الأدب.. تلك اللعبة الغامضة الخالدة التي تدور في محاولة لا تنتهي من أجل تفسير ظواهر المجتمع، هل هو وسيلة من وسائل الإنسان للسيطرة على الواقع أم محاولة لتجميل الحياة وإضفاء طابع مثالي عليها؟ هل وُجد الأدب من أجل ملء الفراغ بالمتعة بعد العمل المرهق ومواجهة الطبيعة بحلوها القليل ومرها الكثير أم كان امتدادًا للحياة العملية ووسيلة من وسائل العيش؟ هل كان ترفًا أم عملًا ومشقة؟
في بحثه عن الأدب ذكر الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر “أن الأدب ليس غايته إنتاج الجمال فقط وإنما يستطيع تغيير العالم وثني اتجاه التاريخ”، ولكن الواقع أثبت أن الأدب لم يستطع ثني اتجاه التاريخ وذلك رغم محاولاته الكثيرة، فبعد الحرب العالمية الأولى انتشر الأدب السياسي بقوة وظهر عدد كبير من كبار الروائيين أمثال ديستوفيسكي وتوماس مان وجيمس لويس وفيرجينا وولف الذين سخرت رواياتهم من الحرب وشجبوا آثارها الفكرية الهدامة، ولكن ذلك لم يمنع اندلاع الحرب العالمية الثانية التي تمخض عنها عدد آخر من الروائيين أمثال ألبير كامو وسارتر ونورمان ميلر الذين وصفوا تلك الحروب بالعبثية.
لفترة طويلة من الزمن ظلت الرواية العربية أحد أهم المؤشرات على حركة المجتمعات صعودًا وهبوطًا، وحافظت دائمًا على مكانتها كالمتنفس الأول للتعبير عن التغيرات المجتمعية والنفسية الناجمة عن القمع والقهر السياسي
وعلى الرغم من فشل الأدب في عملية تغيير التاريخ بينما تلتهم السياسة مستقبل العالم أجمع، فإنه لم يتوقف يومًا عن المحاولة، محاولة كشف خداع السلطة السياسية وإن كان بشكل غير مباشر، وفي الوقت الذي دمرت فيه الحرب العديد من الدول وعاثت في الأرض فسادًا كانت هناك سلطة سياسية أخرى تقوم بدور مشابه ولكنها تدمر الأشخاص وتقمعهم وتمارس ضدهم العنف الممنهج، تلتهم حياتهم على مهل لتتركهم خاليين من المعنى، هذه السلطة هي الحكم العسكري، فكيف جسد الأدب تلك السلطة؟ وكيف نقل لنا أثرها على المجتمعات العربية؟
الروايات العربية التي جسدت وبال حكم العسكر على الشعوب
لفترة طويلة من الزمن ظلت الرواية العربية أحد أهم المؤشرات على حركة المجتمعات صعودًا وهبوطًا، وحافظت الرواية دائمًا على مكانتها كالمتنفس الأول للتعبير عن التغيرات المجتمعية والنفسية الناجمة عن القمع والقهر السياسي وما ينجم عنه من استلاب للإرادة البشرية، ومع الركود السياسي الكامل في الدول العربية والقمع المستتر انكفأت الرواية العربية على تأمل حالة المجتمع في مواجهة السلطة السياسية القمعية.
وعليه كيف استطاعت الرواية العربية أن تواجه الصورة المفزعة لسلطة حكم العسكر التي لم تمنحها وقتًا لالتقاط أنفاسها؟ كيف استطاعت أن تواجه الأفعال الناجمة عن السلطة مقابل مجتمع مستلب ومسروق لم يقدر سوى على الانهيار وتذوق مرارة الهوان وعلقم الذل؟ كيف نقلت الرواية أدق تفاصيل الواقع المهمش وسردت المسكوت عنه؟
ثرثرة فوق النيل.. رواية نجيب محفوظ التي أغضبت جمال عبد الناصر والمجلس العسكري
“كيف نكون أمة متحضرة والعساكر تحكمنا” نجيب محفوظ
لم يبرع كاتب في تجسيد واقع الحياة المصرية كما برع نجيب محفوظ، وفي روايته “ثرثرة فوق النيل” يرسم لنا محفوظ ببراعة منقطعة النظير صورة مصر في الستينيات
فور صدور طبعتها الأولى عام 1966 أثارت رواية “ثرثرة فوق النيل” للكاتب الكبير نجيب محفوظ غضب المجلس العسكري بشدة وخاصة الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر وصلاح نصر مدير المخابرات وعبد الحكيم عامر وزير الحربية الذي قال حرفيًا: “لقد تجاوز نجيب محفوظ الحد ويجب تأديبه” وتوعد عامر بإنزال العقاب بنجيب محفوظ بسبب ما ورد في الرواية من نقد عنيف لسلبيات المجتمع، ولكن الفنان أحمد مظهر استطاع التوسط لنجيب محفوظ لدى جمال عبد الناصر خاصة أنه كان متزوجًا من ابنة وزير الخارجية حينها محمد صلاح الدين، ولكن لماذا أغضبت الرواية المجلس العسكري إلى هذا الحد؟
“كل شيء يبدو حالكًا، كل ما نخطوه من خطوات تسير بنا رغمًا عنا لحياة خارج إطار الحياة في العتمة وفي ظلام الأحداث لا نسمع سوى قرقرة الجوزة حتى إننا بالكاد نرى دخان ولسعة لهيب المجمرة المستعرة على صفحة الماء فوق مركب اجتمع عليه الرفقاء في كل ليلة رفقاء من أصحاب المبدأ المشترك قالت إحداهن: كلنا سائرون إلى الموت، ليرد الآخر أتدرين ما هو أفظع من الموت، أن يدركك الموت وأنت حي”.
تعري الرواية الحقيقة وتسرد حالة الانفصال التي كان يعيشها المجتمع المصري وعزلة الشعب عن نظام الحكم الذي استبد بالسلطة وسلب الجوهر والمعنى من حياة أبنائه
لم يبرع كاتب في تجسيد واقع الحياة المصرية كما برع نجيب محفوظ، وفي روايته “ثرثرة فوق النيل” يرسم لنا محفوظ ببراعة منقطعة النظير صورة مصر في الستينيات، وتدور أحداث الرواية داخل عوامة على ضفاف النيل يجتمع فيها مجموعة من الأصدقاء لا يجمعهم رابط مشترك إلا الثقافة وتعاطي المخدرات والحشيش، بطل الرواية هو أنيس زكي موظف بوزارة الصحة وهو مثقف جدًا ولديه زخم هائل من المعلومات التاريخية الموسوعية فحتى حين يتعاطى المخدرات يهلوس أنيس بتاريخ بلاده.
أصدقاء العوامة أيضًا جماعة مثقفة ولكنهم رأوا أنهم لا يُعبأ برأيهم ولذلك تركوا كل شيء ليقرره المجلس العسكري نيابة عنهم، فهم يعيشون في وادٍ والسلطة السياسية تعيش في وادٍ آخر، إذ يقول أحدهم: “نرى أن السفينة تسير دون حاجة إلى رأينا أو معاونتنا، وأن التفكير بعد ذلك لن يجدي شيئًا، وربما جرّ وراءه الكدر وضغط الدم”.
تنتهي الرواية بالخواء وسيطرة اللامعنى على حياة أبطالها والاغتراب عن الوطن، تعري الرواية الحقيقة وتسرد حالة الانفصال التي كان يعيشها المجتمع المصري وعزلة الشعب عن نظام الحكم الذي استبد بالسلطة وسلب الجوهر والمعنى من حياة أبنائه ولم يكتفِ بذلك ولكن كانت الكارثة الكبرى التي حدثت بعد عام واحد من كتابة الرواية، نكسة 1967 التي أدت إلى احتلال “إسرائيل” لشبه جزيرة سيناء.
رواية الخائفون.. عن الحقبة السوداء من الحكم العسكري السوري قبل الثورة
داخل غرفة انتظار مكتظة لعيادة طبيب نفسي تبدأ أحداث الرواية، نرى من خلال سرد الكاتبة ديمة ونوس ووصفها للمشهد الأول أن هناك الكثير من المرضى الذين يعانون من اضطرابات نفسية بفعل الألم والاختلالات لدى الكثير من أبناء الشعب السوري الذين خضعوا لأنواع متعددة من العنف والقمع والكبت في حقبة الحكم العسكري لبشار الأسد قبل ثورة 2011.
في عيادة الطبيب النفسي تلتقي سليمي بالكاتب الروائي نسيم الذي يهرب من البلاد تاركًا مخطوطة روايته معها لتتفاجأ حين تقرأ الرواية أن نسيم سرق حكايتها ونسج منها أحداث روايته
بطلة الرواية هي سليمي الرسامة التي تتردد على عيادة الطبيب النفسي كميل منذ ستة أعوام بسبب ما تعانيه من القلق ونوبات الهلع، وتعتمد سليمي على الأدوية النفسية حتى تعيش حياة طبيعية، وكلما عاودتها نوبات الهلع تبتلع نصف حبة “زاناكس” وطوال أحداث الرواية تزداد الجرعة ولكن ذلك لا يؤدي إلى تحسن حالتها النفسية وإنما يجعلها تصارع الوساوس والأوهام.
في عيادة الطبيب النفسي تلقتي سليمي بالكاتب الروائي نسيم الذي يهرب من البلاد تاركًا مخطوطة روايته معها لتتفاجأ حين تقرأ الرواية أن نسيم سرق حكايتها ونسج منها أحداث روايته وتدخل سليمي في صراع مع بطلة رواية نسيم سلمى وتعود إلى الماضي لتسبر أغوار نفسها وتتعرف إليها عن قرب.
بعد عدد من الصفحات تتداخل الأحداث علينا ولا ندرك بطل القصة الحقيقة ولكن يظل هنا قاسمًا مشتركًا بين جميع الأبطال: الخوف، ذلك الشبح الذي حضر بقوة في كل سطر من سطور الرواية، إذ تجلى بشدة وكأنه نمطًا جماعيًا يحدد مسار جميع شخصيات الرواية، سليمي كانت تخاف من ماضيها، ونسيم كان يخاف من السلطة، ومن رحم هذا الخوف تمخضت علاقات مشوهة وغير مكتملة، فالخائف لا يصنع حياةً ولا يبني وطنًا، وفي النهاية انهارت جميع الشخصيات لنصل إلى سؤال نسيم المفصلي في الرواية: “هل فقدنا عقلنا جميعًا؟ ما يحدث أقوى منا كلنا، يفوق قدرتنا على التحمل، يتجاوز قدرة كل منا على حدة”.
جسدت ونوس من خلال روايتها سيكولوجية الخوف لدى السوريين قبل الثورة، وصفت ببراعة منقطعة النظير تلك الطبقات المتراكمة من الإحساس بالهلع والخوف الذي ظل لسنوات لصيقًا بإرادتهم، فكل سوري ولد وعاش في “سوريا الأسد” لديه تلك الذاكرة السمعية والبصرية التي شكلها نظام الأسد العسكري وتجلى في المدن السورية التي تحولت إلى مستعمرات أمنية وعسكرية موحشة وكئيبة.
رواية شوق الدرويش.. حين يرتدي الحكم العسكري الحلة الدينية
خلال عام 1881 صدر منشور الدعوة الأول للثورة المهدية في السودان بزعامة محمد المهدي بن عبد الله، وكان نص المنشور كالتالي: “أخبرني سيد الوجود بأني المهدي المنتظر، وخلفني عليه الصلاة والسلام بالجلوس على كرسيه مرارًا، بحضرة الخلفاء الأربع والأقطاب والخضر عليه السلام وأيدني بالملائكة المقربين وبالأولياء الأحياء والميتين من لدن آدم إلى زماننا هذا، وكذلك المؤمنين من الجن، وفي ساعة الحرب يحضر معهم سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بذاته الكريمة، وكذلك الخلفاء الأربع والأقطاب والخضر عليه السلام، وأعطاني سيف النصر من حضرته صلى الله عليه وسلم، وأعلمت أنه لا ينصر على معه أحد ولو كان الثقلين الإنس والجن”.
تتداخل مع القصة الرئيسية للرواية العديد من القصص الفرعية في عوالم شديدة القتامة تنقل لنا كيف يخيم الحكم العسكري بظلاله السوداء ليس على الأشخاص فحسب ولكن على الأماكن
استجاب الآلاف من السودانيين لدعوة المهدي الذي كون جيشه من أبناء الشعب والدراويش والمظلومين، ولكن بعد خمسة أشهر فقط من اندلاع الثورة المهدية توفي المهدي وفترت الحماسة الدينية التي كانت تغلف الثورة وتولى الزعامة من بعده الخليفة عبد الله التعايشي الذي استبد بالحكم ارتكازًا على الدين طيلة 13 عامًا عجز خلالها عن إقامة دولة سودانية قوية مكتملة الأركان، وقد استطاعت رواية “شوق الدرويش” تجسيد تلك المرحلة التاريخية الوعرة من تاريخ السودان ببراعة شديدة.
بطل الرواية هو بخيت منديل الذي عاش جزءًا كبيرًا من حياته عبدًا ثم درويشًا بثورة المهدي ليصبح بعدهًا عسكريًا في الجهادية، يقع بخيت في حب ثيودرا الراهبة المصرية التي يجبرها جيش المهدي على اعتناق الإسلام وتغيير اسمها إلى حواء، وحين تحاول ثيودرا الهرب إلى مصر يمسك بها عساكر المهدي ويقتلونها ليقرر بخيت بعد ذلك الانتقام من كل من شارك في قتل حبيبته.
في أي عمل أدبي ربما يأتي النظام السياسي حاضرًا في الأحداث بقوة وذلك في حالة الروايات السياسية وربما لا تأتي سيرته، ولكن الأمر مختلف في الروايات التي تتناول حكم العسكر
تتداخل مع القصة الرئيسية للرواية العديد من القصص الفرعية في عوالم شديدة القتامة تنقل لنا كيف يخيم الحكم العسكري بظلاله السوداء ليس على الأشخاص فحسب ولكن على الأماكن، فبدءًا من سجن الساير يصف لنا الكاتب ذلك المكان الذي يضم آلاف المظلومين الذين سُجنوا ظلمًا ونسيتهم السلطة السياسية، إذ يقول أحد أبطال الرواية: “الهواء هنا داخل السجن مقيد مثلهم بقيود المكية يجثم ولا يقدر أن يهب، عليك أن تحركه لتحصل عليه” كما يصف المؤلف مدينة “أم درمان” بأنها حزينة كالحة يعصف بها الخوف، بجانب سلب الأبطال لحياتهم، أضاف حمور أداة أخرى يستخدمها الحكم العسكري للسيطرة على الشعب وهي اللغة، ففي هذه الرواية كانت المهدية طريقًا واحدًا للإله ومفهومًا أوحد للرب وهو الذي حدا بالبطل حسين الجريفاوي إلى تطليق زوجته والذهاب إلى الجهاد من أجل نصرة كلمة الحق.
في أي عمل أدبي ربما يأتي النظام السياسي حاضرًا في الأحداث بقوة وذلك في حالة الروايات السياسية وربما لا تأتي سيرته، ولكن الأمر مختلف في الروايات التي تتناول حكم العسكر، فالنظام السياسي لم يكن حاضرًا بقوة في الروايات السابقة وإنما كان متخفيًا في خلفية الأحداث، يتسلل على مهل ليسلب الأبطال أوراحهم ويتركهم في حالة من انعدام المعنى ليكونوا بعد ذلك فريسة سهلة لأي انهيار.