“الجميع يولد في الجنة لكن البعض يكبر في الجحيم، مثلي أنا” مسلم جورسيس
بطفل أعياه التعب من الجري في طريق ريفي أفقده هول الحدث جماليته الخضراء ليتحول بحركة ذكية من المخرج إلى فضاء ممتد متآمر على الطفل الذي بدا وحيدًا، متعبًا، محني الظهر وهو يحاول إخبار والده بوفاة شقيقه الأصغر، ليرسل الأب حفنة من التراب تصبح كالجبل على كاهل الطفل المتعب يضعها على قبر أخيه.
بالسعي والتعب والوحدة بدأ الفليم، ليكون تلخيصًا مكثفًا لحياة مسلم جورسيس (اسم عائلته الأصلي أكباش) الذي سوف يقضي حياته في سعي وراء سعادة لا تأتي وحياة أثقلتها الذكريات التي شاءت الأقدار أن يشاركها مع ملايين المستمعين والمعجبين الذين وجدوا في صوته وصورته وشخصه أبًا لحزنهم واغترابهم في مدن الحداثة التركية.
مسلم الصغير وهو يحاول إيصال حفنة التراب التي أرسلها والده ليضعها على قبر أخيه
من حدائق الشاي الفسيحة في ريف الأناضول إلى حانات إسطنبول ومسارحها المكتظة، يسرد فيلم “مسلم بابا” سيرة وحياة فنان اختلطت فيها سردية فن بحياة فنان، فلا يوجد أفضل من حياة مسلم بابا كنموذج يمثل السردية التي نشأ منها فن الأربيسك، فلو كان الأربيسك بشرًا، لم يكن ليتجسد بهيئة وملامح وحياة أفضل من هيئة وملامح وحياة مسلم.
ولد مسلم أكباش في مدينة شانلي أورفه للعام 1953، لعائلة مكونة من والده محمد أكباش ووالدته أمينة أكباش وأخويه أحمد وزينو
منذ بداية عرضه في شهر أكتوبر الماضي، حقق الفيلم نجاحات كبيرة على مستوى المشاهدين والإيرادات، إذ بلغت إيراداته أكثر من 80 مليون ليرة تركية، في حين شاهده ما يقرب من 6.5 مليون مشاهد، الفيلم من إنتاج شركة دجتل صناتلار المنتجة لفيلم “أيلا” الحائز على لقب أفضل فيلم باللغة الأجنبية في الأوسكار، وإخراج جان أولكاي مخرج فيلم أيلا بالاشتراك مع هاكان كيركافاش، وسيناريو هاكان جونداي وجورهان أوزتشفتجي، وشارك في بطولة الفليم شاهين كينديرجي الذي لعب دور مسلم جورسيس الفتى، وتيموتشن إيسان الذي لعب دور مسلم جورسيس البالغ كما قام بدور رئيسي في الموسيقى التصويرية الخاصة بالفليم حيث غنى 14 أغنية لمسلم جورسيس، (خلال العمل على الفيلم، اضطر إيسان للسفر إلى الولايات المتحدة حيث تدرب وعمل مع فنانين عالميين).
كما شارك في البطولة عدد من الأسماء الكبيرة كأركان جان بدور المعلم علي ليمونجو، زيرين تكيندور بدو محترم نور، بالإضافة إلى الممثل تورجت تونتشالب في دور محمد أكباش والد مسلم جورسيس وغيرهم من نجوم السينما التركية.
تريلار الفيلم
من شانلي أورفة إلى أضنة.. هجرة وموسيقى
“في طريق ضيق وطويل
أسير ليل نهار
بأي حال أسير: لا أدري
لكني أسير ليل نهار”
أغنية طريق ضيق وطويل من أداء الفنان الشاب شاهين كينديرجي
ولد مسلم أكباش في مدينة شانلي أورفة للعام 1953، لعائلة مكونة من والده محمد أكباش ووالدته أمينة أكباش وأخويه أحمد وزينو، هاجر مسلم برفقة عائلته إلى مدينة أضنة التي ما إن أنهى فيها دراسته الابتدائية حتى ترك الدراسة، ليبدأ بعدها بالعمل كخياط وإسكافي، ومنذ عام 1965، بدأ مسلم في الغناء في حدائق الشاي (أماكن يجتمع فيها الأتراك لشرب الشاي والتسامر تشبه القهاوي العربية)، وفي العام 1967 استطاع مسلم جورسيس الفوز بمسابقة غنائية نُظمت في مدينة أضنة، فرغم المعارضة الشديدة التي أبداها والده الذي قام قبيل المسابقة بقص شعره عقابًا له، لكن ابن الـ14 عامًا أبهر بصوته الشجي جمع المستعمين، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة الشاب مسلم دشنها بالغناء بشكل أسبوعي في ردايو تشكوراوفا وصولًا إلى تسجيل أول أسطوانة تحمل اسمه الفني الجديد الذي أصبح مسلم جورسيس، وجورسيس كلمة تعني الصوت الجهوري.
مسلم أكباش وأمه أمينة وأخيه أحمد وأخته زينو
لعب الممثل شاهين كينديرجي دور مسلم الفتى الذي نراه تقريبًا يجري طيلة الفيلم، تارة هاربًا من سطوة والده، وتارة يجري خلف المنادي الذي يعلن عن مسابقة غنائية، وفي إحدى مرات هروبه الدائمة من بطش والده وجد الفتى نفسه في مركز شعبي لتعليم الموسيقى، حيث أخذته ألحان الساز والعود ليجد نفسه كالدرويش في حضرة شيخه، وهناك، وبينما كان مأخوذًا بعذوبة الموسيقى، تصادف مسلم مع المعلم علي ليمونجو الذي جسد دوره الفنان التركي القدير إيركان جان الذي اقتاد مسلم الصبي إلى عالم الغناء والاحتراف، وزرع في ذهنه تعاليم الموسيقى والغناء.
شاهين كيندرجي (مسلم الفتى) مع الممثل التركي إركان جان (المعلم ليمونجو)
لم يكن دور شاهين منحصرًا بالتمثيل، بل شارك في الموسيقى التصويرية الخاصة بهذه المرحلة من الفيلم، حيث غنى عددًا من الأغاني الشعبية “التوركو” التي اعتاد مسلم غنائها في حدائق الشاي وإذاعة تشكورأوفا، الجدير بالذكر أن شاهين على أرض الواقع تلميذ لابن المعلم علي الذي تتلمذ جورسيس على يده.
أغنية “هيا إلى أضنة”
أضنة.. لا مكان للفرح، فاجعة وهجرة
“هل عليّ أن أخسر دائمًا؟
هل عليّ أن أسحق دائمًا؟
في قلبي احتجاج على هذا الكذب والبهتان”.
أغنية لدى اعتراضي، من أداء الممثل تيموتشن أيسن
يوم سعيد يقضيه مسلم وعائلته، على خلاف المسار العام للفيلم، لينتهي هذا اليوم بفاجعة ومأساة، حيث تتفاجأ العائلة بعودة الأب إلى المنزل بعد غياب، وبموسيقى تصويرية متسارعة وجو ماطر يزيده صوت الرعد ووميض البرق رعبًا، يقوم الأب بقتل زوجته وابنته الرضيعة أمام عيني مسلم وأخيه أحمد، كأن الفرح والسعادة لا مكان لهما في حياة مسلم.
شكلت هذه الحادثة نقطة تحول في حياة مسلم، ففي حين دخل الأب السجن، ترك مسلم مدينة البدايات والحزن أضنة، ليبدأ على خطى من سبقه من الفنانين بالرحيل إلى الغرب، حيث الحداثة والاغتراب.
لم تتنه مأساة مسلم مع مدينة أضنة، ففي عام 1970 وفي أثناء عودته من حفل موسيقي تعرض لحادث خطير توفي على إثره سائق السيارة وتعرض هو لجروح خطيرة حمل ندوبها طيلة حياته، لكن المثير في القصة أن مسلم في حينها وضع في ثلاجة الموتى، إذ اعتقد المسعفون أنه فارق الحياة.
صور الفيلم الكفاح الذي خاضه جورسيس لاستعادة قدرته على الغناء وممارسة حياته بصورة طبيعية بعد الحادث الأليم الذي أفقده قدرته على الكلام تقريبًا، إذ كانت كلمات المعلم علي ليمونجو حاضرة بقوة في رأس جورسيس المتعب، ليستذكر ما قاله له المعلم علي في أحد لقاءاتهما الأولى: “لا أحد يستطيع أن يسكتك، صوتك لن يختفي إلا إذا قررت أنت ذلك”، ثم يبدأ بعدها رحلة التعافي والعودة إلى حياته الفنية.
وصل مسلم جورسيس إلى مدينة إسطنبول عام 1969 متعاقدًا مع شركة بلاندوكين،التي أنتج معها ألبومه “القوافل المحملة بالحب” الذي حقق نجاحًا باهرًا
موسم الهجرة إلى الغرب.. إسطنبول حيث الحياة والحزن
“في هذا النزل يقيم الغريب.. الذي أصبح الطائر شريك كربه” مسلم جورسيس، القوافل المحملة بالحب
شكلت مدن الغرب التركي وخاصة إسطنبول مقصدًا للمهاجرين القادمين من مدن وقرى الأناضول بحثًا عن حياة أفضل، حياة قضتها هذه الأجيال كادحة في معامل وموانئ ومواصلات المدينة، التي عاشت فيها ظروفًا معيشية بالغة الصعوبة، إذ استوطنت أحياءً عشوائية “gecekondu” أحاطت بالمدن ومناطق التشغيل، وفي ظل هذه البيئة بالغة التعقيد والقسوة وجد الأرابيسك مرتعًا خصبًا وبيئة متقبلة لهذا النوع من الفن.
اهتمت السينما التركية بظاهرة الهجرة إلى المدن وأحوال الفئات المهاجرة، فظهر عدد من الأفلام التي تناولت هذه المسألة التي غالبًا ما اشتركت بمشهد متشابه، شاحنة تحمل عائلات يكسو الألم والخوف وجوهها، قاطعة بهم أميالًا من الريف التركي الأخضر الفسيح الممتد لتلقي بحمولتها من البشر في براثن أحياء لا يوجد الأخضر بها غير في مقابرها.
مشهد هجرة عائلة مسلم جورسيس من مدينة أورفة إلى مدينة أضنة
وصل مسلم جورسيس إلى مدينة إسطنبول عام 1969 متعاقدًا مع شركة بلاندوكين التي أنتج معها ألبومه “القوافل المحملة بالحب” الذي حقق نجاحًا باهرًا، إذ بيعت أكثر من 300 ألف أسطوانة منه، واستمر مسلم في العمل مع هذه الشركة لينتج أكثر من 13 تسجيلاً، ثم انتقل بعدها للعمل مع شركات تسجيل أخرى ليفوق إنتاجه الفني 60 ألبومًا غنائيًا طوال مشواره.
أغنية ” القوافل المحملة بالحب” بصوت الفنان تيموتشن إيسن
وبعد نجاحه الفني انفتح عالم السينما على جورسيس، وكحال من سبقه من مغني الأربيسك الذين لطالما لعبوا أدورًا يغلب عليها الطابع التراجيدي، شارك مسلم لأول مرة في فيلم “العاصي/ إصيانكار 1979” لتتوالى مشاركته لاحقًا في عدد من الأفلام التي فاقت 35 فيلمًا.
إعلان أول فيلم خاص بمسلم جورسيس، والمسمى “العاصي/إصيانكار” 1979
محترم نور.. خيالات المراهق وزوجة المستقبل
“في اللحظة التي لا أراكِ فيها لا أعرف مرورًا للزمان.. وعندما صرتي لي أصبحت حياتي جنة”
أغنية العيون الغامضة، غناها مسلم جورسيس لمحترم نور
لم يكن الطفل مسلم أكباش المولع بالممثلة التركية الشهيرة في حينها، محترم نور التي كان يرى فيها ملكة أحلامه، يدرك أن القدر قد يجمعه يومًا معها على منصة فنية واحدة في البداية، وكزوجة وشريكة عمر لاحقًا.
تكبر محترم نور مسلم جورسيس بـ20 عامًا، وكان اللقاء الأول بينهما على شاشات السينما حيث محترم نور ممثلة مشهورة ومسلم فتى مراهق يرى فيها سندريلا أحلامه، أما اللقاء الثاني فقد كان في مدينة مالاطيا خلال حفل غنائي لكنه لم يكن بودية وحميمية الأول، حيث وقع سجال عنيف بين محترم نور وجورسيس بشأن أيهما سيظهر في البداية أمام الجمهور، فكما يقال باللغة التركية “العشق الكبير يبدأ بمشكلة”، هكذا بدأت مسيرة محترم نور ومسلم جورسيس معًا، حيث لم يشكل فارق العمر عائقًا امام تطور العلاقة وبقائها قوية.
مسلم جورسيس وزوجته محترم نور
مسلميون.. شفرات حلاقة وطقوس كربلائية
“ينقسم الأربيسك إلى قسمين: مسلميون وغير مسلميين” مقولة تركية
ببدلة ناصعة البيضاء بدأ مسلم بابا حفلته الموسيقية في حديقة جولهانة في مدينة إسطبنول عام 1989، حيث اجتمع ما يقرب من 60 ألف شخص لسماع ومشاهدة مسلم بابا الذي ما إن ظهر على المسرح حتى بدأ محبوه “المسلميون” بضرب أنفسهم بشفرات الحلاقة تعبيرًا عن مدى الألم الذي يشعرون به، لكن الأمور تطورت في هذه الحفلة ليقوم أحدهم بمهاجمة مسلم بابا نفسه، الذي غادر الحفلة إلى المشفى ومن هناك قام بالعفو عن مهاجمه الذي برر فعلته بشدة التأثر.
تميز المسلميون بطقوس غريبة أهمها تقطيع أجسادهم خلال سماع أغاني مسلم بابا الذي ما فتئ ينهيهم عن فعل ذلك، جاءت هذه الفئة من الطبقات السحيقة التي أعيتها أزمات البلاد الاقتصادية اللامتناهية، لتشكل هذه الطقوس أحد منافذ التفريغ النفسي في سنوات حُكمت البلاد بسلاح العسكر وتحت حرب تمرد لم يسلم منها أحد وفي غمرة انسداد الأفق أمام عمليات الدمقرطة والإصلاح، فكانت هذه الفعاليات متنفسًا حقيقيًا لهم.
مانشيت صحفي عن أحدث حفلة حديقة جولهانه
ختامًا.. موت وحياة
– في حال تزوجتني فلن تصبح أبًا.
– أنا كذلك.
– كيف؟
– ماذا يطلق علي؟
– مسلم!
– مسلم ماذا؟
– مسلم بابا، مسلم بابا
حوار بين مسلم جورسيس وزوجته محترم نور التي تكبره بـ20 عامًا
في الـ3 من مارس/آذار 2013، فارق مسلم جورسيس الحياة بعد أربعة شهور أمضاها في العناية المركزة، شيع ودفن لاحقًا في مقبرة زنجيرليكوي بمدينة إسطنبول، لم ينجب مسلم بابا طيلة حياته إذ سيطر عليه الخوف من أن يكون نسخة عن والده الذي أمضى 20 عامًا في السجن ليخرج لاحقًا ويستقر في مدينة أورفة.
يعلن محبو مسلم بابا يوم ميلاده 7 من مايو كيوم عالمي للـ”مسلميين”، لكن الحقيقة أن مسلم جورسيس حاضر في وجدان كل من يعاني في هذه المدينة الكبيرة، فيمن أثقل الهم كاهلم، في خيالات المراهقين ونزقهم، في حزن الحزانى وآلام المحبين، ونوستالجيا منتصف العمر.