مع تسارع الإيقاع في العالم وتزايد وتيرته، يزداد شعور عدد كبير من الناس بالوحدة والانعزال عن المجتمع وما يحيط بهم، لا سيّما مع ما تحكمه من أنظمة رأسمالية واستهلاكية وتكنولوجية تحبسه في فقاعاتها وتفصله عن ذاته الحقيقية وواقعه المعاش، وتستمرّ في خلق العديد من الرغبات والاحتياجات والضغوطات التي تهدف إلى جعله جزءًا من القطيع.
ونتيجةً لذلك الشعور، لم يكن غريبًا أنْ تنشأ العديد من المجتمعات أو التجمّعات الصغيرة التي تقوم فكرتها على اعتزال العالم ونبذ نمط الحياة العصري الذي تحكمه الحداثة والتقدّم التكنولوجي والقيم الاستهلاكيّة المستعبِدة للإنسان. وبكلماتٍ أخرى، نشأت في العقود الأخيرة العديد من أنماط الحياة المتنوعة والمختلفة عن الأنماط السائدة، وهي تنتمي إلى “أنماط الحياة البديلة” التي ترجع فكرتها أساسًا إلى عدم اتباع المسار المعتاد المتوقع في معظم المجتمعات، خاصة مع انتشار العولمة والحداثة.
ثقافة مضادة: الهروب إلى البساطة
بالنسبة للكثيرين، أصبح الملاذ المثاليّ لهم ينطوي على الهروب من الحياة الصاخبة والمدن الكبيرة والانغماس التامّ في الحياة الريفية التقليدية. الأمر الذي أدى نشوء الفكرة أو الثقافة التي تُعرف باسم البساطة الطوعية أو الحياة البسيطة “voluntary simplicity“، وهي طريقة للحياة ترفض أنماط الحياة المادية والثقافات الاستهلاكية المسيطرة على العالم.
أيْ أنّ الفكرة ناشئة بالأساس من رفض النزعة الاستهلاكية التي تحطّ من أخلاقية وإنسانية الحياة من خلال التركيز على استهلاك ومراكمة الأشياء وجعلها هدفًا يعيش عليه الفرد. وبناءً على ذلك، ينشأ التأكيد على البساطة من إدراك أنّ هناك حاجة إلى امتلاك القليل من أجل العيش بشكل جيد، وأنّ الوفرة هي حالة ذهنية وليست كمية من المنتجات الاستهلاكية التي يُدمن عليها الأفراد.
تؤكّد ثقافة الحياة البسيطة على رفض النزعة الاستهلاكية التي تحطّ من أخلاقية وإنسانية الحياة من خلال التركيز على استهلاك ومراكمة الأشياء وجعلها هدفًا يعيش عليه الفرد
من جهةٍ ثانية، يُطلق البعض مصطلخ “الثورة الهادئة” على هذا النمط من الحياة الذي يسعى إلى توفير الاحتياجات المادية ببساطة وبصورة مباشرة قدر الإمكان، مما يقلّل من الإنفاق على السلع والخدمات الاستهلاكية، ويوجه تدريجيًا المزيد من الوقت والطاقة والحرية نحو السعي وراء مصادر الرضا غير المادية والبحث عن معنى الحياة وجدواها من خلال الحبّ والعلاقات الاجتماعية الصحية والمشاريع العائلية والفنّ والفكر والقراءة والتأمل والاستكشاف الروحي والاسترخاء وإيجاد الوظائف الأكثر ملائمة، وغيرها من الأفعال التي لا يحتاج أيًّا منها إلى الاعتماد على المال لتحقيقها.
بكلماتٍ أخرى، وفقًا لفلسفة العيش هذه فإنّ التقدم الشخصي والاجتماعي لا يقاس بدرجة الثروة أو المكانة الاجتماعية أو الوظيفة، وإنّما يُقاس عن طريق التركيز على الثراء النوعي للحياة اليومية وتنمية العلاقات الاجتماعية والجوانب الفكرية والجمالية والإمكانات الروحية والاكتفاء الذاتي. لكنّ الأهمّ من ذلك أنّ البساطة الطوعية لا تعني، بالرغم من ذلك، العيش في فقر أو التخلّي التام عن مزايا العلم والتكنولوجيا أو الرهبنة. بدلًا من ذلك، يدعم دعاة هذا النمط اكتشاف الحرية والرضا الذاتي الذي يأتي من خلال العلاقة الحكيمة بالمال والممتلكات المادية، وبأنفسنا وبالعالم من حولنا.
واحدة من أشهر الأمثلة على هذا النوع من الثقافة هي جزيرة لاسكيتي الكندية التي لا تتعدّى مساحتها 20 كيلومترًا ويبلغ سكّانها 400 شخص فقط آثر كلٌّ منهم العزلة والابتعاد عن الحداثة وحياة المدن، فأنشأوا مجتمعًا قائمًا على إعادة التدوير وزراعة المحاصيل واستغلال الموارد الطبيعية على الجزيرة. إضافةً لذلك، لا تعتمد الجزيرة على مصادر الطاقة الحديثة أبدًا، فهي تولّد الكهرباء من ألواح الطاقة الشمسية ومولّدات الرياح.
أحد بيوت جزيرة لاسكيتي الكندية- آثر سكّانها الانعزال والابتعاد عن المدن الصاخبة وعيش حياة بسيطة
وفي تسعينات القرن الماضي، ظهر مجتمع “فقاعة تنكر Tinker’s Bubble“، عندما قررت بعض العائلات والأفراد الانعزال عن المجتمع والبدء بمجتمع قائم بنفسه يعتمد على الزراعة وتوليد الوقود الحيوي. بعض سكّان المنطقة مضى على عيشهم فيها 25 عامًا تقريبًا، فيما على الجهة المقابلة يمرّ الكثيرون ممّن يريدون تجربة الحياة البسيطة على القرية للتطوّع أو للبقاء لفترة قصيرة.
يعتمد سكّان المجتمع الصغير هذا على كسب الأموال من خلال البستنة وتربية الدواجن وصنع العسل وبيع الثمار والنباتات، وهو مجتمع اشتراكيّ يتشارك أفراده ما يجنونه من أموال فيما بينهم. كما يستخدمون الخشب في الطهي والتدفئة ويعتمدون على مولدات تعمل بطاقة الرياح وبعض ألواح الطاقة الشمسية التي تساعدهم في تشغيل حواسيبهم وأجهزتهم الإلكترونية.
تعتمد المجتمعات البسيطة على الاكتفاء الذاتي وإعادة التدوير وزراعة المحاصيل واستغلال الموارد الطبيعية
أمّا في روسيا، فقد نشأت قرية قوفشيج عام 2001 مكوّنة من عدد من الأسر والعائلات المتقاربة التي هدفت إلى عيش نمط حياةٍ هادئ وغير مؤذٍ للطبيعة، تُنتج العديد من المحاصيل الزراعية المحلية لتغطّي احتياجاتها وتبيع الفائض من الإنتاج.
هل يجب هجر المدن والمجتمعات؟
يرى الكثيرون أنّ العيش ببساطة لا يعني بالضرورة مغادرة المدينة للعيش في قرية منعزلة أو الانضمام لمجموعة معيّنة بحدّ ذاتها. خاصة وأنّ الأمر يصبح أكثر صعوبة مع التقدّم والتطوّر الحاصلين في الحياة العصرية، ولا سيّما أنّ إمكانية الابتعاد والانعزال غير متاحة للجميع على حدٍ سواء.
وممّا لا شكّ فيه أنّ علم كيفية العيش بطريقة أكثر بساطة واستدامة في عالم يزداد تحضّرًا وتقدّمًا هو أحد أعظم التحديات في عصرنا، لكنّ الفرد قادر على البدء بتطبيق المثل العليا المشتركة مع البساطة الطوعية، مثل الوعي بالرأسمالية وسيطرتها، ومعاداة الاستهلاك، وتشجيع الاكتفاء الذاتي واحترام الطبيعة ورفض العادات غير الصحّية التي ترسّخها المجتمعات والسياسات.
علاوة على ذلك، لا تعني البساطة الطوعية التخلّي عن جميع مزايا العلم والتكنولوجيا، تمامًا كما لا تعني ضرورة العيش في كهفٍ أو غابة والتخلي عن فوائد الكهرباء والإنترنت وغيرها من التطوّرات التكنولوجية التي تساهم في تقدّم البشرية في حال تمّ استغلالها بطرقٍ صحية. ما يعني أنّ علينا بكلّ تأكيد القبول بمزايا الحداثة والتكنولوجيا بدلًا من رفضها، لكنّنا في الوقت نفسه يجب أنْ نكون واعين لكيفية عملها وسعيها للسيطرة عن الإنسان واستغلاله.