في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري اتهم تحالف يضم 8 منظمات إغاثة دولية، الاحتلال الإسرائيلي بعدم التجاوب مع مطالب إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وأنه يمارس حرب تجويع ممنهجة ضد أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين داخل القطاع منذ أكثر من عام كامل، وهو الاتهام الذي أكدته محكمة العدل الدولية قبل ذلك، حين طالبت الحكومة الإسرائيلية بالسماح بدخول المساعدات بعدما ثبت بالدليل القاطع غلقها لكل معابر الدخول كإحدى استراتيجيات الحرب المستخدمة لتركيع المقاومة والشعب الفلسطيني بأكمله.
يأتي هذا الاتهام بعد يوم واحد فقط من البيان الذي أصدرته الولايات المتحدة لتؤكد من خلاله أن “إسرائيل” لا تعرقل وصول المساعدات في الوقت الراهن، وهي بذلك لا تنتهك القانون الأمريكي، وعليه لا تقع تحت طائلة تقييد المساعدات العسكرية الأمريكية، علمًا بأن واشنطن كانت قد نشرت رسالة بتاريخ 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي منحت فيها تل أبيب مهلة 30 يومًا للامتثال لمطالب إدخال المساعدات، فيما رد عليها الجانب الإسرائيلي معلنًا استجابته لتلك المطالب.
وخلال الأيام الماضية شهد قطاع غزة بالفعل دخول العشرات من شاحنات المساعدات، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنها تصل إلى مستحقيها من الفلسطينيين المحاصرين، ولا الأطفال الذين يتضورون جوعًا، إذ تعرضت معظمها لعمليات نهب مدروسة من عدد من عصابات السرقة هناك، فمن بين 109 شاحنات دخلت خلال الأيام الأخيرة نُهبت 98 شاحنة بنسبة تزيد على 90% من إجمالي عدد الشاحنات التي سُمح لها بدخول القطاع، وفق وكالة الأونروا.
اللافت هنا أن عمليات السرقة تلك تتم في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الاحتلال، بل إن عصابات النهب المسلحة تمارس نشاطها هذا تحت مرأى ومسمع من عناصر الجيش الإسرائيلي، وربما تحت حمايته أيضًا، بحسب صحيفة “واشنطن بوست“، الأمر الذي دفع حماس والعشائر الفلسطينية في القطاع لضرورة التدخل لإنقاذ قوافل المساعدة من أيدي تلك العصابات التي تحولت مع مرور الوقت إلى مصائد لاستدراج المقاومة بغية استهدافها.
ما الذي يحدث؟
بعد غلق معبر رفح واحتلال محور فيلادلفيا وإزاحة الاحتلال الدور المصري بالكلية، بات معبر كرم أبو سالم أو “كيرم شالوم” كما يسميه الإسرائيليون، والخاضع لسيطرة الاحتلال، هو النافذة الوحيدة لإدخال المساعدات إلى قطاع غزة، بما يعني أن كل ما يدخل القطاع منذ مايو/أيار الماضي حين استهدفت القوات الإسرائيلية معبر رفح الحدودي وأحرقته، يتم تحت إشراف ومراقبة الجانب الإسرائيلي وحده دون غيره.
وأمام الضغوط الإقليمية والدولية بدأت حكومة الاحتلال في السماح بدخول عدد ضئيل جدًا من الشاحنات هربًا من تهم التجويع القسري التي تلاحقها أمام المحاكم الدولية، لكن التساؤل الأبرز الذي فرض نفسه على طاولة النقاش داخل حكومة نتنياهو: من سيحمي تلك المساعدات؟ وما الضمانات التي تحول دون وصولها إلى المقاومة الفلسطينية؟
يجب الوضع في الاعتبار ابتداءً أن تولي وزارة الداخلية في غزة حماية تلك القوافل مسألة مرفوضة شكلًا ومضمونًا من الجانب الإسرائيلي، ومن ثم كان البحث عن جهات أخرى للحماية، فطرح الاحتلال فكرة أن تشارك العشائر في هذا الأمر، لكن الفكرة قوبلت بالرفض والتأكيد على دعم حكم حماس للقطاع بصفتها الحكومة الشرعية المنتخبة، كما طُرحت أفكار أخرى مثل استقدام عصابات مرتزقة، أو شركات أجنبية ودولية لأداء تلك المهمة، وهي المقترحات الخاضعة الآن للدراسة والتقييم.
وفي ظل عدم وجود جهة تأمينية لتلك المساعدات، كانت الفرصة سانحة لعصابات التهريب الجماعية، المكونة من المجرمين المسجلين وأصحاب السوابق، لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب على حساب الجائعين والمرضى في القطاع، ساعدهم على ذلك استهداف من تبقى من شرطة غزة وانعدام الطرق وشح السلع الأساسية، كما جاء في التقرير المشترك لـ29 منظمة دولية تحدثت عن مشكلة نهب المساعدات في قطاع غزة.
وما إن تخرج الشاحنات من معبر كرم أبو سالم باتجاه مناطق الجنوب حيث أكثر من مليون ونصف نازح وجائع، إذ بعصابات التهريب تهاجمها وتسرقها بالكلية، وفي بعض الأحيان كان يتم قتل سائقي تلك الشاحنات إذا اعترضوا أو قاوموا، ومن بين عشرة شاحنات مساعدات تمر من المعبر يصل منها شاحنة واحدة فقط لمستحقيها.
القوة في مواجهة عصابات المساعدات
ومع تكرار عمليات النهب التي تُزيد الوضع المأزوم في القطاع تأزمًا، وتضع حياة مئات الآلاف من المحاصرين جوعًا على المحك، كان لا بد لوزارة الداخلية في حكومة غزة أن تتدخل مهما كانت التحديات، وبالفعل أسقطت 20 فردًا ممن أسمتهم “عصابات لصوص شاحنات المساعدات” حيث قُتلوا في عملية أمنية نفذتها أجهزة الشرطة بالتعاون مع لجان عشائرية.
وأشارت مصادر تابعة للشرطة بالقطاع في تصريحات تلفزيونية أن “هذه العملية الأمنية لن تكون الأخيرة، وهي بداية عمل أمني موسع تم التخطيط له مطولًا، وسيتوسع ليشمل كل من تورط في سرقة شاحنات المساعدات”، مشددة على أن الأجهزة الأمنية ستعاقب بيد من حديد كل من تورط في مساعدة عصابات اللصوص، لافتة إلى أن تلك الحملة لا تستهدف عشائر بعينها، وإنما تهدف للقضاء على ظاهرة سرقة الشاحنات التي أثرت بشكل كبير على المجتمع وتسببت في بوادر مجاعة جنوب قطاع غزة.
من جانبه رحب التجمع الوطني للقبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية، بتلك العملية التي تقودها وزارة الداخلية في قطاع غزة ضد من وصفتهم بـ”اللصوص وقطاع الطرق”، متهمًا في بيان له الاحتلال بـ”السعي إلى تدمير كل معالم سيادة القانون وتدمير المراكز الشرطية الخدماتية، ليسود الفلتان المجتمعي وحالات السرقة والجرائم، بهدف جعل القطاع منطقة منكوبة غير صالحة للحياة الإنسانية والآدمية”.
التجمع بارك في بيانه “خطوات رجال الشرطة وجهودهم في كل المناطق لتنفيذ القصاص العادل في هذه الشرذمة المارقة المندسة الخائنة”، وطالبهم بمزيد من الملاحقة لمن وصفهم بـ”أذناب المحتل”، مؤكدًا على وقوفه مع أبناء الشرطة الفلسطينية في كل ما يقومون به من “محاربة الفساد والمفسدين الخونة”، مشددًا على فخره بموقف شيوخ القبائل والعشائر والمخاتير والعائلات المشرّف والوطني برفع الغطاء العشائري عن بعض أبنائهم المتورطين بالأفعال الشائنة وفضحهم أمام الجميع.
نهب تحت حماية الاحتلال
المنظمات والجهات الرقابية وشهود العيان لاحظوا أن المناطق التي تُستهدف فيها تلك الشاحنات وتنشط فيها العصابات، خاضعة لسيطرة جيش الاحتلال، بل إن عمليات النهب تتم على بعد أمتار قليلة من الجنود الإسرائيليين المتمركزين على مقربة من مسارات مرور تلك المساعدات، كما أن المخازن التي يُخزن فيها اللصوص سرقاتهم التي تحصلوا عليها من الشاحنات معروفة بشكل دقيق للاحتلال وتقع داخل نطاق الأماكن التي يهمين عليها عسكريًا، دون أن يحرك ساكنًا.
كما أن الأجهزة الأمنية في شرطة غزة رصدت اتصالات بين عصابات اللصوص وقوات الاحتلال من أجل تغطية أعمالها وتوجيه مهامها، مع توفير غطاء أمني لها من ضباط جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)، ما يعني أن كل ما يتم من جرائم نهب وسرقة يتم بمعرفة وتنسيق ومباركة وحماية جيش الاحتلال.
صحيفة “واشنطن بوست” أكدت هي الأخرى على تلك الاتهامات في تقريرها الذي قالت فيه إن مذكرة داخلية للأمم المتحدة وثقت بالأدلة أن عصابات سرقة المساعدات في غزة “تستفيد من تساهل إن لم يكن حماية الجيش الإسرائيلي“، وأن قائد عصابة أنشأ ما يشبه قاعدة عسكرية بمنطقة سيطرة للجيش الإسرائيلي، كما نقلت الصحيفة عن عمال إغاثة ومسؤولي الأمم المتحدة قولهم إن قوات إسرائيلية كانت على مقربة من عمليات نهب في غزة ولم تتدخل.
أدلة أخرى كشفت عنها صحيفة “هآرتس” العبرية نقلًا عن مصادرها الخاصة، تبرهن على ضلوع الاحتلال في تلك العمليات، إما عن طريق الدعم أو التواطؤ، منها رفض الجيش المحتل مساعدة سائقي شاحنات تعرضوا لهجمات ومنع آخرين من سلوك طرق بديلة ربما تكون آمنة نسبيًا، كذلك رفضه تمركز أي قوة شرطة في غزة، سواء فلسطينية أم دولية، لإيصال المساعدات إلى السكان واستهداف أي تحرك من هذا القبيل، إذ هاجمت عناصر الاحتلال بعض أفراد الشرطة الفلسطينية كانوا في مهمة للتصدي لتلك العناصر الإجرامية.
ماذا يريد الاحتلال من دعم تلك العصابات؟
أمام كل تلك الشهادات والأدلة الموثقة، المحلية والدولية، عن رعاية الاحتلال لعصابات المساعدات وتوفير سبل الحماية لهم وتعزيز نشاطهم بالصورة التي تساوي بين دخول المساعدات من عدمها، بات واضحًا أن المحتل يهدف من وراء هذا الدعم والحماية لتلك العناصر الإجرامية تحقيق أهداف ثلاثة:
الأول: تجميل الصورة… حيث يسعى المحتل لتبرئة ساحته أمام الرأي العام العالمي بشأن استجابته للمناشدات والمطالب الأممية الخاصة بالسماح بدخول المساعدات لقطاع غزة، فهو بذلك يقول إنه فعل ما هو مطلوب منه وأدخل شاحنات المساعدات من المعبر، وما يتم بعد ذلك لا علاقة له به، وهو ما يتشدق به حليفه الأمريكي حاليًا، وهو بذلك يضرب عصفورين بحجر واحد، أدخل المساعدات وجمّل صورته، لكنه في الوقت ذاته ضمن ألا تصل إلى المحاصرين داخل القطاع.
الثاني: بث الفتنة في الجبهة الداخلية للقطاع، يعلم المحتل جيدًا أن كثيرًا من العناصر المنضوية تحت ألوية عصابات التهريب تنتمي لقبائل وعشائر فلسطينية معتبرة، وبرعايتها ودعم نشاطها في نهب وسرقة المساعدات، فإنه بذلك يضعها وجهًا لوجه مع المجتمع الفلسطيني والمحاصرين من جانب، ومع حكومة غزة وأجهزتها الشرطية المختلفة من جانب آخر، الأمر الذي ينذر بنشوب احتراب أهلي وانقسامات حادة بين الفلسطينيين في القطاع سيكون لها تداعياتها على أداء المقاومة وتماسك حاضنتها الشعبية.
وفي السياق ذاته فإن إجواء كتلك تعد بيئة خصبة لظهور العشرات من العملاء والخونة المتعاملين مع جيش الاحتلال، والذي يمكن توظيفهم بشكل استخباراتي للإبلاغ عن عناصر المقاومة من جانب، أو دعم جهود حكومة المحتل في التوصل إلى أماكن اختباء الأسرى الإسرائيليين لدى فصائل المقاومة، وهو ما يفسر المبالغ الفلكية التي يُسيل بها المحتل لُعاب الجوعى والمحاصرين في القطاع للإبلاغ عن المختطفين.
الثالث: استدراج المقاومة.. يعلم المُحتل جيدًا أن المقاومة لن تترك عصابات التهريب والنهب تمارس نشاطها وتعمق الوضع الكارثي للمحاصرين بالقطاع هكذا بأريحية، حتى لو كانت تحت حماية قواته، إذ إن ترك الأمر على تلك الشاكلة من شأنه أن يزيد من الضغوط الواقعة على عاتق المقاومة، وبالتالي لا بد من التحرك لوقف هؤلاء اللصوص.
وبالفعل بدأ التحرك عمليًا لوقف موجات النهب المتكررة، إما عن طريق عناصر شرطة غزة أو المقاومين المسلحين بشكل فردي، وفي كلتا الحالتين باتوا في مرمى الاستهداف الإسرائيلي، ومع الوقت تحولت تلك العصابات لـ”فخاخ” لاستدراج المقاومين واستهدافهم من عناصر الاحتلال، وهو ما وثقه الاستهداف المتكرر لعناصر تأمين تلك المساعدات أكثر من مرة، سواء في الشمال أو الجنوب.
وهكذا نجح الاحتلال، بسياسته العنصرية الإجرامية الفجّة، في تغيير خريطة التحديات أمام الفلسطينيين، فالأزمة لم تعد تنحصر في دخول المساعدات للقطاع عبر المعابر، إنما باتت في وصولها للمستحقين، ليجد الفلسطينيون المحاصرون أنفسهم – داخل معركة الإفلات من المجاعة – في مواجهة حتمية شرسة، ليست مع المحتل في المقام الأول، بقدر ما هي مع عصابات التهريب من أبناء جلدتهم، وهذا ما يخطط له الاحتلال وأعوانه في الداخل والخارج.