الشباب هم الثروة الحقيقية لأي وطن بل والقوة الرئيسية له، فاستغلال طاقاتهم وتوظيفها هو النجاح الحقيقي لأي قيادة تتولى الأمر، لأنهم يملكون طاقات كبيرة وطموحًا لا ينتهي وأحلامًا ليس لها حدود وأفكارًا مليئة بالحيوية والنشاط، هذه الفترة يملأها الحلم لبناء الوطن والذات، ولرسم مستقبل كلاهما، فهذه الطاقة والأفكار إما أن تكون يدًا تبني وطن، وإما أن تكون كابوسًا حقيقيًا على أي وطن.
ويتوقف دور الشباب على الوطن الذي إما أن يُكسب الشباب الثقة ويفعّل طاقاتهم الكامنة ويجعلهم شركاءً في بنائه أو يفقدهم الثقة في أنفسهم وفي الوطن، ويجعلهم اليد التي تهدم والعقل الذي يهاجر والمنافق أو المتملق من أجل الوصول إلى مجد شخصي والمتعلم الجبان الذي يعلم الحقيقة ويخاف من بطش الوطن والسلطة، فتتحول طاقاتهم إلى كابوس حقيقي.
ومهما تمتلك الأوطان من ثروات فهي لن تُستثمر أبدًا ما دام قد فقد الشباب الثقة في أوطانهم، وهذا ما نعانيه في أوطاننا العربية من عدم شعور الشباب بقيمتهم، بل يستشعرون دومًا بأن الخطط تُحاك ضدهم وضد طموحهم وأفكارهم.
أصحاب الفكرة شباب تركي، أخلصت الدولة لهم، فتولد لديهم الانتماء ورد الجميل بالفكر والعقل والقلم، وفتحت لهم الدولة كل الأماكن، وجعلتهم يتكلمون بكل حرية وبثقة، ونزعت منهم الخوف
في أوطاننا العربية يعاني الشباب من أمور كثيرة، ومن تلك الأمور عدم شعورهم بأنهم شيء ذو قيمة كبيرة لدى أوطانهم، بل يشعرون بأنهم يُحاربوَن ليل نهار خصوصًا إذ كانوا أصحاب فكر وقلم، بل إذا لم يهاجروا من الوطن سيصبحون سجناء هذا الوطن، وهنا يحضرني قول الدكتور أحمد زويل عندما قال: “ليس الغرب بأذكياء ونحن العرب لسنا بأغبياء، ولكنهم يجعلون الفاشل ناجحًا ونحن نجعل الناجح فاشلاً”.
وأيضًا يحضرني قول الصحفي البريطاني روبرت فيسك عندما قال: “زرت العرب كثيرًا ورأيت بيوتهم نظيفة جدًا ومرتبة، ولكن هذا على عكس شوارع أوطانهم، وهذا يجعلنا نقول إن العرب يشعرون أن بيوتهم ملكهم فيهتمون بها، ولكن لا يشعرون أن الوطن ملكهم فلا يهتمون”، فعندما يهتم الوطن بشبابه ويرعاهم ويشاركهم الأفكار ويحول أحلامهم إلى واقع يكون هذا مفهوم الانتماء الحقيقي، ولكن عندما يكبت رأيهم ويفرض رأيه عليهم بجهل ويعدم فكرهم، هنا تكمن المصيبة، فهنا يصنع الوطن متطرفًا أو ساخطًا عليه ولا يريد البقاء فيه، فَيُفرِغ الوطن من عقله، وهنا لا تنفع ثروات الأوطان ولا تسمن ولا تغني من جوع، ما دام هؤلاء الشباب خارج نطاق الوطن.
هؤلاء الشباب بدأوا فكرتهم بفيديوهات مباشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولاقت أفكارهم استحسان الكثير من الشباب التركي بل ومن فئات المجتمع كافة، وازداد انتشارهم في كل المدن التركية، وأصبح لهم مقرات وقاعدة من الجمهور كبيرة
ومن هنا أحكي عن واقع لامسته وفكرة عايشتها في بلاد مسلمة، تأخذ خطوات جدية في بناء الوطن ونجاح التجربة الديمقراطية ومشاركة الشباب في مفاصل الدولة كافة، تلك الفكرة في دولة تركيا، وأصحاب الفكرة شباب تركي، أخلصت الدولة لهم، فتولد لديهم الانتماء ورد الجميل بالفكر والعقل والقلم، وفتحت لهم الدولة كل الأماكن، وجعلتهم يتكلمون بكل حرية وثقة، ونزعت منهم الخوف، حتى لو عارضوا النظام والدولة ما داموا على علم ورؤية، وهذا هو الذكاء بأن تستغل طاقاتهم وأفكارهم، وتجعلهم المراقبين والموجهين للدولة عند الخطأ بإخلاص، وهم أمام أعينها حتى لا يستغلهم الآخرون بسبب الظلم والكبت الواقع عليهم.
تلك الفكرة التي رأيتها وأعجبتني كثيرًا، أصحابها بالكامل شباب تركي مثقف وواع، ولديه رؤية حقيقية وإخلاص وحب لوطنه والأجمل حبهم لعقيدتهم، فهؤلاء الشباب بدأوا فكرتهم بفيديوهات مباشرة على مواقع التواصل الاجتماعي ولاقت أفكارهم استحسان الكثير من الشباب التركي بل ومن فئات المجتمع كافة، وازداد انتشارهم في كل المدن التركية، وأصبح لهم مقرات وقاعدة من الجمهور كبيرة، بل وجلسات ولقاءات أسبوعية، من مختلف الأفكار والأيدولوجيات السياسية المختلفة والمتفقة على حب الوطن.
تلك الفكرة المنتشرة والمعروفة للكبير والصغير في تركيا تسمى “بشاي هاوس çay house“، ولكن هل عملت الحكومة التركية على إعاقة هذه الفكرة خصوصًا أنها تناقش أمورًا دينية وسياسية؟ في حين نرى أن تلك الأمور في أوطاننا العربية، تعد جريمة وانقلابًا على السلطات، فلماذا هذا الخوف من وجهة نظرك؟
ليس الشباب فقط، فقد رأيت جميع أطياف المجتمع، من أطفال ومراهقين وشباب وكبار سن، والأغرب أن أرى كل الأفكار والأيدولوجيات السياسية موجودة، فاندهشت لذلك لأننا تعودنا في أوطاننا العربية أن أصحاب الأفكار المختلفة في كراهية وعداء دومًا ولا يلتقون إلا على طاولة عدوهم أو مسؤول فاسد
أما عن فكرة شاي هاوس فقد عرفتها عندما دعاني صديقي التركي يومًا للذهاب معه إلى مقرهم، فأنا أحب اكتشاف كل تجربة ناجحة، وإيجابيات وسلبيات كل دولة أسافر إليها لكي أتعلم منها، عسى أن يأتى اليوم الذي أنفع فيه وطني، وأيضًا لأن تخصصي في مرحلة الدكتوراه هو التاريخ السياسي، فهذا يتطلب مني أن أكتشف كل التجارب وأدونها، فذهبنا إلى أحد لقاءات شاي هاوس التي تعقد غالبًا مساء كل جمعة، فرأيت فيها ما لم أتخيله، وما كنت أتمناه أن يحدث في داخل وطني، فوطني مليء بمثل هؤلاء الشباب، رأيت بناء مكونًا من عدة طوابق، وكان هناك عدد غفير من الناس، وليس الشباب فقط، فقد رأيت جميع أطياف المجتمع، من أطفال ومراهقين وشباب وكبار سن، والأغرب أن أرى كل الأفكار والأيدولوجيات السياسية موجودة، فاندهشت لذلك لأننا تعودنا في أوطاننا العربية أن أصحاب الأفكار المختلفة في كراهية وعداء دومًا ولا يلتقون إلا على طاولة عدوهم أو مسؤول فاسد.
لقد كنت متشوقًا أكثر لمعرفة سبب وجود مثل هذا العدد، فبدأت المحاضرة الأولى بقراءة القرآن ومن ثم بدأت بعرض موضوع ديني وكان موضوعها عن الكلاب والقطط أيهما نجس وأيهما طاهر، وبدأوا في سرد الأحاديث النبوية والدلائل، خصوصًا أن مثل هذه الحيوانات منتشرة في تركيا ومختلط الأمر على الناس فيها، وبعد المحاضرة تشكلت تلقائيًا دوائر من كل الموجودين الذين لا يعرفون بعضهم البعض، وفي كل دائرة جميع الأعمار والأفكار.
وكانت الدوائر عبارة عن حلقات نقاشية محترمة بأسلوب علمي راقٍ، والكل يقول وجهة نظره في مواضيع تخص الدين والدولة والسياسة، والأطفال عيونهم كلها شغف وفرح مما يحدث حولهم من تلقي العلم والاطلاع على أفكار المجتمع كافة، وقيمة المواضيع المطروحة الأكبر من سنهم، وخلال تلك المناقشات يأتي أحد بالشاي التركي ومعه البسكويت وبعض الحلوى، وكل دائرة تتكلم في أي موضوع كما تحب وكما تريد ويقدم لها نفس الضيافة، جو يملأه السعادة خصوصًا أن تلك الموضوعات تمس حياتهم اليومية، وتهم أوطانهم وعقيدتهم.
بكيت لأن الكثير من أوطاننا العربية محرومة من تلك الطاقات والأفكار، رغم ما تملكه هذه الأوطان من ثروة فكرية وبشرية كبيرة جدًا
وبعد نصف ساعة أو يزيد من النقاش وتعارف الحضور ببعضهم البعض، تأتى المحاضرة الثانية وتكون خاصة بقضية من قضايا الوطن وغرس الانتماء لدى الحضور، فكانت القضية المطروحة هي كيفية القضاء على الفاسدين وفساد المجتمع، وكيفية العطاء للوطن دون مقابل، والأجمل أنه تم ربط الموضوع بالدين والعقيدة، وذكر قصة السامري الذي ضل بني إسرائيل في غياب سيدنا موسي، بصناعته العجل الذي له خوار، وتكلم عن أن الإنسان لا بد أن يعمل لآخرته كما يجتهد ليل نهار للعمل من أجل دنياه، وأيضًا تكلم عن ضرورة العمل وعدم التواكل لأن الأوطان تبنى بالعمل والسعي لا بالكسل والانتظار، فحقًا ما أجمل هذا الفكر الذي يربط الدين بالسياسة، ويرسخ الفكر والعقيدة لدى الكبير والصغير من أجل شيء واحد اسمه الوطن، وشيء أكبر منه اسمه الأمة، وشيء آخر يحتضن الوطن والأمة داخل منهجه هو العقيدة.
لكن بكيت لأن الكثير من أوطاننا العربية محرومة من تلك الطاقات والأفكار، رغم ما تملكه من ثروة فكرية وبشرية كبيرة جدًا ولكنها مشردة ومقهورة، بكيت عندما رأيت كل الأفكار والأيدولوجيات على طاولة نقاش واحدة، مختلفة الفكر ولكنها متفقة في الإيمان بالعقيدة وحب الوطن، ولكن أجمل صفة في هؤلاء الشباب القائم على هذه الفكرة، انشغالهم بحال العالم الإسلامي ومعرفة كل شيء عنه، وحبهم الجارف للمسلمين والأمة، فمتى نرى مثل هذه الأفكار في بلداننا العربية؟ متى نؤمن بشبابنا العربي ونشاركهم ونعطيهم الراية والقيادة والثقة؟
نرى هنا ذكاء الحكومة التركية، بأن عملت على تشجيع ومشاركة هؤلاء الشباب العمل في كثير من الأحيان بأفكارهم، ومشاركة رؤساء البلديات لجلساتهم ولقاءاتهم، وفتحت لهم المنابر الإعلامية للتعبير بكل حرية عن آرائهم ما دامت تحمل صفة العلم والرؤية والفكر، فلما لا وهم الأصحاب الحقيقيون للوطن، والخلفاء القادمون للمناصب والسلطة، فيجب السماع لهم وتوجيههم إذا أخطأوا ليتعلموا ويصبحوا قادة لبلادهم متمرسين في السياسة والقرار، حتى إذا تولوا الأمر يكونون على قدر المسؤولية لبناء وتقدم وطنهم.
ولكن في أوطاننا العربية مثل هذه الأمور من المحرمات، وكم من شاب صاحب كلمة حق ومحب لوطنه كانت رقبته هي الثمن، وكم من معارض للظلم ولو بورقة مكتوب عليها فقط ارحل كان جزاؤه المعتقل، فهنا الفرق بين نظام ودولة تعي من الشباب وتسخر ثروات الوطن لهم فتصنع جيلاً لديه انتماء كبير لوطنه، وأنظمة ودول أخرى تخشي من كلمة ومن شباب، فتجعلهم مشردين ما بين معتقل وقتيل وجريح ومهاجر بل وتصفهم أحيانًا بالإرهاب، فكيف يحب هؤلاء الشباب مثل هذه الأوطان ويولد لديهم انتماء؟