في البداية علينا أن نتفق أن اللغة التي نستخدمها في الحديث عن الأشخاص الذين يعانون من التقزم، أمرًا مهمًا، إذ لا تسر كلمة “قزم” هؤلاء الأشخاص الذين يقل طولهم عادةً عن 130 سنتيمترًا، ومن المفضل الإشارة إليهم بالأشخاص الذين يعانون من القزامة أو ذوي القامة القصيرة، والأمر نفسه ينطبق على اللغة الإنجليزية التي استبعدت الإشارة إليهم بكملتي Dwarf و Midget واستبدلتهما بمصطلح “الأشخاص الصغار” أو Little people. وهم من صنفهم القانون الأمريكي ضمن ذوي الحاجات الخاصة، بالرغم من أن الكثير منهم لا يرون قصر قامتهم عيبًا أو نقصًا في طبيعتهم الجسدية.
وبما أنه من النادر جدًا أن نلتقي إحداهم، فإن إطار معرفتنا بهم لا يتعدى حدود السينما والأدب، وهي منصات لم تنصفهم ولم تنقذهم من المفاهيم الخاطئة والتصورات المهينة، فلا تزال الأعمال الفنية العالمية تحصرهم في أدوار مكررة ونمطية. وبهدف التعرف عليهم بشكل أقرب، نحاول في هذا التقرير عرض جانب من كواليس حياتهم اليومية.
القزامة ليست حكرًا على عرق أو جنسية
التقزم هو حالة طبية أو وراثية تؤدي إلى أن يكون الشخص أقصر بكثير من الشخص ذي الحجم المتوسط ، وعلى الرغم من وجود العديد من أسباب وأعراض التقزم المختلفة، إلا أن هناك نوعين رئيسيين من الحالة: متناسقة وغير متناسقة. وغالبًا ما يكون النوع الأول له علاقة بنقص الهرمونات، أما الثاني وهو الأكثر شيوعًا فينتج عن عوامل وراثية. وبصفة عامة، يعتقد الباحثون أن هناك أكثر من 300 حالة تسبب التقزم، ويقدر حدوثه في حالة واحدة تقريبًا من بين كل 26 ألف ولادةً.
في هذا السياق، تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي واليونسيف في أحدث بيانات نشرتها في عام 2017، بأن عدد الأطفال دون سن الخامسة من العمر الذين يعانون من التقزم انخفض من 245.2 مليون في عام 1990 إلى 154 مليون في 2016، ولكن على الرغم من هذا التقدم الكبير خلال ال26 عامًا الماضية، فإن معاناة 154.8 مليون طفل من التقزم لا تزال أمرًا مهمشًا اجتماعيًا واقتصاديًا.
إذ يعاني منها أكثر من 65 ألف طفلًا في الأردن ونحو 70 ألف شخصًا في مصر وهو ما يعني أن 35% من قصار القامة في مصر، أما سوريا، فقد أبدت وزارة الصحة مخاوف من وصول مليون طفل إلى مرحلة التقزم بسبب سوء التغذية، في الجهة المقابلة للعالم، فهناك حوالي 6 آلاف شخصًا في المملكة المتحدة، و30 ألفًا في الولايات المتحدة الأمريكية.
ماذا يعني أن يكون المرء قصير القامة؟
“منذ اللحظة التي ولدتُ فيها، كان الناس حولي ينظرون إلي ويصيحون “يا إلهي”، وهكذا اكتشف والداي أنني كنتُ شخصًا صغيرًا، قزمًا، قصير القامة. لقد صُدِموا وانزعجوا لإدراكهم أن حياتي ستكون صعبةً. ظلت كلمة “القزامة” تطاردني في طفولتي، لم أرغب في سماعها، لم تكن تعبر عني، فلم أكن مختلفةً”، وتكمل، كارا ريدي، الحديث عن تجربتها في مدونتها على موقع “سي إن إن”، وتقول أن عائلتها اهتمت بها ولكنها في الوقت نفسه لم تستطع حمايتها من العالم ولم يسمحوا لها بالاختفاء.
وتصف العيش كشخص قصير القامة بأنه أشبه بلعب دور رئيسي في السيرك أو أشبه بكونك واحدًا من المشاهير والعالم كله يتهافت لتصويرك ولكنها شهرة زائفة بدون شهرة حقيقة أو نقود، فالجميع يحاول النظر إليك من بعيد وينبه أصدقائه بوجودك ويهمس “هناك قزم”، فتشعر أنك لست إنسانًا وإنما نوعًا آخر، نوعًا مختلفًا، ما جعلها تتمنى دومًا لو كانت شخصًا آخر، فقد كانت غالبًا هدفًا للتخويف والاستبعاد، ولاسيما من أساتذة المدرسة الذين لم يجرحها لفظيًا ولكنهم جعلوا مشاركتها في الأنشطة أمرًا صعبًَا، فلم تستطع أن تكتشف ما الذي يسمح لها العالم في أن تكونه.
فبحسب قولها، فإن التعايش مع بنية صغيرة هي عملية طويلة ومرهقة، عُقِدت بسبب التحيز في العالم، فهي لا تستيقظ كل صباح وهي تفكر بأنها “شخص صغير” وإنما تبدأ يومها بشكل اعتيادي، وتتناول وجبة الإفطار وتتفحص بريدها الإلكتروني أثناء استخدام مترو الأنفاق، لكن روتينها الصباحي ينقطع عندما تلاحظ أن أحدهم يشير إليها أو ينظر إليها ضاحكًا، فحينها لا تعد مجرد كارا وإنما تتحول إلى شخص صغير يستحق السخرية ويتعامل العالم معه على أنه مزحة. تنهي كارا حديثها قائلةً: “أنا طبيعية، لدي نفس الأفكار والمشاعر والرغبات، العالم يعاملني كما لو كان هناك خطبًا ما معي. استغرق الأمر مني بعض الوقت حتى تعلمتُ ألا أثق برأي العالم”.
على الشاشة.. شخصيات خيالية ومشاهد كوميدية
لا شك أن أول ما يخطر ببالنا عند الحديث عن هذا الموضوع، هي القصة الشعبية “فلة والأقزام السبعة” والتي حولتها والت ديزني إلى فيلم ومنذ ذاك الوقت أصبحوا “الأقزام السبعة” الشخصيات الخيالية الطفولية و الصبيانية التي ندفع أطفالنا لمشاهدتها والتهكم بأفعالها والضحك على تصرفاتها، دون أن نعلم أننا جعلنا أصحاب القامة القصيرة مادة للضحك والسخرية، وهذا ما أكده، عالم الاجتماع، توم شكسبير، حين قال أن الممثل “القزم” ليس لد دور في السينما سوى إضحاك الجمهور على جسده الضئيل وحركاته البهلوانية.
في جانب آخر، ركزت السينما على إظهار هذه الفئة من المجتمع ككائنات خيالية أو مريخية أو بهلوانية لا تعيش سوى في السيرك، وغالبًا ما يتم تصويرها بأدوار شريرة أو عنيفة كمجرمين أو زعماء عصابة أو جواسيس، كما فعلت في سلسلة أفلام “جيمس بوند وحرب النجوم و وهاري بوتر وصراع العروش وسلسلة الخيال الشهيرة مملكة الخواتم، وساحر أوز الذي يحمل الرقم القياسي في عدد الممثلين المصابين بالقزامة والذين وصل عددهم إلى 300 تقريبًا. يضاف إلى ذلك مجموعة من الأفلام العربية مثل: وش إجرام والرجل الأبيض المتوسط وشارع الهرم.
في المقابل، نجد أن الأدوار التي تمثل حياتهم الواقعية أقل بكثير من الضروري، فعلى الرغم من الملايين والجوائز التي تربحها هذه الأفلام والمسلسلات، إلا أنها لا تمثل شيئًا من واقع أصحاب القامة القصيرة. في هذا الخصوص يقول بعض الخبراء، أن هذا التوجه السينمائي في أدوار “الأشخاص الصغار” سوف يساعد في تقليل نسبة الاحترام الذي يحصلون عليه خلال سيرهم في الشارع، وبالتالي تزيد الفجوة بينهم وبين الفئات المجتمعية الأخرى.
ونتيجة لذلك، لاحظ العلماء انتشار الاكتئاب والانتحار بينهم، فلقد وجدت دراسة بحثية، أن أكثر من ثلث الذين شاركوا في البحث يعانون من مشاكل في الصحة العقلية ويشعرون بالوحدة والعزلة، ولا سيما أن دراسات أخرى أظهرت أن حوالي 12% من الأشخاص الذين يعانون من التقزم تعرضوا للعنف البدني بسبب أشكال أجسادهم و80% منهم تعرضوا للإساء اللفظية.