ترجمة وتحرير: نون بوست
سيكون من الصعب العثور على شخص على قيد الحياة يجسّد تاريخ الجزائر الحديث بشكل أفضل من رئيسها المريض عبد العزيز بوتفليقة الذي يبلغ 82 سنة. ويعكس الشلل الذي يعاني منه الرئيس حاليا، حالة الركود التي تشهدها بلاد ناجحة للغاية نظرا لتمتعها باحتياطيات وفيرة من النفط والغاز. وفي الأسابيع الأخيرة، عبّر المواطنون الجزائريون عن معارضتهم للنظام من خلال الاحتجاجات الجماهيرية، التي تجاوزت الجزائر لتبلغ أيضا العديد من البلدان التي يترعرع فيها الشتات الجزائري. وقد أصيب المتظاهرون بالجزع على خلفية قرار بوتفليقة القاضي بالترشح لولاية خامسة بعد 20 سنة من توليه الحكم، لكن الشعب نجح في إجباره على التراجع عن هذا القرار في 11 آذار/ مارس. وفي نهاية المطاف، يعد هذا الانسحاب بمثابة الخاتمة المخيبة للآمال بالنسبة لنظام يتمتع بنفوذ هائل.
تزامن صعود بوتفليقة، وهو رئيس أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة، مع نظام استعماري فرضه الاحتلال الفرنسي. ووُلد بوتفليقة في سنة 1937 في مدينة وجدة المغربية، التي انتقل إليها والداه للبحث عن عمل. وخلال فترة المراهقة، عاد بوتفليقة إلى أرض الوطن بهدف الانضمام إلى حركته القومية الآخذة في الازدهار آنذاك. وقد حارب في صفوف جناح عسكري تابع لجبهة التحرير الوطني الجزائرية، التي نجحت أخيرًا في الفوز باستقلال الجزائر عن فرنسا سنة 1962، أي بعد سنوات من الصراع الدامي.
خلال الفترة التي تلت الاستقلال، أصبح بوتفليقة ممثلا عن مدينة تلمسان الواقعة شمال غرب البلاد، داخل المجلس الدستوري، كما عُيّن لاحقا وزيرا للشباب والرياضة والسياحة. وفيما بعد، شغل سلسلة من الوظائف المرموقة، بما في ذلك منصب وزير الخارجية، فضلا عن توليه رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد اتسمت بداية المسيرة السياسية لبوتفليقة بالهشاشة، تماما مثل عملية التنمية في بلده.
اكتفت قوات الجيش بمراقبة البلاد وهي تغرق في حرب أهلية كارثية اندلعت في أواخر سنة 1991 واستمرت لأكثر من عقد من الزمن
ومع ظهور مزاعم حول تفشي الفساد في جميع أنحاء الجمهورية الناشئة، اختار بوتفليقة العيش في المنفى في الإمارات العربية المتحدة وسويسرا في سنة 1981، قبل أن يُدان بتهمة الاحتيال بعد سنتين. وقد ثبت تورطه لاحقا في الاستيلاء على مبلغ مالي قدره 60 مليون دينار، أي ما يعادل 500 ألف دولار، حيث ادعى بأنه كان يحتفظ بالمال بغية تمويل وزارة خارجية جديدة. حيال هذا الشأن، أصر بوتفليقة على أنه تعرض لحملة تشويه من قبل خصوم سياسيين، ثم عاد إلى الجزائر في سنة 1987، عازمًا على تبرئة اسمه واستئناف مهنته كسياسي.
من جانبه، أعرب الجيش الوطني الشعبي الجزائري عن تأييده لتواجد بوتفليقة في اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، التي تعتبر وسيط القوة الرئيسي بعد انسحاب الاحتلال الفرنسي. وقد اكتفت قوات الجيش بمراقبة البلاد وهي تغرق في حرب أهلية كارثية اندلعت في أواخر سنة 1991 واستمرت لأكثر من عقد من الزمن. تجدر الاشارة إلى أنه خلال هذه الفترة، توارى بوتفليقة عن الأنظار، قبل أن يعلن عن ترشحه، بصفته مستقلا، للانتخابات الرئاسية سنة 1999.
بعد تعرّضه لسكتة دماغية في سنة 2013، عجز بوتفليقة عن مخاطبة الجمهور لمدة ست سنوات. ومؤخرا، تلقى الرئيس الجزائري العلاج في مستشفى في سويسرا. وبينما واصل التشبث بمنصبه، أكّد في نهاية المطاف، خلال هذا الأسبوع، أنه لن يترشح لولاية خامسة. وكان بوتفليقة، الذي تعتبر فترة حكمه هي الأطول في تاريخ الجزائر، قد تولّى قيادة “جماعة السلطة” المؤلفة من قادة عسكريين وأجهزة أمنية ورجال أعمال يديرون جميع شؤون الدولة. وقد تأسست هذه الجماعة في سنة 1962 حيث شملت أولئك الذين شاركوا في استقلال الجزائر عن فرنسا.
يعتبر فرض الاستقرار بأي ثمن مبدأ خطيرا
الجدير بالذكر أن الاستقرار يعتبر عاملا حاسما بالنسبة لجماعة السلطة، ما ساهم في استمرار حكم بوتفليقة إلى حدود عيد ميلاده الثاني والثمانين خلال هذا الشهر. ولم تواجه هذه الجماعة تحدي المساءلة الديمقراطية، في هذا البلد الذي شهدت فيه الانتخابات المتنازع عليها الفوز المنتظم لمرشحهم بنسبة تفوق 80 بالمئة من أصوات الشعب.
في التاسع من آذار/ مارس، شهدتُ على تعبير العديد من المتظاهرين عن مخاوفهم أمام السفارة الجزائرية في لندن. وفي حين لوّح البعض بالعلم الجزائري الأبيض والأخضر، والذي يتوسطه هلال ونجم باللون الأحمر، ارتدى آخرون قمصان فريق محاربي الصحراء، وهو المنتخب الوطني لكرة القدم في البلاد. كما امتلأت ساحة الجمهورية بباريس بالحشود خلال عطل نهاية الأسبوع المنقضية.
خلال هذه المظاهرات الشعبية، كانت الوطنية هي الشعور الغالب عليها، عوضا عن الكراهية أو غيرها من المشاعر المدمرة. وقد اجتاحت كلمة “كفى!” الاحتجاجات في كل مكان، بما في ذلك الشعارات من قبيل “20 سنة تكفي!”. وبالتأكيد، كان هناك شعور بالنفور أيضا. كما كان هناك لافتة كُتب عليها “نحن بحاجة إلى حكومة، وليس إلى مافيا”. مع ذلك، كانت مشاعر الحزن متعلّقة عمومًا بجهود بوتفليقة المتضائلة للتمسّك بكرسيّه، وليس حول سجله السابق.
ومنذ نعومة أظافري، كان أكثر ما يثير دهشتي خلال زياراتي المتكررة إلى الجزائر، هو التأثير النفسي العالق الذي خلّفه الصراع على السكان الذين انخفض عددهم بحوالي 200 ألف خلال الحرب الأهلية، ومليون ونصف جزائري خلال حرب الاستقلال ضد فرنسا. لقد أثار التعذيب والإرهاب والعديد من الممارسات الوحشية الأخرى مشاعر الخوف من تجدّد حالة الفوضى الدموية.
استمرّت الجماعات المسلحة، لا سيما تنظيم القاعدة، في شن حملاتها في الصحراء الجنوبية للبلاد، بعيدًا عن المكان الذي تعيش فيه الغالبية العظمى من السكان
يعتبر فرض الاستقرار بأي ثمن مبدأ خطيرا. في المقابل، تعتبر الإجراءات، بما في ذلك “ميثاق السلم والمصالحة الوطنية” الذي قدّمه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لإنهاء الحرب الأهلية في البلاد، خطوة إيجابية بالتأكيد نحو إرساء الأمن بشكل نسبي وجمع الأطراف المتحاربة. وبموجب هذا الميثاق، الذي حصل على موافقة 97 بالمئة من الجزائريين خلال استفتاء عام سنة 2005، عُفي عن أولئك الذين شاركوا في الحرب الأهلية مقابل تخليهم عن نضالهم المسلح. وقد شمل هذا القانون المتمردين وقوات الأمن على حد السواء. فضلا عن ذلك، حصلت أسر الضحايا الباقين على قيد الحياة على تعويضات مالية.
من جهة أخرى، استمرّت الجماعات المسلحة، لا سيما تنظيم القاعدة، في شن حملاتها في الصحراء الجنوبية للبلاد، بعيدًا عن المكان الذي تعيش فيه الغالبية العظمى من السكان. لكن، لم يتواصل العنف بنفس المستوى المعهود. وفي غضون ذلك، قاد بوتفليقة البلاد نحو نجاحات اقتصادية، وقام بتحديثها وحقّق الرخاء والازدهار للسكان.
في الوقت الراهن، هناك غضب كبير إزاء استمرار المقرّبين من السلطة في عرقلة الجهود الاقتصادية، حيث تعثرت خصخصة الصناعات التي كانت تملكها الدولة، في حين أعاق تقلب أسعار النفط الاقتصاد الجزائري الذي يعتمد بشكل كبير على قطاع الطاقة. علاوة على ذلك، تشهد نسبة البطالة ارتفاعا متواصلا، لا سيما في صفوف الشباب، حيث يبلغ معدل البطالة لمن تقل أعمارهم عن 25 سنة ما يقارب 30 بالمئة، وهو رقم يعتبر مأساويا عندما يدرك المرء أن 75 بالمئة من سكان البلاد لا تتجاوز أعمارهم 30 سنة. ويشبه الشباب الجزائري اليوم الجيل الذي تمرّد في البلدان المجاورة، على غرار تونس وليبيا ومصر خلال الربيع العربي، ما أدى إلى تغيير النظام في النهاية.
نقلت مشاهد الآباء والأمهات والأطفال الذين يحملون أزهارًا وزغاريد النساء شعورًا بالتضامن والسلوك المتحضّر والاحتفال
وخلال الاحتجاجات الأخيرة، تحدى حوالي ثلاثة ملايين جزائري من جميع مشارب الحياة، من طلاب إلى قضاة، قانون 2001 الذي يمنع التجمعات المناهضة للحكومة. مع ذلك، كان أكثر ما يلفت الانتباه أن هذا النوع من الاخلال بالأمن العام أو الثورات المباشرة، التي أصبحت شائعة في جميع أنحاء العالم العربي قبل ثماني سنوات، لم يقع محاكاتها في الجزائر، حيث كانت الحشود سلمية للغاية وتصرفت بشكل متحضّر.
وقد نقلت مشاهد الآباء والأمهات والأطفال الذين يحملون أزهارًا وزغاريد النساء شعورًا بالتضامن والسلوك المتحضّر والاحتفال. وقد وُضعت جملة من القواعد السلوكية تشجع المتظاهرين المناهضين لبوتفليقة على ارتداء ملابس مناسبة وتنظيف الشوارع بعد الاحتجاجات، ومشاركة كل شيء، من مياه الشرب إلى الخل في حال أُستخدم الغاز المسيل للدموع.
كانت الهتافات والشعارات قصيرة لكنها كانت تحمل مغزى واضحا ومباشرا، على غرار “الشعب بأسره متحد ضد النظام”، وقد تعالى المتظاهرون عن استخدام الألفاظ النابية والكلمات الفظّة. وكانت هناك لافتات أخرى أكثر إبداعًا كُتب عليها ” شانيل فحسب تملك رقم 5″، في إشارة واضحة إلى معارضتهم لولاية بوتفليقة الخامسة والعطر الشهير. وأسفرت هذه الاحتجاجات عن سقوط ضحية على الأقل، لكن الصور التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي لم تُصوّر استخدام القمع بشكل مفرط. خلافا لذلك، شهدت فرنسا التي اضطهدت في السابق الجزائر، ما لا يقل عن 12 حالة وفاة ومئات الإصابات الخطيرة أثناء انتفاضات “السترات الصفراء”.
يكتسي الانتقال الديمقراطي أهمية قصوى لإحداث تغيير جذري في النظام. ولا يعتبر ربح الوقت على أمل أن يتم تثبيت دمية أخرى لتحلّ محلّ بوتفليقة حلا ناجعا بما فيه الكفاية
بالنسبة للجزائريين، تمكّنت هذه الاحتجاجات من تحقيق نجاح نسبي. وقد أعلن بوتفليقة أنه سيتنحى عن منصبه، لكنه قدم تسوية غير واضحة الملامح إلى الآن، إذ وقع تأجيل الانتخابات المزمع إجراؤها في 18 نيسان/ أبريل، وهو حل قد يكون في صالح السلطة. في غضون ذلك، ستتواصل المظاهرات، التي تشمل الإضرابات والاحتجاجات في الشوارع. ولكن، يبقى أن نرى ما إذا كان حكم الأقليّة، الذي كان بيد فئة صغيرة منظمة من المجتمع تمكّنت من تكديس ثروات مالية ونفطية هائلة، سيسعى الآن إلى تقاسم هذه الامتيازات.
يكتسي الانتقال الديمقراطي أهمية قصوى لإحداث تغيير جذري في النظام. ولا يعتبر ربح الوقت على أمل أن يتم تثبيت دمية أخرى لتحلّ محلّ بوتفليقة حلا ناجعا بما فيه الكفاية. ويجب أن تستغل الجزائر هذه الفرصة للاستجابة لمطالب مجتمع شاب يتمتع بدهاء تكنولوجي. ويعتبر تقاعد بوتفليقة فرصة تاريخية يجب ألا تضيع هباء.
المصدر: فورين بوليسي