يمثّل التغيير الديمغرافي واحداً من أخطر آثار الحرب في سوريا، إذ أنه يمثلّ أثراً بعيد المدى، ويترك بصمته على سوريا المستقبلية.
وحصل التغيير الديمغرافي على مراحل، واستند في كل مرحلة إلى أدوات مختلفة، بعضها بطيء الأثر، وضعيف الضجيج، وأخرى دموية وسريعة النتائج.
ولا يُمكن على وجه اليقين الجزم بما إذا كان هذا التغيير قد حصل ضمن مخطط معدّ مسبقاً، أم أنه كان إفرازاً طبيعياً لحرب طاحنة، إلا أن دراسة الآلية التي تم فيها استعمال عدد من الأدوات التي سيتم استعراضها بعد قليل تظهر أن هناك نمطاً ممنهجاً قد تم اتباعه في بعضها على وجه الخصوص، بما يُضعف احتمالية الصدفة.
شهدت سوريا منذ بداية الثورة السورية عدداً كبيراً من المجازر، وكان النظام السوري وحلفائه الأجانب مسؤولين عن ارتكاب حوالي 90% منها وفقاً لتوثيق المنظمات الحقوقية السورية
وسنعرض تالياً لأبرز أدوات التغيير الديمغرافي التي تم استخدامها منذ عام 2011 وحتى الآن، والتي استخدمت في الغالب من قبل النظام السوري وحلفائه الأجانب، لكنها استخدمت على نطاق محدود من قبل فاعلين آخرين، وخاصة تنظيم داعش وقوات سوريا الديموقراطية وهيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة.
أدوات التغيير الديمغرافي
1) الأدوات العنفية
أ) القتل خارج نطاق القانون
شهدت سوريا منذ بداية الثورة السورية عدداً كبيراً من المجازر، وكان النظام السوري وحلفائه الأجانب مسؤولين عن ارتكاب حوالي 90% منها وفقاً لتوثيق المنظمات الحقوقية السورية.
وخلال السنوات الثمانية الماضية قُتل أكثر من نصف مليون مدني على أقل تقدير، إذ لا تملك أي جهة دولية أو محلية توثيقاً كاملاً بعدد الضحايا جميعاً.
أدّت أعمال القتل التي يقوم بها تنظيم داعش إلى دفع عشرات الآلاف من الأشخاص للهرب من كل المناطق التي سيطر عليها
ويُلاحظ من دراسة التوثيق الشهري للضحايا والمجازر، والذي تقوم به عدّة منظمات حقوقية سورية، أن هناك نمطاً جغرافياً يتم اتباعه من قبل مرتكبي أعمال القتل، حيث يتم تكثيف أعمال القتل على مناطق بعينها، قبل أن يتم الانتقال إلى مناطق أخرى.
وقد أدّت أعمال القتل التي يقوم بها تنظيم داعش إلى دفع عشرات الآلاف من الأشخاص للهرب من كل المناطق التي سيطر عليها، وشملت قائمة الهاربين منه من كانت لهم أي علاقة بالمعارضة السياسية أو العسكرية، وأولئك المنتمين لأقليات دينية أو عرقية.
ب) التعذيب واستهداف النساء
مارست أجهزة الأمن والميليشيات التابعة لها (والتي كانت تُعرف بالشبيحة) سياسة التحرّش الجنسي بالنساء واغتصابهن واختطافهن واعتقالهن، وخاصة في الفترة من 2011-2013. وتمّ توثيق هذه السياسات بشكل خاص في أرياف مدينة حمص.
ورغم عدم تطبيق معظم هذه الانتهاكات إلا في فترات محددة، إلا أن شيوع أخبارها آنذاك أدّى لموجة نزوح مرتفعة حتى في المناطق التي لم يكن الشبيحة قد وصلوها بعد، نظراً لحساسية هذه القضية اجتماعياً، وعدم استعداد المجتمع للمخاطرة في انتظار حصولها، أو حتى انتظار التحقق من مصداقيتها.
ج) سياسة الأرض المحروقة
بدأت قوات النظام منذ منتصف عام 2012 استخدام الأسلحة الثقيلة على نطاق واسع لقصف المناطق الخارجة عن سيطرتها، بما في ذلك استخدام سلاح الطيران الحربي والمروحي، إضافة إلى كل أنواع الصواريخ والمقذوفات، بما فيها صواريخ سكود.
رغم أن البراميل هي سلاح عشوائي، أي لا يمكن توجيهه لقصف هدف بدقة تقل عن 250 متراً، إلا أن دراسة الصور الجوية للمناطق التي تم قصفها بشكل مكثف تُظهر أن سياسة الأرض المحروقة لم تكن عشوائية
ومثّلت “البراميل المتفجرة” على وجه الخصوص أكثر أدوات التدمير استخداماً، نظراً للكلفة المنخفضة لإنتاج البرميل، والتي تتراوح بين 500-1000$، وهي قيمة تقل عن قيمة أي مقذوف صاروخي آخر.
ورغم أن البراميل هي سلاح عشوائي، أي لا يمكن توجيهه لقصف هدف بدقة تقل عن 250 متراً، إلا أن دراسة الصور الجوية للمناطق التي تم قصفها بشكل مكثف تُظهر أن سياسة الأرض المحروقة لم تكن عشوائية وإن تتمت بأسلحة عشوائية، حيث تعكس الصور الآن حدود التماس آنذاك بين مناطق سيطرة المعارضة وسيطرة النظام، وخاصة داخل المدن المكتظة مثل حمص وحلب.
ويُلاحظ هنا أن الأحياء والمناطق التي تم استهدافها بسياسة الأرض المحروقة هي أحياء ومناطق عربية وسنية في الغالب الأعم، وتكاد مدينة كوباني ذات الأغلبية الكردية تشكل الاستثناء الوحيد في ذلك، لكنها تعادل بمساحتها وسكانها حياً صغيراً في حلب الشرقية مثلاً.
صورة جوية لمدينة حمص تُظهر الدمار الحاصل بالأحياء السنية التي كانت تحت سيطرة المعارضة
د) الحصار
استخدم النظام السوري سياسة الحصار منذ بدء الثورة السورية في آذار/مارس 2011 كنوع من العقاب الجماعي للمدن الخارجة عن سيطرته. وتتصف هذه السياسة بأنها أقل إثارة للرأي العام الدولي، نظراً لأن آثارها تظهر بشكل بطيء جداً، مع فعاليتها وتأثيرها المرتفع على السكان المحليين.
وقد بدأ تطبيق سياسة الحصار الجماعي في سورية منذ الشهر الثاني للثورة، حيث قامت الفرقة الرابعة في الجيش السوري ابتداء من تاريخ 4/5/2011 بفرض حصار كامل على محافظة درعا. ثم توسّع نطاق استخدامها، فشمل في فترات مختلفة مدينة حمص وأحياء حلب الشرقية، وريف دمشق الغربي والشرقي، وجنوب دمشق، ومدينة دير الزور، وبلدتي نبل والزهراء، واستمرّت بعض فترات الحصار لأكثر من أربع سنوات.
سلاح الحصار قد استخدم بشكل رئيسي من قبل قوات النظام والقوات الاجنبية الداعمة له، إلا أنه استخدم على نطاق ضيق من قبل المعارضة المسلحة أيضاً
وأدّى الحصار في بعض المناطق إلى تسجيل وفيات بسبب غياب المواد الغذائية والطبية، وضغط الأهالي في هذه المناطق على المقاتلين من أجل القبول باتفاقيات لإجلائهم وإجلاء من يرغب من المدنيين معهم.
ويُجدر بالذكر أن سلاح الحصار قد استخدم بشكل رئيسي من قبل قوات النظام والقوات الاجنبية الداعمة له، إلا أنه استخدم على نطاق ضيق من قبل المعارضة المسلحة أيضاً، والتي حاصرت بلدتي نبل والزهراء في حلب وكفريا والفوعة في إدلب لسنوات طويلة، كما استُخدم من قبل تنظيم داعش في مدينة دير الزور أيضاً.
و) الاعتقال والإخفاء القسري
شكّل سلاح الاعتقال واحدة من أسوأ أسلحة النظام القمعية تاريخياً، وتوسّع نطاقه بشكل كبير جداً بعد عام 2011. واتخذ الاعتقال في السنوات الأولى تحديداً شكْل “الإخفاء القسري”، حيث يتم اختطاف الأشخاص من قبل أجهزة الأمن، ولا يتم تحويلهم إلى أي محكمة أو سجن نظامي، ولا يستطيع ذووهم معرفة مصيرهم، ويتعرّضون أثناء اعتقالهم لتعذيب وحشي، الأمر الذي أدّى لمقتل عشرات الآلاف من الأشخاص تحت التعذيب خلال هذه السنوات.
دفعت سياسة الاعتقال بعشرات الآلاف من الأشخاص للخروج من مناطقهم تحسباً من تعرّضهم أو تعرّض أحد من أفراد أسرهم للاعتقال
ورغم استهداف قوات النظام للنشطاء المعارضين، إلا أنها لم تقتصر عليهم فقط، إذ عمدت إلى تنفيذ الاعتقال على أسس جغرافية وطائفية، حيث عمدت لاعتقال المنتمين إلى مناطق سيطرة المعارضة والجماعات التي في حكمها (ولا يشمل ذات مناطق سيطرة قوات سورية الديموقراطية ومحافظة السويداء).
وقد دفعت سياسة الاعتقال بعشرات الآلاف من الأشخاص للخروج من مناطقهم تحسباً من تعرّضهم أو تعرّض أحد من أفراد أسرهم للاعتقال، حتى لو تم التوصل إلى اتفاقية للمصالحة مع النظام في مناطقهم.
2) الأدوات التوافقية
ويُقصد بها الأدوات التي تستند إلى توافقات تقوم بها الجهات المحلية المدنية أو العسكرية مع النظام، أو توافقات بين فصائل مسلحة وجهات أجنبية، وتنتهي بإخراج بعض أو كل المدنيين من منطقة جغرافية تخضع لسيطرة فاعل معين إلى منطقة تخضع لسيطرة فاعل آخر.
وتأتي هذه التوافقات بعد سنوات من تطبيق الأدوات العنفية، بما يجعل المجتمعات المحلية جاهزة لتقبل الحلول التي يتم التوصل إليها بالتفاوض بين الأطراف.
وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، فقد خرج من الغوطة الشرقية وحدها خلال الفترة من 9 آذار/مارس وحتى 18 نيسان/أبريل أكثر من 158 ألف شخص، أي حوالي 40% من سكان الغوطة الشرقية
وشهد السنوات الثلاثة الماضية اتفاقيات مماثلة في كل من حلب الشرقية ونبل والزهراء ومحيط دمشق وجنوب العاصمة وريف حمص الشمالي وريف حماة الجنوبي ومحافظات درعا والقنيطرة.
ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، فقد خرج من الغوطة الشرقية وحدها خلال الفترة من 9 آذار/مارس وحتى 18 نيسان/أبريل أكثر من 158 ألف شخص، أي حوالي 40% من سكان الغوطة الشرقية، وتم تفريغ بلدات ومناطق داريا ونبل والزهراء من كامل سكانها.
3) الأدوات القانونية
سعى النظام السوري لمنح المخرجات التي حققها باستخدام القوة المفرطة صبغة قانونية يصعب تغييرها لاحقاً، حتى لو حصل تغيير في بنية النظام أو سياسته لأي اعتبار.
ومن أبرز التشريعات القانونية التي أصدرها النظام لتثبيت وقائع التغيير الديمغرافي المرسوم التشريعي الرقم 12 لعام 2016، والقاضي باعتماد النسخ الرقمية للسجلات العقارية، أي أنه سيكون من الممكن للسجلات العقارية أن تُقدّم صوراً إلكترونية للسجلات، كبديل عن تلك التي فقدت لأي سبب، كحريق السجل العقاري في حمص عام 2013، وهو ما سيفتح باباً كبيراً أمام تزوير السجلات العقارية.
تشمل الإجراءات التي تقوم بها إيران لنشر التشيع في سورية، وخاصة في مناطق دمشق ودرعا ودير الزور، وتجنيس الشيعة العراقيين واللبنانيين والإيرانيين
وفي نيسان/أبريل 2018 أصدر النظام السوري القانون رقم 10 لعام 2018، وهو القانون الأكثر إثارة للجدل في هذا السياق، حيث شرعن مصادرة عقارات السوريين الموجودين في الخارج، أو أولئك الذين لا يستطيعون –لأسباب أمنية غالباً- العودة لمناطق النظام لتثبيت ملكياتهم.
4) الأدوات الأخرى
وتشمل هذه الأدوات سياسات قام بها النظام وحلفاؤه بشكل أساسي، إما لتنفيذ التغيير الديمغرافي بشكل أكبر، أو لتثبيت المعطيات الحالية ومنع تغيرها.
وتشمل هذه السياسات ما يقوم به النظام وحلفاؤه لمنع عودة اللاجئين إلى سورية، كما تشمل الإجراءات التي تقوم بها إيران لنشر التشيع في سورية، وخاصة في مناطق دمشق ودرعا ودير الزور، وتجنيس الشيعة العراقيين واللبنانيين والإيرانيين.
لكن تنبغي الإشارة إلى أن قضية نشر التشيع بين السوريين أو تجنيس غير السوريين يخضع لمبالغات كبيرة، ولا تتوفر قرائن على أن هذه السياسات تحدث على نطاق تؤثر على الشكل الديمغرافي للبلاد.