لاستمارة التعداد السكاني باللغة العربية (الجهاز المركزي للإحصاء)
ويشير العكيدي إلى وجود مخاوف تتعلق بتغيير ديموغرافي محتمل في بعض المناطق والمحافظات، من خلال تجنيس فئات جديدة، ويحذّر من أن هذه القضية، إن صحّت، قد تنعكس بصورة سلبية على التمثيل البرلماني للمحافظات، ما قد يخلق تفاوتًا لصالح بعض المناطق على حساب أخرى، ويؤدّي إلى حالة من الانقسام الاجتماعي وعدم الثقة بين المواطنين والحكومة.
ويشدد العكيدي على ضرورة مراعاة وضع النازحين واحتسابهم بناءً على مناطق سكناهم الأصلية وليس أماكن نزوحهم، مع الالتزام بإعلان النتائج النهائية بشفافية تامّة لضمان قبولها.
ويؤكد أن مصداقية التعداد السكاني وقبوله لدى أبناء الشعب العراقي يعتمدان بشكل كبير على التعاون الفعّال بين جميع فئات المجتمع من جهة، والتزام الحكومة بمعايير الشفافية من جهة أخرى، وينوّه إلى أهمية تسهيل عمل فرق الإحصاء وتقديم المعلومات الدقيقة لها.
من جانبه، ينوّه المزروعي إلى وجود ارتباط وثيق بين التعداد السكاني والنظام السياسي في العراق، موضحًا أن نتائج التعداد تؤثّر بشكل مباشر على الانتخابات، وتقسيم الدوائر الانتخابية، ورسم خارطة الكتل والأحزاب السياسية داخل البرلمان.
وحول مسألة تجنيس غير العراقيين، يرى المزروعي أن تأثير هذه الفئة على التعداد السكاني والعملية السياسية محدود للغاية، إذ إن أعدادهم صغيرة وغير قادرة على إحداث تغيير كبير في الخارطة السكانية أو السياسية، خاصة أن التعداد لا يتناول الجوانب الإثنوغرافية (الدين، المذهب، القومية) بشكل واضح.
ويؤكد المزروعي أن الوثوق بنتائج التعداد ممكن، خاصة إذا التزمت الجهات المعنية بالشفافية والمهنية، مشيرًا إلى أن غياب التداخلات السياسية في عملية التعداد يُعدّ ضمانة إضافية لدقّته.
المناطق المختلطة
تشكّل المناطق المتنازع عليها بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان واحدة من أعقد القضايا التي تواجه التعداد السكاني في العراق، وتبرز هذه المناطق، مثل محافظة كركوك وسهل نينوى وأجزاء من محافظة ديالى، كأرضية خصبة للتوترات السياسية والاجتماعية، بسبب تركيبتها السكانية المختلطة التي تضمّ العرب والأكراد والتركمان والمسيحيين.
ورغم مطالبات إقليم كردستان بتأجيل التعداد في هذه المناطق، بسبب الظروف الحالية التي قد تؤثر على النتائج بشكل لا يعكس الواقع الديمغرافي، غير أن هذه الدعوات قوبلت بالرفض من قبل الحكومة المركزية، التي أكدت أن التعداد سيمضي قدمًا وفق الخطط المقررة.
ويمثل إجراء التعداد في هذه المناطق تحديًا مزدوجًا: فمن جهة قد تعكس نتائجه تأثيرات ديموغرافية على مسار المفاوضات السياسية بشأن مصير المناطق، ومن جهة أخرى قد تشكّل مصدرًا جديدًا للتوتر إذا طُعن في مصداقيتها من قبل أي طرف.