في العام 1884 ميلادي، بدأت الإمبراطورية الألمانية سياستها التوسعية في القارة الإفريقية، وبعد ذلك بعشرين سنة أصبحت هذه الإمبراطورية الاستعمارية رابع أكبر إمبراطورية استعمارية في القارة الإفريقية بعد البريطانية والفرنسية والروسية.
ورغم عدم بقاءها في مستعمراتها أكثر من 25 سنة فقد تركت ألمانيا وراءها جرائم كبرى بقيت خالدة في أذهان الأفارقة إلى الآن، وهو ما يفسر سعي الألمان لإرجاع البقايا البشرية للدول الإفريقية علّهم يمحون عنهم تلك الآثار، لكن هل يعتبر ذلك كفيلا لهذا الأمر الكبير؟
إرجاع بقايا بشرية استعملت لبحوث عرقية
في إطار سعيها لمحو مسؤوليتها عمّا حصل في مستعمراتها السابقة، وافقت السلطات الألمانية، مؤخرا، على تسريع عملية إعادة رفات البشر والأعمال الفنية التي يعود تاريخها إلى الحقبة الاستعمارية ، والتي اتسمت بقتل العديد من السكان الأفارقة.
ووافقت وزارتا الثقافة والشؤون الخارجية ، وكذلك السلطات الثقافية الإقليمية والبلدية ، في وثيقة من ثماني صفحات نشرت أول أمس الأربعاء ، على المؤسسات العلمية والثقافية الألمانية على وضع قائمة “بالممتلكات الإثنولوجية والتاريخ الطبيعي والفني والتاريخي الثقافي “النابع من الاستعمار.
خلال الحقبة الاستعمارية تم سرقة بقايا بشرية وأشياء أخرى، وبصورة غير قانونية تم جلبها إلى ألمانيا، وتم تخزينها في مجموعات أنثربولوجية
يقول المسؤولون الألمان، إن “الأولوية في هذا العمل هي البقايا البشرية التي تعود إلى فترة الاستعمار”، بعد أن أصبح من غير المقبول من الناحية القانونية أو الأخلاقية بقاء هذه الممتلكات على ذمّة السلطات الألمانية لوقت إضافي.
ويوجد العديد من المتاحف والجامعات والمؤسسات، مجموعات من العظام التي استخدمت في التجارب العلمية ذات الطبيعة العرقية، وكان أغلب هذه التجارب تهدف إلى إثبات أن الأوروبيين البيض يتفوقون على باقي الأعراق، وخاصة تفوق الألمان على باقي الأجناس كما روّج لذلك أدولف هتلر.
واستخدمت البقايا البشرية (جماجم، هياكل عظمية، وبقايا شعر)، من ضحايا الألمان في ناميبيا ومستعمرات إفريقية أخرى كانت تابعة لإمبراطورية ألمانيا الاستعمارية، من بينها الكاميرون حاليا وتنزانيا ورواندا وتوغو، في هذه الدراسات العلمية من جانب علماء الأنثروبولوجيا، علم الإنسان، في مسعى لتبرير نظرية تتعلق بتفوق العرق الأوروبي.
وكان البيض يشكلون أقلية ذات امتيازات عالية في المستعمرات الألمانية، حيث يمثلون أقل من 1% من السكان. وعاش حوالي الـ 25 ألف ألماني في المستعمرات في عام 1914، أقل من نصفهم بقليل في جنوب غرب إفريقيا الألمانية، أعتبر الـ13 مليون من السكان الأصليين على أنهم أتباع مجردين من حقوقهم.
جماجم بشرية لأحد الناميبيين
خلال الحقبة الاستعمارية تم سرقة بقايا بشرية وأشياء أخرى، وبصورة غير قانونية تم جلبها إلى ألمانيا، وتم تخزينها في مجموعات أنثربولوجية، بالإضافة إلى العظام، تم سرقة أشياء تعود للأسلاف دون احترام المعتقدات الثقافية والدينية، وإحضارها إلى ألمانيا، وغالبا ما تم تخزين هذه الأشياء في المتاحف ومؤسسات البحث.
وسبق أن أرجعت ألمانيا بعض البقايا البشرية إلى ناميبيا، ففي أغسطس/أب، أعادت ألمانيا بقايا بشرية لسكان أصليين قتلوا خلال إبادة جماعية في ناميبيا أثناء فترة الاستعمار قبل ما يزيد على مئة عام. واستلم وفد حكومي من ناميبيا البقايا البشرية خلال مراسم دينية في كنيسة في العاصمة الألمانية برلين.
سبتمبر / أيلول 2011، تمّ تسليم 20 جمجمة من المستشفى الجامعي في برلين إلى ناميبيا. وفي مارس/آذار 2014 قامت جامعة فرايبورغ بإعادة 14 جمجمة و 3 هياكل عظمية وتم التسليم أيضا لوفد برئاسة وزير الثقافة الناميبي.
كما تم تسليم جماجم من المعهد الألماني للدراسات الاستوائية وشبه الاستوائية، وقطعة من فروة الرأس وثلاث مستحضرات مجهرية من الجلد من متحف Phyletic وجامعة جينا، وجمجتين وفك سفلي من Landesmuseum في هانوفر، وجمجمة من مستشفى جامعة هامبورغ- إيبندورف.
جرائم كبرى
خلال الفترة القصيرة التي قضتها ألمانيا الاستعمارية في دول إفريقيا، قامت هذه الإمبراطورية بجرائم كبرى، أبرز الإبادة الجماعية في ناميبيا، فخلال الحقبة الاستعمارية الألمانية في جنوب غرب إفريقيا( 1884-1915) كان وسط وجنوب البلاد موطن الجماعات العرقية (هيريرو وناما) تحت السيطرة المباشرة من قبل المستعمرين الألمان.
وتأسست الإمبراطورية الاستعمارية الألمانية في عهد المستشار أوتو فون بيسمارك، على الأراضي التي تدعى في يومنا الحاضر: ناميبيا، كاميرون، توغو، وأجزاء من تنزانيا وكينيا. وسعى الإمبراطور ويليام الثاني، الذي توج في عام 1888 إلى توسيع المستعمرات من خلال إنشاء أساطيل جديدة، فقد أرادت الإمبراطورية الألمانية (مكاناً لها في الشمس)، كما أعلن المستشار برنارد فون بولوف في عام 1897.
بين عامي 1904 و 1908 ضربت القوات الاستعمارية الألمانية بوحشية عمليات المقاومة من قبل هذه الجماعات. وتشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى 70 ألف من أفراد مجموعتي هيريرو وناما قُتلوا خلال هذه الحقية.
ويصف العديد من المؤرخين، هذه الأعمال الوحشية بأنها أول إبادة جماعية في القرن العشرين. وكان الجنرال لوتار فون تروتا أمر في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1904 بقتل أي فرد من شعب قبيلة “هيريرو”، سواء كان مسلحا أو من دون سلاح، يملك غنما أو لا، وقال: “لن أقبل أبدا بالمزيد من النساء والأطفال”، وفق ما دونته كتب التاريخ.
ترفض ألمانيا دفع مبالغ التعويض المباشر، وهي حذرة في تصنيف الجرائم على أنها إبادة جماعية رغم اعترافها بمسؤلياتها التاريخية عنها
في تلك الفترة، بنت القوات الألمانية معسكر سجناء في هذه جزيرة قبالة مدينة لوديريتز الناميبية، حشدت فيه كل المقاومين الذين ينتمون إلى هيريرو وناما. ويقول المؤرخون إن هذا المعتقل هو الأول في التاريخ الحديث، حيث سجن فيه قرابة 3 آلاف شخص، لم يبق منهم على قيد الحياة سوى 10 %، وتمّت إبادة الباقين.
وتعتبر الإبادة الجماعية ضد هيريرو وناما في جنوب غرب أفريقيا الألماني ( ناميبيا في الوقت الحاضر)، من أخطر الجرائم في تاريخ ألمانيا الاستعمارية. وهرب معظم ثوار هيريرو خلال معركة واتربيرغ في عام 1904 عبر الصحراء، حيث قطعت القوات الألمانية وصولهم إلى المياه بشكل ممنهج، وقدر عدد الذين لقوا حتفهم هناك ما يفوق الـ 60 ألف من السكان الأصليين.
لم ينج سوى ما يقارب الـ 16 ألف شخصا من الهيريرو من الإبادة الجماعية، إلا أنهم احتجزوا في معكسرات اعتقال حيث مات منهم الكثير، وحتى من نجوا بعد هروبهم عبر الصحراء فقد فقدوا كل ممتلكاتهم الشخصية وسبل العيش.
لم تكن هذه المجزرة الوحيدة في تاريخ الإمبراطورية الألمانية الاستعمارية، حيث وقدر عدد الذين ماتوا في ثورة ماجي ماجي سنة 1905 في شرق أفريقيا الألمانية بـ 100 ألف شخص، بالرغم من تجنب مناقشتها أو ذكرها فيما بعد بألمانيا، إلا أنها تشكل جزءً هاماً من تاريخ تنزانيا.
إقرار في انتظار الاعتذار
أقرت برلين بمسؤوليتها عن مذابح هيريرو وناما، لكنها لم تصدر بعد اعتذارًا رسميًا، ويتفاوض الناميبيون والألمان منذ سنوات حول هذه القضية ، بينما تعارض برلين دفع تعويضات لأحفاد الضحايا الذين يطالبون بالاعتذار والتعويض.
ولم يكن المسؤولين الألمان يحدثون عن هذه المجزرة أبدا، وفي عام 2004، خرجت مجزرة هيريرو وناما من دائرة الصمت، وكانت وزيرة التنمية الألمانية هايدماري ويكزوريك زول أول من كسر المحظور، حيث طلبت العفو عن هذه الجرائم المرتكبة في حق القبيلتين، لكنها واجهت حينها انتقادات لاذعة.
أبادت ألمانيا خلال احتلالها لدول إفريقية عديد الجماعات العرقية
وقالت وزيرة التنمية والتعاون الاقتصادي الألمانية “نحن الألمان نتقبل المسؤولية التاريخية والأخلاقية والذنب التي يتكبده الألمان في ذلك الوقت” . وبالإضافة إلى ذلك، اعترفت هايدماري ويكزوريك زول أن المذابح كانت تعادل إبادة جماعية.
وترفض ألمانيا دفع مبالغ التعويض المباشر، وهي حذرة في تصنيف الجرائم على أنها إبادة جماعية رغم اعترافها بمسؤلياتها التاريخية عنها. ودائما ما تقول إنها مستعدة لتنفيذ برامج مستقبلية لتنمية ناميبيا إلا أنها لم تفعل ذلك إلى الآن.
ليس الناميبيون وحدهم من يطالبون، بل أيضا سكان باقي المستعمرات مثل نيوزيلندا وإستراليا واليابان، خاصة وأن السلطات الألمانية سبق أن اعتذرت عن الجرائم التي ارتكبت ضدّ اليهود في عهد أدولف هتلتر، وساهمت في بناء الكيان الإسرائيلي كتعويض لهم على ما حصل.