آلية دفاعية قوية يستعملها الأفراد لتحرير ضمائرهم من عذاب المشاركة في الفساد وهي إلقاء العبء على الدولة والمؤسسات، فالمواطن صالح والدولة فاسدة، كأن هذه الدولة كيان خارج عن وجود الأفراد وتديره كائنات فاسدة مستقدمة من خارج الكوكب، في حين أن الموظف الفاسد في جهاز الحكم هو أولاً مواطن فاسد يفسد في استعمال الأجهزة، فالمواطن هو الفساد لكن سؤالي بل تأملاتي تخصص على بعض الحالة التونسية التي أعيشها وقد يكون بعض ما في تونس عينة لما في غيرها من بلدان العرب المنعوتة بالفشل التي تعيش خرابًا فعليًا نتيجة فساد كل شخص تصدى لوظيفة عامة أو بقي خارجها.
سؤال عن عمق الشعور بالوطنية لدى التونسي (عينة من العربي) ودون أن أسمح لنفسي بتوزيع شهادات في الوطنية هل يتمثل التونسي (العربي) العيش الجماعي وشروطه وهي أساس فعال للمواطنة وبناء الدول القوية.
نحتاج إلى أعادة تعريف الفرادنية
نستعمل لفظ الفرادنية عادة كمرادف للأنانية وهو ليس كذلك تمامًا فيما علمنا من علوم الاجتماع الإنساني ولكنه قد يكون كذلك في تونس، فقد دفع اقتصاد السوق الفرد الغربي إلى الانهمام بنفسه وحوّله إلى كائن استهلاكي في لهفة أبدية للاقتناء، لكن هذا الاقتصاد نفسه درب الفرد على التعايش المدني ورتب وضع الأوطان على تقاسم المشترك بروح بناءة تظهر في النظافة وحسن الجوار والمشاركة السياسية العقلانية عبر احترام المؤسسات وتطبيق القانون إلى حد كبير.
الحالة التونسية (العربية) بالمقارنة تحيل إلى معنى الأنانية أكثر من معاني التعايش الفرداني
رغم عبث المال بالانتخابات في السنوات الأخيرة (نموذج فرنسا خاصة) نتلمس وعيًا مواطنيًا كبيرًا لدى هذا الفرد الغربي الذي يعيش في جزيرة فردانيته ولكنه يفتحها على جزر الآخرين، بما يجعل فردانيته غير أنانية بل تعايشية إلى حد يجعل هذه الأوطان تنجح في خلق المزيد من الرفاه لمواطنيها وتضمن لهم عيشًا كريمًا، فيوجد حزم في تطبيق القانون ولكن يوجد انضباط مواطني يجعل القانون احتياطًا لا عصا مشهرة على رأس المواطن كل صباح.
الحالة التونسية (العربية) بالمقارنة تحيل إلى معنى الأنانية أكثر من معاني التعايش الفرداني كما نعاينها في مجتمعات غربية، وحتى لا نرمى بعقدة النقص من موقع المغلوب أمام الغالب نتأمل حالات الفساد في تونس التي تعرت وانكشفت بفعل الإعلام الحر أو المنفلت بعد طول إخفاء وتمويه من حكومات فاشلة.
وها هي الأسئلة التي تهمين على النقاشات في تونس هذه الأيام: هل يمكن لمن يغش الدواء أن يكون مواطنًا؟ هل يمكن لمن يعبث بصحة الأطفال أن يكون مواطنًا؟ هل يمكن للمعلم الذي يعتدي جنسيًا على تلاميذ دون العاشرة أن يكون مواطنًا؟ هل يمكن للوزير الذي يقبل الرشوة أن يكون مواطنًا؟ هل يمكن للوزير الذي يخدعه مرؤوسه ويقبضون من ورائه أن يكون مواطنًا مسؤولاً يقوم على الشأن العام؟ هل يمكن لعون الديوانة (الجمارك) الذي يرتشي فيدخل المخدرات القاتلة أن يكون مواطنًا؟ هل يمكن للطبيب الذي يقبض قبل العلاج ويحدد أجره وحده متحديًا كل منطق تعايش أن يكون مواطنًا؟ هل يمكن للحزب الذي يضع برنامجًا سياسيًا للقتل الجماعي أن يكون حزب مواطنين؟ هل يمكن للرئيس الذي يشعل نار الفتنة بين مواطنيه أن يكون مواطنًا؟
وكم علينا أن نعدد ففي كل مكان رشوة وفساد تكشف أفرادًا يهتمون فقط بذواتهم وبمراكمة منافع على غير وجه من حق أو قانون بما يفتح الباب لسؤال أعمق: هل ربت هذه الدولة مواطنين أم ربت كائنات إجرامية تتخذ من مواقعها في الإدارة سبيلاً فردانيًا معدمة حق الآخرين في الحياة رغم الاشتراك في الرقعة الترابية المسماة في البرامج المدرسية وطنًا وهل مدرسة تلك التي لا تخرج مواطنين متعايشين؟
نحن مجموعة من الأفراد وجدنا في مكان واحد ولا نبذل جهدًا حقيقيًا للحفاظ عليه كمكان للعيش الجماعي المشترك ضمن شروط السلم والتقدم، نحن في تونس وهذه جملة مليئة بمشاعر حزينة لم نرتق إلى المواطنة.
المدرسة التونسية فاشلة
في محاولة يائسة للبحث عن سبب هذا الفشل في المواطنة اتهم المدرسة أولاً، لكن ماذا تكون المدرسة لولا السياسة وما السياسة غير الأفراد الذين يعمرون دواليب الإدارة، فتوجد حلقة مفرغة تعيد إنتاج الفردانية بمعناها الأناني (التونسي أو العربي لأني أصر على تشابه كبير بين مجتمعاتنا العربية)، فالزعيم العربي الذي حول العملية التعليمية إلى وسيلة دعائية لشخصه لم يخلق بها ولاء لوطن أو انتماء لجماعة بل بث بها رعبًا من شخصه اختزن الناس منه النفاق والتهرب من مواجهة الحقيقة ثم تحويل الجهد إلى أنانية أخرى.
هل علينا أن نشعر بالعار؟ نحن لا نفعل ذلك بل نجد مخارج نفسية من قبيل القول بتفوق التونسي في كل مكان والقول بعبقرية التجربة السياسية التونسية
فالزعيم ليس صاحب حق في أرواح الناس والناس يردون على قهر الزعيم بالتفرغ لذواتهم، فتتحول حيواتهم إلى البحث عن الخلاص الفردي وينتجون لذلك ما يكفي من التبرير لكي يستمروا على ما فيه، وهكذا وبعد جيل أو اثنين على الأكثر تتحول الأوطان (وقد تحولت) إلى حالة الفساد التي نرى ولا نفلح في النجاة منها لأنها مستشرية وتملك حججها لتستمر، ومن حججها اتهام الدولة، فالعيب هناك كأن الدولة ليست أفرادها (مواطنيها).
هل علينا أن نشعر بالعار؟ نحن لا نفعل ذلك بل نجد مخارج نفسية من قبيل القول بتفوق التونسي في كل مكان والقول بعبقرية التجربة السياسية التونسية، فهذا الخطاب التسويقي يشعر بالعار لكنه لا يملك شجاعة مواجهة نواقصه، لذلك يغالي في اختلاق انتصارات لا وجود لها في الواقع بما في ذلك تجربة التوافق السياسي التي بررناها بإنقاذ الدولة لنغطي على إنقاذ ماكينة الفساد التي تعرت هذه الأيام في المستشفى وسوق الدواء مثلما تعرت في سرقة حقائب المسافرين بالمطار وهو أمر تافه لكنه ذو دلالة لا تخفى على عين ناقدة.
هل علينا أن نهدم الدولة؟
هذا السؤال إقصائي يمنع النقد، نعم يجب أن نهدم التجربة التي قامت حتى الآن على قاعدة من فساد، فلا يصادر أحد رغبتنا في تخيل خيارات أخرى وإن لم نكن أهل السلطة، وكيف نكون في سلطة يديرها الأقل كفاءة والأقل تجربة والأسرع إلى منافقة الناس عبر الإيهام بالقوة؟ كيف نهدمها؟ وماذا سيحل محلها لكي لا تكون فوضى عارمة ويكون خراب بلا مصلح؟
هناك تهدم التجربة ويعاد التأسيس بما في ذلك تأسيس المدرسة على خلاف فكرة المركزية التي صنعت الفساد
كانت هناك فكرة التأسيس بالثورة وكانت فكرة إنقاذ النظام، سقط التأسيس فعلا إلا من نص يتيم في الدستور بينما استعاد النظام الفاسد سلطته على مربعاته حيث يعشش فساده وينتعش، ففي التأسيس كان الباب السابع وفي المسار اليومي يهرب الجميع من مناقشة الباب السابع الذي يفكك السلطة المركزية ويفتح الباب للفاعلين في الأطراف ليعيدوا بناء دولتهم وذواتهم داخلها دون العودة إلى إرث الزعيم الفاشل (ويجب أن أقول الفاشي فهو فاشل لأنه فاشي).
هناك تهدم التجربة ويعاد التأسيس بما في ذلك تأسيس المدرسة على خلاف فكرة المركزية التي صنعت الفساد، في محاول خلق القطيع المنسجم بلون موحد يبدأ بلون الميدعة المدرسة وينتهي بتبريرات موحده لأنانية المطلقة.
هل ستحدث معجزة؟ هذا أيضًا سؤال إقصائي أعرف أن المسار الحاليّ سينتهي بنا إلى وضع اللادولة واللامواطن حيث ينعدم الوجود الاجتماعي والفردي وحتى أنانية الأنانيين لن تجد لها مغنمًا في الخراب الشامل.