ترجمة حفصة جودة
كتب أوليفر هولمز وحازم بعلوشة
عندما تتجول جنوبًا على الطريق السريع المؤدي إلى غزة، لا تجد أي علامات تشير إلى اقتراب وصولنا هناك، حيث يعيش مليونا شخص في حصار دائم في تلك المدينة الساحلية، بالنسبة لزوار القطاع – المقصور فقط على الدبلوماسيين وموظفي الإغاثة والصحفيين – فإن آخر نقطة يتوقفون عندها هي محطة خدمة، بعدها تجد الدليل الوحيد على اقتراب غزة هذا المنضاد الأبيض في السماء الذي يمنح “إسرائيل” مراقبة دائمة للقطاع.
في أسفل الطريق المار بالحقول الخضراء يوجد معبر إيريز “بيت حانون” الطريق البري الوحيد الذي يربط بين غزة و”إسرائيل”، وبمجرد تقديم جواز السفر تمر عبر باب دوار داخل الجدار الخرساني لتمشي في ممر يشبه القفص طوله 900 متر قبل أن تصل إلى المكان الذي يطلق عليه سكانه “أكبر سجن في العالم”.
هناك لا يوجد سوى الفلسطينيين، والطريق المعبد تم استبداله بممرات رملية متهدمة، أما السيارات اللامعة فقد تم استبدالها بعربات “ريكشا” هندية -عربات يدوية يجرها البشر – وعربات خشبية تجرها الحمير.
لكن خالد النيرب – 22 عامًا – لديه وصف آخر للقطاع وهو “مقبرة المواهب”، فخالد من الجيل الذي أنهى الآن تعليمه وقضى كامل حياته في غزة، وعلى عكس جيل الآباء الذي عمل في “إسرائيل” فإن هؤلاء الشباب لم يلتقوا بكثير من الإسرائيليين.
طالبت تلك الاحتجاجات بتخفيف الحصار وحق عودة الفلسطينيين إلى منازل أجدادهم داخل دولة الاحتلال
لقد عانت حياتهم من 3 صراعات كبرى: الصراع مع “إسرائيل”، والمعارك المستمرة بين “إسرائيل” وحكام غزة “حماس”، والاقتتال الداخلي بين الفصائل الفلسطينية، ويعاني نيرب وأقرانه من بطالة تصل إلى 70% ونظام رعاية صحية منهار ومجتمع يشرب فيه الناس مياه سامة ويواجهون انقطاعًا مستمرًا للطاقة.
استمرت “إسرائيل” ومصر (جارتا غزة) في حصارهما على البضائع الداخلة للقطاع، وتقول “إسرائيل” التي سحبت قواتها من القطاع عام 2005 إن تلك القيود من أجل أمن “إسرائيل”، لكن الأمم المتحدة تقول إن هذا الحصار يشكل عقابًا جماعيًا.
هذه الحياة دفعت عشرات الآلاف إلى الاحتجاج على طول الحدود الإسرائيلية كل جمعة لمدة عام، حيث يلقون الحجارة والزجاجات الحارقة على الجنود الإسرائيليين، وطالبت تلك الاحتجاجات بتخفيف الحصار وحق عودة الفلسطينيين إلى منازل أجدادهم داخل دولة الاحتلال، لكن الرد الإسرائيلي كان إطلاق النيران على 6 آلاف شخص وقتل 180 منهم على الأقل.
يتفهم نيرب لماذا يخاطر الناس بكل شيء، فهو مثل معظم أهالي غزة يعود أصله لعائلة من اللاجئين الذين فروا من الحرب أو طردوا من منازلهم إبان تأسيس دولة الاحتلال عام 1948، كتب نيرب الشعر وتعلم موسيقى الراب وهو الآن على وشك التخرج من دورة الوسائط المتعددة، لكنه يواجه حياة فاترة في غزة، يقول نيرب: “تخيل أنك تذهب إلى المكان نفسه كل يوم في نفس الوقت لتقابل نفس الأشخاص، وإذا أردت السفر لأي سبب فليس مسموحًا لك”.
بشكل سطحي يستطيع نيرب أن يعيش الحياة التي يختارها، حيث ينام في منزل صديق ويستيقظ متأخرًا ويشرب الكولا ويعدل بعض المقاطع الموسيقية ويبحث عن وظيفة ويسجل بعض أغاني الراب في إستديو صغير وسط المدينة حينما يملك المال ويلعب البلياردو، لكنه في الحقيقة مثل بقية شباب غزة لا يملكون سيطرة حقيقة على حياتهم حيث يؤثر الحصار في أبسط المهام.
خالد النيرب يجمع المياه النظيفة
فالأشياء المتاح شراؤها في غزة تتغير حسب ما تسمح به مصر و”إسرائيل”، عندما بدأ المتظاهرون بحرق الإطارات فرضت “إسرائيل” قيودًا عليها وارتفع سعرها 3 أضعاف، وفي أسوأ الأيام يصبح الحصول على بطارية أمرًا غير متاح على الإطلاق.
من الصعب كذلك تحويل الأموال داخل وخارج القطاع الذي تحكمه حركة حماس حيث تعتبرها أمريكا منظمة إرهابية، أما العملة المحلية المتداولة فهي الشيكل الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه خفضت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية رواتب موظفي القطاع لمعاقبة منافستها السياسية.
يتذكر كبار السن الوقت الذي كانت تمر فيه شاحنات القمامة، أما الآن وبسبب فرض القيود على استيراد السيارات فإن الأحياء تستخدم عربات خشبية تجرها الخيول لجمع القمامة، كان هناك أيضًا سينما في غزة لكن الأشجار تنمو في ممراتها الآن، أما شاطئ غزة الذي لا يستطيع الحصار أن يسلبه فقط تسبب نظام الصرف الصحي المعطل في تلويث مياهه فلم تعد مناسب للسباحة فيها.
وسط كل ذلك يقرأ نيرب الكتب على الإنترنت لأن استيرادها أمر صعب، كما أنه يغني الراب عن مشكلات غزة لكنه يحتاج لأن يكون حريصًا لأن حماس لا تسمح بالكثير من الأصوات الناقدة كما أن أيدولوجيتها الإسلامية نادرًا ما تسمح بإقامة حفلات عامة.
يقول نيرب: “أنا فنان راب لكنني لا أستطيع أن أغني في كل الموضوعات ولا أستطيع أن أقف في الشوارع ممسكًا الميكروفون ومكبرات الصوت وابدأ في الغناء”، فر بعض أصدقائه إلى مصر عبر الأنفاق – التي دُمرت الآن – ثم دفعوا للمهربين لنقلهم إلى أوروبا عبر البحر، إنه تصرف خطير للغاية لكنه يتفهم سبب هروبهم.
إنهم يشعرون بالضعف والعجز واليأس وفي بعض الحالات يشعر المرضى بآلام شديدة دون سبب واضح
لا يعتقد نيرب أن الاحتجاجات على الحدود ستنقذ غزة حيث يقول: “التظاهر ليس خطأ لكنها الطريقة، فنحن نقف عزل في مواجهة جنود يحملون السلاح، وفي النهاية فثمننا لديهم هو مجرد ثمن الرصاصة”.
تقول غدير أيوب – 27 عامًا -: “بدلا من إرسال هؤلاء الأطفال إلى الموت، يجب أن نعلمهم حقوقهم، وأن يعرفوا حقهم في الحياة”، كانت الاحتجاجات قد بدأت 30 من مارس 2018 وكانت مقررًا أن تستمر الحملة 6 أسابيع، لكنها استمرت لأكثر من ذلك.
كانت أيوب تتحدث من “كابيتال مول” في غزة وهو مركز تجاري من 3 طوابق ذو أرضيات نظيفة ومحال تجارية تبيع الملابس ذات الطراز التركي، وفي بعض الأحيان تجد سيارات “BMW” تقف خارج المول، فبالنسبة للقليل من سكان عزة ذوي الدخل المرتفع فإن هذا المركز – الذي فتح أبوابه عام 2017 – خطوة تجاه حياة كانوا يتوقعونها في هذا المكان.
تنسى أيوب للحظات هذا الفخ الذي تعيش فيه حسب وصفها، لكن تلك اللحظات لا تدوم كثيرًا، ففي أحد الأيام شاهدت فيديو لأحد الطهاة الموهوبين في إسطنبول فأعجبها الفيديو وقررت أن يراه والدها، عندما رآه قال في حزن: “لكننا لا نعيش هناك”.
بالنسبة للنساء فهناك قيود اجتماعية إضافية كذلك، تقول أيوب: “في بعض الأحيان أود أن أجري في الشارع لكنني لا أستطيع، فانتظر حتى هبوب العاصفة وخلو الشوارع من المارة حتى أستطيع أن أجري إلى الشاطئ”.
المتظاهرون الفلسطينيون يلقون الحجارة على قوات الاحتلال عن الحدود
يقول حسن زيادة – اختصاصي نفسي في غزة -: “يشعر كثير من الناس أنهم يعيشون في بيئة لا يمكن التحكم بها، إنهم يشعرون بالضعف والعجز واليأس وفي بعض الحالات يشعر المرضى بآلام شديدة دون سبب واضح”.
أدت الإصابات الكثيرة في الاحتجاجات الأخيرة إلى أزمة في الصحة النفسية، لكن بحسب زيادة فإن سكان غزة – من وجهة نظر نفسية – بحاجة إلى الشعور بالقوة، يقول زيادة: “المشاركة في الصراع أمر مهم، فمن الناحية النفسية لا يمكنك أن تكون ضحية سلبية، فأنت بحاجة لاحترام الذات وتقديرها”.
يلقي الجيش الإسرائيلي باللوم على حركة حماس في إراقة الدماء على الحدود، فقد انطلقت رصاصة من غزة وقتلت جنديًا إسرائيليًا، كما أن القوات الإسرائيلية فجرت مجموعة من البالونات والطائرات الورقية المتصلة بعبوات مشتعلة لتحرق الأراضي على الجانب الآخر من الحدود.
يقول محمد وادية – سائق سيارة أجرة 29 عامًا -: “لقد شاركت في الاحتجاجات وألقيت الحجارة على السور لكن قناص إسرائيلي أطلق النار على ساقي”، باع وادية سيارته وأصبح يسير بقصبة معدنية في ساقه، يضيف وادية: “لقد كنت بطلًا، لكن بعد مرور أسبوع لم يعد يهتم بي أحد، لقد كانت الحركة كلها مجرد كذبة”، وعند سؤاله ماذا كان سيفعل في حال نجحت الحركة قال: “كنت سأضرب الجنود” وبالنسبة للمدنيين فهو يقول: “كنت سأضرب أي شخص، إنهم جميعًا محتلون”.
عند سؤال العديد من السكان عن الاحتجاجات كانت الإجابات متنوعة، فبعضهم قالوا إنهم يرغبون في العبور ليقفوا على أرض أجدادهم، وهناك من ركضوا نحو السياج وقطعوه ورفعوا العلم الفلسطيني، بينما ألقى بعض الأفراد المتفجرات على السياج لكسره وعندما نجح بعضهم في العبور قاموا بالجري بشكل هيستيري حول المكان قبل أن يعود مرة أخرى.
أما زيادة – الطبيب النفسي – فلم يكن مصدومًا من جواب وادية، فهو يرى أن حياة غزة بالنسبة للشباب عبارة عن سلسلة من الصدمات المستمرة، والنتيجة الواضحة والمفهومة لبعضهم هو أن “الحياة تصبح بلا معنى”.
المصدر: الغارديان