في رحلته التي تبثّها نيتفلكس على مدار أربع حلقات فقط ضمن سلسلة وثائقية تحمل اسم “عالم الكوميديا الخطير“، يقدّم لنا لاري تشارلز خلاصة تجربة سفره عبر “مناطق الكوميديا الخطرة” كما يصف لنا في الحلقة الأولى، ليحكي لنا حكاية الكوميديا في بقاعٍ مختلفة من العالم حيث الخطر والقمع، ويكشف ما الذي يجعل الناس المختلفين يضحكون وكيف يشعرون بروح الدعابة.
يسافر تشارلز إلى كلٍ من روسيا والصين والهند وإيران ونيجيريا والسعودية وأمريكا، الأماكن الخطرة والقمعية التي تحتضن عددًا من الكوميديّين الذي شقّوا وما زالوا يشقّون طريقهم في ظل قمع السلطات وعداء المجتمعات لهم، وهو بذلك يسلّط الضوء على مدى خطورة عالم الكوميديا والصعوبات أو التحديات التي تحيط به من كلّ جانب.
تريلر الموسم الأول من برنامج “عالم الكوميديا الخطير” الذي يقدّمه لاري تشارلز وتبثّه نيتفلكس
أعدّ تشارلز برنامجه انطلاقًا من فكرته عن الكوميديا بوصفها “استعارة جيدة لدراسة المجتمع”. وهكذا سافر إلى العديد من البلدان التي تعجّ بالاضطرابات السياسية والاجتماعية بحثًا منه عنه إجاباتٍ تخصّ تلك المجتمعات المختلفة.
كيف تتحوّل الصدمة إلى كوميديا؟
يبدأ تشارلز رحلة عالمه الخطير في العراق حيث كانت الكوميديا أكثر شيوعًا قبل وصول داعش، الأمر الذي يجعل من قتل الكوميديّين أو اختطافهم أو تهديدهم حالةً شائعة جدًا. الأمر نفسه في ليبيريا حيث يواجه عالم الكوميديا خطرًا سياسيًّا وصعوبةً اقتصادية كبيرة مما يجعل من المستحيل عمليًا كسب أي أموال من الكوميديا. ثمّ ينتقل بعدها إلى عالم الجنود الأمريكيين السابقين ممّن تحوّلوا إلى عالم الكوميديا لاحقًا. تطرح لنا الحلقة هنا سؤالًا مهمًّا للغاية شغل مساحةً خاصة في أدبيات الفلسفة وعلم النفس مع بدايات القرن التاسع عشر: كيف يمكن للصدمة أنْ تتحوّل إلى كوميديا في أكثر الأماكن كآبةً وخطرًا؟
نظرًا لأنّ العواطف والرغبات الأكثر قمعًا هي الرغبة الجنسانية والعدوانية، يرى فرويد أنّ معظم النكات التي يُطلقها الأفراد غالبًا ما تكون متعلّقة بالجنس أو العدوانية والعنف أو كليهما
فوفقًا لأطروحات كلٍّ من عالم الاجتماع والفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر، وعالم النفس الشهير سيجموند فرويد، فإنّ الضحك هو وسيلة لتفريغ الطاقة العصبية المكبوتة. إذ لاحظ فرويد أنّ كلًّا من النكتة والفكاهة هما مثل الأحلام، يمكن أنْ يكون لهما علاقة قوية متأصلة باللاوعي واللاشعور. وفي كتابه “النكتة وعلاقتها باللاوعي”، ركّز على أهمية النكتة بالنسبة للإنسان باعتبارها نافذة أو وسيلة “تنفيس” و”تفريغ” للشحنات الانفعالية وضغوطات الحياة المكبوتة.
وهنا يمكن تفسير الكوميديا رجوعًا إلى فرويد على أنها محاولة لمواجهة القهر والكبت بالضحك. فالفكاهة، عند فرويد، هي واحدة من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان، خاصة النكتة، لأنها تصدر في تصوره من آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدّد للذات الداخلية. ما يعني أنّ النكتة تصبح وسيلة تعبير رئيسية ولسان حال الأفراد والشعوب في حالات الكبت السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصادي. وفي العموم، فإن الفكاهة بمنزلة النشاط الخاص للأنا العليا لتخفيف حالة القلق بها. ونظرًا لأنّ العواطف والرغبات الأكثر قمعًا هي الرغبة الجنسانية والعدوانية، يرى فرويد أنّ معظم النكات التي يُطلقها الأفراد غالبًا ما تكون متعلّقة بالجنس أو العدوانية والعنف أو كليهما.
المرأة كنكتة: الاغتصاب والتحرّش في الكوميديا النيجيرية
يسلّط تشارلز الضوء في واحدة من حلقاته الأربع على تناول الكوميديا النيجيرية لموضوع الاغتصاب والعنف ضدّ المرأة كشكلٍ من أشكال النكتة التي تستدعي الضحك والتهكّم، وهي حالة عامّة تنطوي على إلقاء اللوم على الضحية، الفتاة المغتصبة أو التي تتعرّض للتحرّش تحديدًا، في أفريقيا ومعظم أنحاء العالم، كأنْ يتحوّل لباسها أو خروجها ليلًا إلى السبب وراء التحرّش والاغتصاب، دون لوم المجرم أو المغتصب أو المتحرّش نهائيًا.
وقد ركّز تشارلز على نيجيريا نظرًا لأنّ الاغتصاب يشكّل مشكلةً حقيقية في الدولة، بدءًا من حالات الاغتصاب من قبل الأزواج أو في المواعيد مع رجالٍ يعتقدون أنّ النساء وجبةً سهلة، أو في مقرّات الشرطة أو في المدارس والجامعات وغيرها من الأماكن المجتمعية. ووفقًا لصحيفة الغارديان، فإنّ الدولة تتواطأ في فشل جمع إحصائيات متماسكة حول قضايا الاغتصاب والعنف الجنسي، مما يجعل هذه الجرائم غير مرئية.
أصبحت الكوميديا في نيجيريا بمثابة حدث ثقافي آخر يتم من خلاله إهانة المرأة النيجيرية والأفريفية وتعزيز الصور النمطية عنها.
ففي عام 2014، أثار باسكيتماوث، وهو واحد من أشهر الكوميديين في نيجيريا، غضبًا واسعًا على وسائل التواصل الاجتماعي بعد إلقائه لنكتة عن الاغتصاب مفرّقًا فيها عن الفرق بين مواعدة “فتاة بيضاء” أو أخرى “أفريقية سمراء” يستدعي اغتصابها. وقد أثارت النكتة حنقًا واسعًا في الدولة التي تحتوي على نسبًا عالية من العنف الجنسي والعنصرية القائمة على النوع الاجتماعي.
ولا عجب من تحوّل موضوع الاغتصاب لنكتة يتمّ سردها على خشبة المسرح أو أمام الشاشات طالما كان كلٌّ من الدولة والمجتمع يريان في المرأة شيئًا لا شأن له يمكن المساس به بأيّ طريقةٍ كانت. فقد أصبحت الكوميديا في نيجيريا بمثابة حدث ثقافي آخر يتم من خلاله إهانة المرأة النيجيرية والأفريقية وتعزيز الصور النمطية عنها.
تعدّ نيجيريا بيئة مناسبة للقوالب النمطية الأبوية التي يتمّ تقديمها بطريقة كوميدية مقبولة اجتماعيًا تضحك الرجال والنساء على حدٍ سواء
وبشكلٍ عام، يرى علماء الأنثروبيولوجيا أنّ النكات تجد جذورها في سياقاتها الاجتماعية، وبما أن الكوميديين هم نتاج لمجتمعاتهم الخاصة فهم دائمًا ما يقترضون نكاتهم وموادّهم من مجموعة من تجاربهم الفردية والاجتماعية. إضافةً إلى أنّ النكات تهدف إلى تمثيل أو تشويه أو إعادة تنظيم الإدراك الجمعي للأفراد. ما يعني أنّ الكوميديّين، كمنتج اجتماعي، يتمتعون بالقدرة العالية على صنع وإعادة صنع مجازاتٍ مختلفة تصبح جزءًا من عروضهم الخاصة.
والمجتمع بالنهاية هو انعكاس لنظام المعتقدات الاجتماعية والثقافية. ونيجيريا، بوصفها مجتمعًا أبويًّا يشيد بالرجال ويقمع المرأة ويمارس العنصرية تجاهها، في حين يُطلب منها أنْ تكون خاضعة وتابعة، هي بيئة مناسبة لنموّ القوالب النمطية الأبوية التي يتمّ تقديمها بطريقة كوميدية مقبولة اجتماعيًا تضحك عددًا كبيرًا من الرجال والنساء على حدٍ سواء.
سعوديّات في عالم الكوميديا
في الحلقة الرابعة والأخيرة من الموسم الأول، يسلّط تشارلز الضوء على عددٍ من الكوميديّات السعوديات اللاتي وجدنَ في عالم الكوميديا بوّابة يستطعن من خلالها توجيه الانتقادات للمؤسسات المختلفة خاصة الاجتماعية منها، كالأسرة والسلطة الأبوية والذكورية وما ينحدر منها من سلوكيّات اجتماعية خاطئة تركّز على المرأة وتحاول قمعها وطمس هويّتها وكينونتها.
هتون قاضي- مدوّنة وكوميدية سعوديّة ترى في الكوميديا أداة لتمكين المرأة في ظلّ مجتمعها القمعيّ
فعلى سبيل المثال، يستضيف تشارلز هتون قاضي، المدوّنة الكوميدية التي تقدم برنامجها على يوتيوب لتنتقد من خلاله العادات المجتمعية في السعودية، الدولة التي تضع على المرأة قيودًا لا عداد لها، وتجعل منها تابعةً للرجل وخاضعةً له. وتسترسل هتون في حديثها عن الصعوبات التي وجّهها المجتمع له بوصفها أنثى تقدّم برنامجًا نقديًّا، متحدثة بذلك عن معاناة المرأة السعوديّة لا سيّما في مجال الكوميديا والإعلام.
وترى هتون في حديثها مع تشارلز أنّ إنتاجها لمقاطع الفيديو الخاصة بها على الإنترنت يأتي كشكلٍ من أشكال تمكين المرأة وكأداةٍ لإثبات الذات وهويّتها الفردية. ولهذا، يأتي برنامج تشارلز هذا ليخبرنا أنّ الناس حتى في أقصى الظروف والسياقات لا يزالون بحاجةٍ إلى الضحك والبحث عن النكتة والفكاهة، كأداةِ تفريغٍ جمعية أو من أجل الحصول على لحظةٍ قصيرة يضعون فيها همومهم وأزماتهم جانبًا.