يخرج رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في كلمة مصورة من محور نيتساريم، على هامش جولة نفذها بصحبة وزير حربه الجديد، يسرائيل كاتس، إضافةً إلى رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، ورئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، رونين بار، متعهدًا بمنع حماس من العودة إلى حكم قطاع غزة.
يركز نتنياهو في خطاباته الأخيرة على فكرة أن جيشه نجح في تحقيق نتائج عسكرية نوعية ضد المقاومة في قطاع غزة، وأن المعضلة الرئيسية باتت تتركز في القدرات الحكومية القائمة في القطاع، مؤكدًا أن الحل الذهبي يكمن بالسيطرة على المساعدات كمدخل رئيسي لفرض السيطرة المدنية على أهالي قطاع غزة.
بعد أكثر من عام من الحرب، تجد حكومة الاحتلال نفسها، بكل مكوناتها الموزعة ما بين اليمين ويمين اليمين الصهيوني، أمام تساؤلات جوهرية عن “اليوم التالي” ومصير قطاع غزة، وهي المحاور التي تهرب نتنياهو كثيرًا من نقاشها، حتى إنه قدم إجابات فضفاضة بلا رؤية حقيقة أدت إلى انهيار مجلس الحرب، وخلاف مستمر مع الجيش ومع توجهات الأجهزة الأمنية، ومطامع متوسعة من الجماعات الاستيطانية.
أسئلة بلا أجوبة
بنيامين نتنياهو، الذي بحث في زيارته عن صورة تثبت الفارق بين العمل مع وزير حرب مطواع مثل يسرائيل كاتس، ووزير حرب متمرد مثل يوآف غالانت، في مشهد غاب كثيرًا – إذ اتسم الوضع سابقًا بزيارات منفردة لكل منهما للاستعراض على أنقاض قطاع غزة – كرر من جديد ادعاءات السيطرة والنجاح في القضاء على قوة المقاومة العسكرية.
وللمفارقة، جاء حديث نتنياهو عن “النجاحات” بعد شهر ونصف من الأيام الأكثر دموية والأعلى خسارة في صفوف جيش الاحتلال خلال عملياته العسكرية في قطاع غزة، إذ كان جل القتلى الإسرائيليين في العمليات المستمرة بمخيم جباليا وأحياء شمالي القطاع، وهي المناطق التي زعم الجيش أنه أحكم سيطرته العملياتية عليها منذ ديسمبر/كانون الأول 2023، عقب عملية عسكرية واسعة النطاق استهدفت المخيم قبل عام كامل.
يركز نتنياهو على عنوان “الحكم وتفكيك الأجهزة الحكومية” في قطاع غزة، ليثبت أن ما يجري على الأرض يقع ضمن استراتيجية تراكمية ناجحة لتحقيق اختراقات جدية تنتهي بالوصول إلى “النصر المطلق” الذي انتظره كثيرًا، ورغم صعوبة الجزم بغياب الاستراتيجية في سلوك الاحتلال، لكن يمكن التشكيك في نجاحها أمام استراتيجيات المقاومة الدفاعية، ومرونتها الكبيرة في التعامل مع العمليات العسكرية الكبيرة وتجاوز آثار الضربات والقدرة على ترتيب الصفوف، وما تشهده جباليا وبيت لاهيا يقدم دليلًا ملموسًا على ذلك.
في الجانب الحكومي، أعطى جيش الاحتلال أولوية كبيرة لاستهداف مكونات العمل الحكومي في غزة كجزء من استراتيجيته الهجومية منذ الأشهر الأولى للحرب، ولم تقتصر هذه الهجمات على الأجهزة الأمنية، بل امتدت بشكل ممنهج إلى الوزارات المدنية، فقد اغتالت “إسرائيل” على سبيل المثال، وكلاء وزارات العمل والاقتصاد والأشغال العامة، إضافة إلى استهداف كوادر وزارة التنمية، ورؤساء البلديات ولجان الطوارئ، في محاولة لضرب البنية الإدارية والخدماتية في القطاع بشكل كامل.
رغم ما عانته الأجهزة الحكومية في قطاع غزة على مدى سنوات من التراجع المهني، نتيجة الحصار وأزمات الرواتب ونقص الموازنات والأزمة المالية المستمرة منذ عام 2013، فقد استطاعت الحفاظ على الحد الأدنى من التماسك واستمرار تقديم بعض الخدمات الأساسية، حيث أظهرت طواقم البلديات أداءً استثنائيًا، حين واصلت تقديم الخدمات وفتح الطرق وتهيئة الظروف لعودة المواطنين إلى منازلهم بعد انسحاب الاحتلال من مناطق الاجتياح.
في هذا السياق، أعلن بنيامين نتنياهو أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست هذا الأسبوع أنه طلب من الجيش الإسرائيلي إعداد “خطة للتعامل مع قوة حماس الحاكمة في قطاع غزة”، وردًا على ذلك، علق المحلل الإسرائيلي نداف إيال في مقال له بصحيفة “يديعوت أحرونوت” بتساؤل ساخر: “مدهش للغاية. نحن في هذه الحرب البرية منذ عام، هل تساءلت للتو؟”.
تبدو “إسرائيل” حتى الآن دون إجابة واضحة عن كيفية التعامل مع تحول الحرب في قطاع غزة إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، تستنزف جيشًا مرهقًا يخوض المواجهة الأطول في تاريخ الدولة دون أفق واضح للمستقبل.
ومع دخول الحرب عامها الثاني، تزداد الأسئلة الجوهرية إلحاحًا: كيف يمكن تجاوز السيطرة الحكومية لحماس في غزة؟ وما مصير الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة؟ وهل لدى الجيش الإسرائيلي خطة استراتيجية حقيقية تُحدث تغييرًا نوعيًا، أم أن التحركات العسكرية مستمرة بلا مسار واضح، لتُعمق المأزق السياسي والعسكري الذي تواجهه القيادة الإسرائيلية؟
يعود نتنياهو لتكرار حديثه عن تقديم ملايين الدولارات كحافز لإعادة الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة، مشيرًا إلى أن حكومته تضع ملف إعادة الأسرى ضمن أولوياتها، لكن بعد عام من العمليات العسكرية المكثفة، وغزو الجيش الإسرائيلي لأحياء غزة دون تحقيق اختراق نوعي في هذا الملف، تثار تساؤلات جدية عن مصداقية هذا الطرح، فهل يمكن أن تحقق هذه العروض الفردية أي تأثير فعلي؟ خاصة أن الواقع يعكس تعقيدًا أكبر بكثير، حيث لا يتواجد الأسرى في سجن واحد تحت سيطرة مجموعة محددة يمكنها اتخاذ قرار بالإفراج عنهم مقابل صفقة مالية.
يتجاهل نتنياهو عمدًا الصلابة العقائدية والموقف الكفاحي الراسخ لمقاومي غزة، متجاوزًا أيضًا تقارير جيشه وأجهزته الاستخبارية التي تؤكد سلامة قدرات القيادة والسيطرة لدى المقاومة وتماسك بنيتها المركزية، بل وتعافيها السريع بعد كل ضربة عسكرية، مراهنًا من جديد على فكرة الانهيار الداخلي لتعويض الفشل العسكري والاستخباراتي، دون إدراك لحقيقة أن هذا الرهان قد لا يكون أكثر من وهم يتجدد مع كل إخفاق جديد.
السيطرة على توزيع المساعدات
يذكر الإعلام العبري أن الهدف الأساسي من الجولة الميدانية التي نفذها رئيس حكومة الاحتلال، ووزير حربه الجديد، في محور نيتساريم، هو “بحث خيارات جديدة لإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع”، وأن الخطة المطروحة الآن تتمثل بإدخال الشركة الأمريكية إلى شمالي القطاع، وهي خطوة تأتي ضمن مداولات أوسع شارك فيها وزير المالية والوزير في وزارة الحرب، بتسلئيل سموتريش، المعروف بتوجهاته الداعمة للاستيطان في غزة.
تنص الخطة الحالية بشأن المساعدات الإنسانية، وفقًا لما ذكرته قناة “كان 11” العبرية، على إنشاء منطقة آمنة في شمال القطاع تحت إدارة الإمارات، لتوزيع المساعدات الإنسانية، بينما تتولى شركة أمريكية خاصة تأمين هذه المنطقة والإشراف على عمليات نقل قوافل الشاحنات.
ويُتوقع أن يُدرج هذا البند على جدول أعمال اجتماع الكابينت السياسي الأمني الإسرائيلي، لمناقشة هذه الخطة التي تحظى بدعم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الحرب يسرائيل كاتس، بحسب مصادر مطلعة نقلت عنها الإذاعة.
لكن الخطة تواجه مصاعب قانونية، أبرزها القلق الإسرائيلي من أن يُعتبر الوضع “احتلالًا” لشمالي القطاع، ما قد يؤدي إلى عواقب قضائية دولية ضد “إسرائيل”، وفي حال تم إزالة هذه العقبات، فإن الخطة ستُنفَّذ أولًا في منطقة جباليا “كتجربة أولية”، حيث ستبقى القوات الإسرائيلية في المنطقة لعدة أشهر، بدعوى أن الشركة الأمريكية تحتاج إلى فترة تتراوح بين 60 إلى 90 يومًا لتنظيم عملياتها، التي تتطلب تجهيزات من عتاد ومركبات مصفحة وأسلحة، إضافة إلى الوقت اللازم لإقامة مقر الشركة في القطاع.
في هذه المرحلة، لا يزال غير واضح من سيتولى تمويل الخطة المقترحة لإقامة منطقة آمنة في شمال غزة، فإذا لم توافق الإمارات أو أي دولة عربية أخرى على تمويلها، بسبب الطابع الذي قد يُعتبر احتلالًا للمنطقة، فإن “إسرائيل” قد تضطر لتحمل تكاليفها، ووفقًا للتقديرات الإسرائيلية، فإن التكلفة الأولية للخطة ستتراوح بين 50 إلى 60 مليون دولار، وهي تشمل تمويل الشركة الأمريكية التي ستشرف على تأمين المنطقة، إضافة إلى تكاليف تجهيز العمل، والتزود بالعتاد، والمركبات المصفحة، والأسلحة اللازمة لتنفيذ العمليات.
هذه الخطوات تعكس تداخل الأجندات الإنسانية مع المصالح السياسية والاستراتيجية، إذ يبدو أن الاحتلال يسعى لاستغلال قضية المساعدات الإنسانية كوسيلة لفرض ترتيبات جديدة على الأرض، تحت غطاء تحسين الوضع الإنساني، وفي المقابل، يُثير إدخال شركة أمريكية إلى هذه المعادلة تساؤلات عن مدى استقلالية هذه الجهود الإنسانية عن الأهداف السياسية والعسكرية الإسرائيلية في القطاع.
يعود محلل “يديعوت أحرونوت” العبرية معقبًا: “يعتقد الكثيرون أنه ليست ثمة فرصة لأن تتمكن إسرائيل من تشكيل سيطرتها على قطاع غزة.. الخيار الآن بين حماس ونظام عسكري إسرائيلي حقيقي، ومن الممكن أن تجري التغطية بالحديث عن أفكار زائفة، مثل استئجار شركات أمنية خاصة تكون مسؤولة عن الغذاء، لكن هذه الفكرة لن تساعد في القضاء على حكم حماس (الذي لا يقتصر على تأمين مجمعات توزيع المواد الغذائية)، ولن تعفي إسرائيل من المسؤولية عن مصير الفلسطينيين في القطاع”.
يُذكِّر تقرير “يديعوت أحرونوت” بالتعريف الحقيقي لفكرة السيطرة والحكم في قطاع غزة التي يحاول نتنياهو دفنها تحت الكثير من الحديث عن المساعدات وأهمية السيطرة عليها، استنادًا إلى قاعدة سموتريتش التي يكررها منذ شهور، أن “السيطرة الإسرائيلية على المساعدات الإنسانية مفتاح النجاح في المجال المدني في غزة”، والتي تلقفها نتنياهو ووضعها بوصفها محدِّدًا رئيسيًا لادعاءات الخوض في مسارات تفكيكك القدرات الحكومية في قطاع غزة.
عاد نتنياهو، الذي أقر في سبتمبر/أيلول الماضي بفشل محاولات العمل مع العشائر لتوزيع المساعدات بقطاع غزة، ليؤكد في اجتماع حكومته حينها أن “القضاء على القدرات السلطوية أيضًا أحد أهداف الحرب، وخطة التوزيع (المساعدات الإنسانية) التي تُناقَش تُعَد في الحقيقة الأهم لتحقيق هذا الهدف”.
الهدف الأساسي من تركيز “إسرائيل” على السيطرة على المساعدات هو استخدامها كبوابة تواصل مباشر بين الاحتلال أو أي من الصيغ المتعاونة محليًا أو دوليًا، مع السكان مباشرة، بهدف تطويع المجتمع لصالح أهدافها
وعلى الرغم من ذلك، فإن الواقع مغاير تمامًا، ولم تعمل حماس، أو أي من قوى المقاومة الفاعلة في قطاع غزة، على محاولة فرض السيطرة على توزيع المساعدات، كما لم تقف عائقًا في وجه أي من المؤسسات الدولية التي نشطت في الملف الإغاثي بالقطاع، حتى تلك المؤسسات التي تعمل وفقًا للمحدِّدات الإسرائيلية الساعية إلى تنفيذ عمليات إحلال بديلة لدور المؤسسات الحكومية لصالح تنفيذ المهمات بوساطة المؤسسات ذاتها.
عصابات لصوص المساعدات في غزة.. كمائن يوجهها الاحتلال لاستدراج المقاومة
في الوقت ذاته، تتصدى المقاومة لمحاولات التعاون مع الاحتلال، وهو الخط الفاصل بين المقبول والمرفوض، فلا ضرر بالنسبة للمقاومة من أي محاولة لتخفيف الأزمة الإنسانية المتفاقمة بقطاع غزة، فيما تكون المواجهة الحاسمة ضد أي شكل يدخل ضمن إطار العمالة المباشرة مع الاحتلال أو خدمة أهدافه، لكن من الجدير بالذكر أن هذه المحاولات لم تشكل تهديدًا نوعيًا للمقاومة على الأرض، حيث لم تؤثر بشكل كبير على استراتيجيتها أو تحدياتها العسكرية.
ولا شك أن الهدف الأساسي من تركيز “إسرائيل” على بحث آليات السيطرة على المساعدات ليس مجرد توزيع المساعدات نفسها، بل استخدامها كبوابة تواصل مباشر بين الاحتلال أو أي من الصيغ المتعاونة محليًا أو دوليًا، مع السكان مباشرة، بهدف تطويع المجتمع لصالح أهداف الاحتلال، وهي جهود تبوء بفشل ذريع منذ أكثر من عام بسبب المناعة المجتمعية، لا بسبب التدخل المباشر من المقاومة، التي تُركز على مهمتها الرئيسية برفع كلفة الوجود العسكري على أراضي قطاع غزة بالضربات المستمرة لجيش الاحتلال وآلياته ومواقع تمركزه.
تركيبة المجتمع الغزي
استثمرت العديد من أجهزة المخابرات العالمية، ومراكز البحث والفكر المنتشرة في مختلف أنحاء العالم، بالإضافة إلى الاحتلال وأجهزته الأمنية، وقتًا طويلاً في دراسة المجتمع في قطاع غزة ومحاولة تفكيكه، بهدف البحث عن ثغرات يمكن التسلل من خلالها لتغيير طبيعة هذا المجتمع، وجعله مطواع وأكثر مرونة وقابلية للتأثير، تمهيدًا لإحداث تغيير استراتيجي طويل الأمد في القناعات والعقول وطريقة التفكير، وهي رؤية يسعى نتنياهو لتحقيقها للوصول إلى نوع من التأثير الدائم على المجتمع الفلسطيني.
فيما يتعلق بالتوزيع الديمغرافي في قطاع غزة، تشير الإحصائيات إلى أن 66% من السكان من اللاجئين، موزعون على 8 مخيمات تنتشر في محافظات القطاع الخمسة، ما يخلق معادلة ديمغرافية تجعل من الصعب فرض سطوة عشائرية أو نزعات عصبوية ذات تأثير واسع.
“GDC” و”اليوم التالي”: مخطط لتقسيم غزة إلى بؤر معزولة ومطوّقة ومليئة بالطعام
عدا عن أنه لا توجد أي عشيرة في القطاع تفوق نفوذها في الحي الذي تقطنه، مثل عشائر أحياء الشجاعية أو الزيتون أو الصبرة، أو في مناطق مثل بيت حانون وبيت لاهيا، وخان يونس ورفح، ما يضعف من قدرة القوى التقليدية على السيطرة أو التأثير على المجتمع.
في المقابل، بيئة القطاع منظمة، سمحت سنوات طويلة من النشاط الفصائلي والحزبي المرتاح نسبيًا، والذي توسَّع بعد الانسحاب من قطاع غزة، بأن تبني القوى الوطنية والإسلامية قواعد متينة وصلبة على امتداد القطاع، يسود فيها الحضور التنظيمي كل تجمع سكاني في قطاع غزة، بما فيها التجمعات العشائرية الكبرى، ما يجعل جمهور القطاع في غالبيته الكبرى جمهورًا منظمًا يحظى بِصلات تنظيمية وفصائلية مباشرة أو غير مباشرة، ويقع ضمن حدود تأثيرها.
وبخلاف السائد، لا يسيطر على الرأي العام في قطاع غزة لون فصائلي محدد بعينه، بل على العكس تمامًا، فجمهور قطاع غزة موزع على التركيبة الفصائلية الفلسطينية من يمينها إلى يسارها، وهي قوى تنجح جميعها في حشد أنصارها بالآلاف في الشوارع بالمناسبات والمحطات الوطنية.
يمكن ملاحظة هذا الحضور الواضح من خلال حجم الانخراط الكبير في معادلات المقاومة والاشتباك اليومي مع جيش الاحتلال، حيث تبرز أسماء لتشكيلات فصائلية تاريخية كان حضورها قد انحسر في العديد من الساحات الأخرى، لكنها لا تزال قادرة على العمل والمساهمة بشكل فعال في قطاع غزة.
وعلى الرغم من الاختلافات الأيديولوجية والسياسية بين هذه الفصائل، بما في ذلك اختلافات أساسية مع حركة حماس، فإنها تجتمع في تشكيل جدار رفض وصمود أمام الاحتلال، وتتوحد في ساحات المواجهة والمقاومة.
في السياق ذاته، وعلى الرغم من الحملة المستمرة لعملية “كي الوعي” ضد أهالي قطاع غزة منذ أكثر من عام، التي تهدف إلى تأليب الحاضنة الشعبية على المقاومة وخلق بيئة معادية لها، فإن جمهور القطاع يظل شديد التمسك بمبادئه، ورافضًا لأي محاولات لزعزعة قناعاته عن أرضه وحقه في الحياة والمقاومة، فمن يرفض التهجير ويصر على البقاء في منزله، ومن يواجه النيران يوميًا في مقاومة لخطط الاحتلال، لن يقبل بأي مؤامرات تحت ضغط التجويع.
على الرغم من المحاولات المحمومة، سواء عبر الترهيب أم الترغيب، واستخدام كل أساليب الدعاية والتضليل، فشل الاحتلال – ولن ينجح – في كسر حاجز القبول لدى أهالي قطاع غزة للتعامل مع صيغ جوهرها احتلالي وتُشكل مسارًا يمكن لحكومة الحرب الإسرائيلية الاتكاء عليه، وفي ظل تجاوز الحرب عامها الأول، وما حمله من قتل ودمار وتجويع وتهجير قسري، خاصة في المناطق الشمالية للقطاع.
من المهم إدراك أن بيئة قطاع غزة ليست بيئة سهلة أو قابلة للنفاذ من خلالها لمخططات خبيثة أو صيغ تُصنع في غرف المخابرات أو الاجتماعات الإقليمية أو عبر عروض من شركات دولية ومقاولين أمنيين، فهي بيئة منيعة، تتميز بالرفض والعزة والكرامة كطابع رئيسي لها، يجعل من الصعب تمرير أي خطط لا تتوافق مع إرادة الشعب الفلسطيني في القطاع.
وكخلاصة، يُمكن القول إن الهوس الإسرائيلي بقضية المساعدات ليس سوى رهان على مزيد من الوهم في مواجهة معضلة يتضح يوميًا مدى عمقها، فأي شكل من أشكال “اليوم التالي” لقطاع غزة لا يمكن أن يتحقق دون توافق وطني فلسطيني حقيقي، في ظل مناعة وصلابة مجتمعية جعلت من “اختراق الحاجز النفسي” هدفًا استنزف الاحتلال من أجله طاقات وموارد كبيرة دون أن يحقق أي تقدم.
بناءً عليه، لا أفق لأي نجاحات إسرائيلية في الملف الأكبر، المتمثل في إعادة هندسة قطاع غزة وفقًا للمعايير الإسرائيلية، دون أن يكون هناك تورط عسكري مباشر من الاحتلال في حكم القطاع، أو الإقرار بالفشل الكامل والتسليم بالوصفات الإقليمية التي تُطرح في اجتماعات الدول العربية، مع الاعتراف بالتوافق الفلسطيني ونزول الاحتلال عن “شجرته”.