أعلنت شبكة نتفلكس مؤخرًا تحويلها لرواية “مائة عام من العزلة” الشهيرة إلى مسلسل سينمائي، وقد خالف ذلك وصية صاحبها الكاتب اللاتيني الأبرز الحائز جائزة نوبل غابرييل غارثيا ماركيز، بأنه لا يمكن تحويل تلك الرواية إلى عمل فني إلا على مدار حلقات مقسمة على مائة عام! وها أنا اعتبرها فرصة للتحدث عن ماركيز والانفتاح على عالمه الأدبي وحياته هو ونده الأشهر ماريو بارغاس يوسا الأديب المحنك واليساري العتيد.
عند التحدث عن الأدب العالمي وفحول الكتاب نجد أن كل كاتب من الحاصلين على جائزة نوبل كان له ما يميز كتاباته، وفي الغالب ما يمثل منطقة جغرافية محددة، ولكن كان الاستثناء مع أدب أمريكا اللاتينية الذي حاز أكثر من ستة كُتاب تلك الجائزة، منهم بابلو نيرودا وساراماغوا وأوكتافيو باز وغيرهم من الأدباء، ولكن نجد أن بطلي حديثنا اليوم تميزا بشيء خاص عن باقي الأدباء، غير حصولهما على نوبل في الآداب، وهو علاقتهما وصداقتهما الوطيدة التي تحولت إلى واحدة من أبرز الخصومات في الأدب العالمي بعد ذلك، إذ جمعت بينهما الكتابة ومنحتهما حياة أخرى، ورغم أن الصداقة توقفت إلا أن الوفاء بالعهد والاحترام لم ينقص واحدًا منهم.
رابطة الصداقة والحب بين الأديبين الكبيرين
ولد ماركيز عام 1927 وتوفي عام 2014، بينما ولد يوسا عام 1936 وما زال يعيش بيننا إلى الآن، ونستنتج من تلك التواريخ أنه كان هناك فارق عمري بينهما، ولكن الصداقة لم تعرف ذلك ولم تفرق بينهما، ما فرق بينهما كان شيئًا آخر، عرف يوسا صديقه عن طريق قراءته لأعمال ماركيز الأدبية وإعجابه بها، ثم بدأ بمراسلته وتعرفا على بعض ونشأت بينهما علاقة صداقة قوية حتى قبل أن يلتقيا في مطار كاراكاس، واستمرت صداقتهما لسنوات طويلة.
عند وضع يوسا وماركيز في مقارنة أدبية فإنه من الصعب القول إن هناك واحدًا أفضل من الثاني، ليس لأن كلاهما حاز جائزة نوبل فحسب، بل لأن الاثنين قدما أدبًا ملحميًا رائعًا لا يضاهيه شيئًا
يمكننا القول إنها ترجع إلى تشابه شخصياتهما كما أقر يوسا في حوار له من قبل، وللأسف الشديد انتهت تلك العلاقة في فترة الستينيات، لسبب مجهول، عندما لكم يوسا ماركيز على وجهة في أحد المسارح المكسيكية، دون أن نعرف سببًا واضحًا لذلك، ويرجح البعض أن الخلاف كان سياسيًا بسبب إيمان أحدهما بالوقوف مع الثورة الكوبية والآخر لم يقتنع بذلك، وآخرون يرجحون أن هناك خلافات بسبب زوجة يوسا وأن ماركيز غمز لها وغازلها، ورغم كل تلك الاجتهادات في معرفة السبب، فإن الأديبين اتفقا على الحفاظ على العهد بينهما وعدم إفشاء سر ما حدث أبدًا، وحقق ماركيز تلك النقطة فعلًا ومات وقد أوفى بعهده وأقر يوسا باحترامه لذلك العهد أيضًا وأنه سيفعل مثل ماركيز ولن يفشي هذا السر.
رائعة أعمالهما
عند وضع يوسا وماركيز في مقارنة أدبية فإنه من الصعب القول إن هناك واحدًا أفضل من الثاني، ليس لأن كلاهما حاز جائزة نوبل فحسب، بل لأن الاثنين قدما أدبًا ملحميًا رائعًا لا يضاهيه شيئًا، فلا يمكننا أن نحصر أدب كل منهما في نقطة واحدة، ولكن يمكننا القول، بحكم المبيعات والانتشار أن رواية مائة عام من العزلة كانت واحدة من الروايات الأكثر مبيعًا في العالم كله، إذ بيعت منها 50 مليون نسخة وفقًا لآخر الإحصاءات، وما زالت ترتفع المبيعات إلى الآن، كما تعد ثاني أكبر مبيعات في إسبانيا بعد الكتاب المقدس، وتحكي الرواية قصة عائلة منذ بداية أول شخص فيها وتكوينها إلى أن مات آخر أفراد العائلة، هي رواية ملحمية عبقرية ليس لها مثيل، فقد جسدت قصة البشرية كلها في كتاب.
ورغم عظمة هذا الكتاب لا يمكننا القول إنه العمل الوحيد الرائع، فقد ألف ماركيز قصة حب ملتهبة في روايته “الحب في زمن الكوليرا” وتحدث عن موضوعات أخرى مميزة مثل “ليس للكولونيل من يكاتبه” و”خريف البطريرك” وغيرها من القصص والروايات التي تدور كلها في إطار القارة اللاتينية.
بينما إن تحدثنا عن يوسا الذي أبدعنا بأفكاره العبقرية ووجهة نظره الفذة، سنجد أن كتاباته أخذت طابعًا أكثر تنوعًا وحيوية، ولم ترتبط بنمط أو مكان محددين، وإن حظت بشعبية أقل إذا قارناها بماركيز، ولكن إذا نظرنا إلى كتابات يوسا سنجدها تتراوح بين “حفلة التيس” روايته الأشهر التي تتحدث عن الأنظمة الديكتاتورية وما بها من قمع، وعما بها من ذكاء سياسي وحبكة روائية مبهرة، وقد كتب كذلك “شيطنات الطفلة الخبيثة” قصة الحب الأغرب.
كتب يوسا عن السياسة وتأثر بها، وأدخلها لحياته كذلك، وكانت له آراء سياسية واضحة، فقد ترشح عن حزب اليمين الإصلاحي إلى رئاسة دولته “البيرو” وخسر المنافسة في الجولة الأخيرة
وفي “من قتل بالومينو موليرو” تحدث عن جريمة ولغز وكذلك لم تخل من الحب والسياسة، بجانب كل هذا كتب يوسا “امتداح الخالة” الرواية التي تتحدث عن طفل يشتهي زوجة أبيه وهي نوع من الأدب الإيروتيكي الذي عُرف به يوسا، بجانب “رسائل إلى روائي شاب” الكتاب الذي أهدى فيه يوسا نصائحه الأدبية لكل الكتاب الصغار في العالم وعن الكتب التي أثرت في مسيرته الأدبية، و”بانتاليون والزائرات” التي ناقشت أحد الموضوعات التافهة بعض الشيء بشكل جدي، فهي تتحدث عن توفير فتيات داعرات للجيش البروفي ويتم ذلك بدقه شديدة، وغيرها من الأعمال الأخرى التي كان لها صدى على عدة مستويات.
التأثير السياسي والفلسفي لكل منهما
كتب يوسا عن السياسة وتأثر بها وأدخلها لحياته كذلك، وكانت له آراء سياسية واضحة، فقد ترشح عن حزب اليمين الإصلاحي إلى رئاسة دولته “البيرو” وخسر المنافسة في الجولة الأخيرة، وهذه نتيجة تعبر عن شعبية كبيرة رغم الخسارة، ولكن بعدها انتقل يوسا لإسبانيا وحصل على الجنسية الإسبانية وأقام فيها، مما أحزن الكثير من محبيه، كما كان ليوسا رأيًا سياسيًا مهمًا في حياته وهو التأييد والاتفاق على الثورة الكوبية في البداية ثم التراجع عن الموقف وندد بتصرفات الحزب الشيوعي مما أثار غضب أصدقاء يوسا والمحيطين به، وبجانب كل هذا نجد أن يوسا كان له رأي في الثورات العربية أيضًا.
تميز ماركيز باتباعه أو صناعته، على حد قول البعض، لطريقة الواقعية السحرية في الكتابة، أو كما كانت تُسمى في البداية “الواقعية العجائبية” وهي تعني وصف الأساطير والأعمال السحرية جنبًا إلى جنب مع أعمال الروتين اليومية للبشر، كما حدث في أغلب أعماله، بينما من الناحية السياسية نفى تمامًا ماركيز كونه شيوعيًا وانتمائه لأي حزب سياسي عندما سُئل هذا السؤال من قبل، وكانت رغبته الواضحة في أن يكون كل العالم اشتراكيًا وتنبأ له بذلك.
رغم عداء يوسا وماركيز لم يقلل أي منهما من أدب الآخر أو مكانته الأدبية، ولكن كان يوسا متأزمًا بشكل مستمر لأن ماركيز سبقه بجائزة نوبل، ولم يهدأ إلا بعد أن حصل عليها، ورغم العداء والاختلاف فإن الاثنين قدما للبشرية أدبًا من أروع ما يكون.