في خطوة تعزز الحضور الثقافي التركي في مصر، أنشأ معهد يونس أمرة بالقاهرة أول مكتبة تركية بجامعة الأزهر في إطار التعاون القائم بين المؤسستين، تحوي ما يقرب من 700 كتاب في مختلف الفروع والأطر المعرفية، بمراسم خاصة حضرها مدير المعهد وعميد كلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر ورئيس قسم اللغة التركية وعدد من أعضاء هيئة التدريس بالقسم.
المعهد المنتسب اسمًا للشاعر التركي يونس أمره، الذي يهدف إلى نشر اللغة والثقافة التركية، من خلال فروعه في نحو أربعين دولة، يسعى من خلال دبلوماسيته الثقافية إلى تقديم الدعم لطلاب قسم اللغة التركية إضافة إلى التعريف بالثقافة التركية في واحدة من أكثر بقاع القاهرة انتشاءً بالحضارة العثمانية.
تقع المكتبة في الإطار المحيط بما يسمى “درب الاتراك” وهو اسم الشارع الموجود خلف الجامع الأزهر مباشرة، وقد سمي بهذا الاسم، نسبة إلى الطلاب الأتراك الذين كانوا يأتون قديمًا للدراسة بالأزهر ويقيمون فيه، كما سُمي أيضًا، رواق الأفغان ورواق الشام نظرًا لإقامة طلاب أفغانستان وبلاد الشام فيه.
درب الأتراك.. واحة التراث العثماني
المصريون يطلقون على الأحياء الصغيرة التي تتميز بحرفة ما أو نشاط مهني ما بـ”الدرب” ويتميز بمبانٍ تراثية عتيقة وشوارع ضيقة إلى حد ما، وعلى رأس ذلك يأتي “درب الأتراك” الملاصق للجامع الأزهر الذي يزخر بمكتبات تقارب في عددها المئة تبيع كتب التراث الإسلامي وسط معالم أثرية إسلامية تنتشي بالطراز العثماني.
يغلب على الدرب الطابع الإسلامي من زخرفة ونقوش، ومعظمها يعود إلى العصر العثماني (1517-1867)، ويكفي المار فيه لحيظات قليلة حتى يشعر وكأنه في حواري إسطنبول وغازي عنتاب وغيرها من المعالم التراثية التي تجسد لتلك الحقبة التاريخية التي نجحت في تحقيق انتشار قلما حققته حضارة أخرى.
بعد رحيل الأتراك العاملين في المكتبات من الدرب لم يغير المصريون اسمه وحافظوا عليه رغم محاولات البعض استبداله باسم آخر وهو ما رفضه أصحاب دور النشر الذين أصروا على بقائه بنفس الاسم الذي صنع لهم تاريخًا
محمد عبد السلام مدير إحدى دور النشر في الدرب، أشار إلى أن تسمية الدرب بهذا الاسم جاءت نسبة إلى اكتظاظه بعشرات الأتراك الذين جاءوا قديمًا واستقروا بين جنباته، حيث عملوا في مجال الطباعة والنشر، وبنوا العديد من المكتبات التي حملت أسماء تركية إسلامية بداية الأمر.
وأضاف عبد السلام خلال حديثه لـ”نون بوست” أنه بعد رحيل الأتراك العاملين في المكتبات من الدرب لم يغير المصريون اسمه وحافظوا عليه رغم محاولات البعض استبداله باسم آخر وهو ما رفضه أصحاب دور النشر الذين أصروا على بقائه بنفس الاسم الذي صنع لهم تاريخًا وشهرة طيلة العقود الماضية.
أما بخصوص واقع الأتراك في الدرب حاليًّا، أوضح أن الطلاب الأتراك الدارسين في الأزهر هم ما تبقى حتى الآن، كاشفًا أنهم يشعرون بأنهم في بلدهم الثاني خلال مرورهم من شوارع الدرب الضيقة، حتى إن بعضهم يتعامل معك كأنه مصري المولد والنشأة لما وجده من انصهار كامل في المجتمع في ظل حفاوة بالغة من المصريين هناك.
جدير بالذكر أن الدرب رغم مساحته المحدودة إلا أنه بات قبلة الغالبية العظمى من طلاب جامعة الأزهر القريبة منه التي تضم 14 كلية، بمتوسط 3 آلاف طالب في الكلية الواحدة من جنسيات مختلفة، الأمر الذي حوله إلى لوحة فنية مبهجة مطرزة بعشرات الجنسيات من البلدان المختلفة.
درب الأتراك
التراث الإسلامي
يحتوي الدرب على قرابة مئة مكتبة مقسمة على الشوارع الرئيسية الأربع، متخصصة في كتب التراث والعلوم الإسلامية والتاريخ، وهي النوعية التي تشتهر بها مكتبات الدرب التي أصبحت قبلة الباحثين عن هذا التخصص، وهو ما أشار إليه محمد عيد، مدير علاقات الناشرين ببنك المعلومات العربي “أسك زاد”.
عيد لـ”نون بوست” أشار إلى أن طبيعة عمل البنك المعلوماتي تقتضي إبرام عقود مع أصحاب دور النشر لعرض مطبوعاتهم على الإنترنت، لافتًا إلى أن مكتبات الدرب تعد من الأكثر انتشارًا في مصر رغم أحجامها المتواضعة وإمكاناتها البسيطة، فقد استطاعت على مر التاريخ أن ترسخ اسمها وتحفظ مكانتها مقارنة بغيرها من دور النشر الحديثة والمتطورة.
بفضل المدارس الحديثة التي أقيمت في عهد محمد علي والكتب التركية التي أخرجتها مطبعة بولاق بأعداد كبيرة أقبل أيضًا الأهالي المحليون المتحدثون بالعربية على الثقافة التركية العثمانية
وأضاف أن الكتب الخاصة باللغة العربية والفقه الإسلامي هي الأكثر مبيعًا في ضوء شهادة بعض أصحاب دور النشر، موضحًا أن الطلبة الوافدين للدراسة في جامعة الأزهر لا سيما الإندونيسين هم الأكثر إقبالاً على شراء تلك الكتب التي يحتوي بعضها على نوادر التراث الإسلامي.
وعن أشهر الكتب مبيعًا في الدرب، لفت إلى كتاب “فتح الباري” لصاحبه ابن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 1448 ميلادية، و”إحياء علوم الدين” للشيخ المصري أبو حامد الغزالي، المتوفى سنة 1111 ميلادية، بجانب كتب “صحيح البخاري” و”صحيح مسلم” التي تحافظ على تفوقها دائمًا كأكثر الكتب مبيعًا في مصر بأكملها.
ما يقرب من 100 مكتبة في الدرب موزعين على 4 شوارع رئيسية
التراث الثقافي للأتراك في مصر
في كتابه المعنون بـ”الأتراك فى مصر وتراثهم الثقافي” الصادر عن دار الشروق بالقاهرة 2011 استعرض البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو الخريطة الثقافية للأتراك في مصر قديمًا وحديثًا، مشيرًا إلى أن التأثيرات التركية في مصر لم تتوقف كما يعتقد البعض عند الثقافة والموسيقى والفنون والآداب بل امتدت إلى الطباعة والحياة العسكرية لغة وإدارة والنظام التعليمي والترجمة والطبخ والأزياء والصحف، منوهًا إلى أن جريدة “الوقائع” المصرية هي أول جريدة تركية عربية تصدر 1828.
أوغلو في كتابه كشف “أنه بفضل المدارس الحديثة التي أقيمت في عهد محمد علي والكتب التركية التي أخرجتها مطبعة بولاق بأعداد كبيرة أقبل أيضًا الأهالي المحليون المتحدثون بالعربية على الثقافة التركية العثمانية، وأدى ذلك إلى ظهور النموذج الثقافي العثماني المصري إلى جانب النموذج التركي العثماني”.
غلاف كتاب “الأتراك في مصر وتراثهم الثقافي”
كما أكد أن التأثيرات الاجتماعية التي وقعت بين الأتراك – الذين وفدوا على مصر واستوطنوها على مدى السنين – والمصريين، قد ترسخت حتى أصبحت وكأنها جزء لا يتجزأ من المجتمع المصري، مقسمًا من وجهة نظره أوضاع الأتراك في مصر إلى مسارين: أولهما يبين انصهار البعض منهم في المجتمع المصري سواء كانوا من طبقاته الفقيرة أم المتوسطة أم من الفئات والنخب الإدارية، والثاني هو الذي انضوى فيه ملاك الأراضي والأبعديات الواسعة والمشاركون بشكل فعال في الحياة السياسية.
إلا أنه سلط الضوء أكثر على المسار الأول، ضاربًا المثل بعدد من المثقفين المصريين من ذوي أصول تركية، على رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي ورائد القصة القصيرة العربية يحيي حقي، فالأول ينتمي بأصوله العائلية إلى أتراك مصر، والثاني حفيد رجل تركي نزح إلى مصر من شبه جزيرة المورة في أوائل القرن التاسع عشر، ولكليهما تأثيرهما الثقافي الذي لا يزال صداه قائمًا حتى اللحظة، هذا بخلاف الموسيقار الشهير عبده الحامولي الذي قدم العديد من المقامات والألحان التركية لأول مرة إلى مصر، ومن بينها مقامات النهاوند والحجازكار والعجم عشيران.