دشنت احتجاجات 22 من فبراير/شباط 2019 في الجزائر حلقة جديدة من النضالات الشعبية التي لم تتوقف، فمع إعلان بوتفليقة نيته الترشح لعهدة خامسة في الانتخابات الرئاسية التي كان من المزمع إجراؤها في شهر أبريل/نيسان المقبل انطلقت المظاهرات المليونية الرافضة لترشح بوتفليقة بجميع شوارع الجزائر في مشهد عظيم لاقى إعجاب العالم، إذ وصفت جريدة “لوموند” الفرنسية الاحتجاجات الجزائرية بأنها “أجمل مظاهرة في العالم”.
وفي 11 من مارس/آذار الحاليّ تراجع الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عن الترشح لولاية خامسة وأعلن تأجيل الانتخابات الرئاسية، وعليه انتصر الشعب الجزائري على الدولة العميقة التي رسخت وجودها منذ سنوات التسعينات ولكن ما زال الطريق طويلاً جدًا على تفكيك النظام السابق وبناء دولة جديدة، كانت الاحتجاجات هي خطوة الألف ميل التي يجب أن يتبعها الاعتبار بدروس الماضي والاستفادة من تجارب الدول المجاورة مع الأخد في الاعتبار التعلم من دورة حياة الثورات.
في البدء يأتي التنافر الطبقي الذي يتكون في المجتمع لعدم كفاءة الحاكم
في كتابه “تشريح الثورة” ذكر المؤرخ والكاتب الأمريكي كرين برينتن أن للثورات أربع مراحل وتتبع برينتين في دراسته المعمقة 4 من أهم الثورات في التاريخ الإنساني وهي: الثورة الفرنسية والثورة البلشفية في روسيا والثورة الأمريكية والحرب الأهلية الإنجليزية، وحاول أن يفسر في كتابه التغيرات التي تحدث في المشهد السياسي الثوري.
حسب العالم الاجتماعي ماكس فيبر فإن الطبقة المتوسطة هي الطبقة التي تشكل السواد الأعظم من سكان العالم وفي الوقت ذاته المحرك الرئيسي لتفاعلاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية
تبدأ المرحلة الأولى من الثورة أو الحراك السياسي كما يراها برينتين بعدم رضا الطبقة المتوسطة عن السياسات الاقتصادية للنظام الحاكم، وبعد مدة ينتقل سخط الطبقة المتوسطة إلى باقي الشعب، ومن هنا تبدأ المواجهات بين الشعب والحكومة تنتهي بمعركة مصيرية ينهار فيها الجهاز البيروقراطي تحت ضغط الانتفاضة والانهيار المالي.
وبحسب العالم الاجتماعي ماكس فيبر فإن الطبقة المتوسطة هي الطبقة التي تشكل السواد الأعظم من سكان العالم وفي الوقت ذاته المحرك الرئيسي لتفاعلاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ووفقًا لفيبر فإن اتساع حجم الطبقة المتوسطة يعد مؤشرًا إيجابيًا في بنية المجتمعات لأن هذه الطبقة هي المسؤول الرئيسي عن الاستقرار الاجتماعي والتجديد الديمقراطي.
ودور الطبقة المتوسطة لا يقتصر على الحراك السياسي ولكنه يتجسد أيضًا في القدرة على تنظيم التحركات المجتمعية، فعلى سبيل المثال وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2009 خرجت الجموع الجزائرية بفرح عارم إثر التأهل لمنتخب العالم بعد الفوز على المنتخب المصري رافعين شعار “واحد، اثنان، ثلاثة.. تعيش الجزائر“، والحقيقة أن هذا الشعار وهذا التحرك كان له معنى أعمق من الفوز الكروي إذ جسد بالنسب للشعب الجزائري احتفالًا ذا طابع وطني فرحًا بنهاية الحرب الأهلية واستعادة تملك الفضاء العام.
المرحلة الثانية: الخروج للشارع من أجل إسقاط النظام الحاكم
أطلق برينتن على هذه المرحلة اسم فترة شهر العسل وذلك لأنها تتصف بمثالية شديدة، فخلالها يخرج الثوار إلى الشوارع في مظهر حضاري على شكل مسيرات حافلة بالحب والأمل، ترتفع الهتافات الوطنية التي تعلي من قيمة الوطن ويرددها الشعب بجميع أطيافه، وفي تلك الأثناء تُكتب أغاني الحرية ليصدح بها الوطن ويفوق من سباته الطويل مقررًا منح هذا الشعب فرصة أخرى.
نظف الجزائريون الميادين بعد انتهاء كل يوم من الاحتجاجات، وفي أثناء سيرهم في شوارع العاصمة وهم يغنون أغاني الحرية كانوا يتوقفون فجأة عن الهتاف والغناء أمام مستشفى مصطفى باشا الجامعي أكبر مستشفيات الجزائر احترامًا للمرضى
في حالة الجزائر كانت المسيرات المليونية كسيل جارف في جميع شوارع الجزائر، خرج جميع فئات المجتمع: العمال وطلبة الجامعات والشباب والشيوخ والنساء إذ صادفت الجمعة الثالثة للحراك الشعبي الجزائري اليوم العالمي للمرأة الموافق 8 من مارس/آذار فخرجت المرأة الجزائرية في مسيرات جماعية باللباس الشعبي “الحايك” الذي يعد رمزًا للمرأة الجزائرية الثائرة حيث جابت جميع الميادين لترفع صوتها وتهتف ضد العهدة الخامسة لبوتفليقة.
لم يقتصر الأمر على هذا الحد، إذ نظف الجزائريون الميادين بعد انتهاء كل يوم من الاحتجاجات، وفي أثناء سيرهم في شوارع العاصمة وهم يغنون أغاني الحرية كانوا يتوقفون فجأة عن الهتاف والغناء أمام مستشفى مصطفى باشا الجامعي أكبر مستشفيات الجزائر احترامًا للمرضى.
المرحلة الثالثة: فترة الأزمة واستيلاء المتطرفين على السلطة
تبقى الثورات شأنها شأن باقي أمور الحياة، لها لحظات سعادة وأخرى خيبة أمل، لها أصدقاء ولديها أعداء، لها بداية ولها نهاية، وقد تكون تلك النهاية سعيدة كالانتصار والقدرة على تفكيك الدولة السلطوية السابقة وبناء نظام جديد، وقد تأتي النهاية مأسوية إذ يعيد النظام السابق استنساخ نفسه ومن الممكن أن يكون النظام الجديد أسوأ من النظام الذي قامت ضده الثورة من الأساس.
الثابت في هذا الشأن أن الثورات أو الاحتجاجات السلمية ضد أي نظام ديكتاتوري عتيد هي كائنات هشة وليست مخلوقات أسطورية يمكن استغلالها أو يمكن القضاء عليها واغتيالها، ولكن حتى في حال وأد الثورة أو الحراك في مهده تظل بذرة التمرد والمقاومة كائنة في هذا المجتمع ويمكن أن تفلت من سجانها يومًا مًا.
كرد فعل على صعوبة تلك المهام الموكلة إلى الحكومة الجديدة التي ترفض التخلي عن أنماط الإدارة القديمة مما يؤدي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي ينقسم الثوار بين أنفسهم وتزداد حدة التوتر بين المعتدلين والراديكاليين
في هذه المرحلة يذكر برينتن أن الثوار ورغم التحامهم في الشارع فإنهم يختلفون فيما يخص إدارة شؤون البلاد، وغالبًا ما يتولى المعتدلون الذين كانوا في أعلى مراتب المعارضة في الحكومة القديمة أمور البلاد بشكل شبه تلقائي، ولكن فور أن يصلوا إلى السلطة حتى يتبين أنهم أقل انسجامًا وانضباطًا مما بدا حين كانوا في صفوف المعارضة، إذ تنهار عليهم مهام الاقتصاد العسيرة هذا بالإضافة إلى مسؤوليات إصلاح المؤسسات القائمة ووضع دستور جديد وكذلك تسيير أمور الحكم العادية.
وكرد فعل على صعوبة تلك المهام الموكلة إلى الحكومة الجديدة التي ترفض التخلي عن أنماط الإدارة القديمة مما يؤدي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي ينقسم الثوار بين أنفسهم وتزداد حدة التوتر بين المعتدلين والراديكاليين، وحيث إن المناخ الجديد تسوده رياح الحرية الوليدة فإن الراديكاليين يستغلون ذلك المناخ في المعارضة من أجل نشر أفكارهم الراديكالية وينجحون في ذلك إلى حد بعيد، إذ رأت أغلب أطياف الشعب فشل الحكومة المعتدلة في إصلاح الاقتصاد وعليه ينجح الراديكاليون في الوصول إلى السلطة بسبب تنظيمهم الشديد وانضباطهم وهنا تبدأ المرحلة الرابعة.
المرحلة الرابعة: يُدفع بالمعتدلين والثوار خارج السلطة
يفقد المعتدلون والثوار كل رصيدهم لدى الشعب وتزداد الشكوك بشأن قدرتهم على تحقيق آمال الجموع العريضة بعد الثورة، وفيما بعد يفقد الشعب إيمانه بالثورة وتصبح في نظره كأنها حلم كان جميلًا ولكنه لم يستمر إذ استيقظوا على الكثير من الأخطاء، وبعد وصول السلطة الراديكالية إلى الحكم تودع جميع أعضاء الحكومة المعتدلة في غياهب السجون وتبدأ كما أسماها الكاتب “المأساة الكبرى” حيث يستبد بالحكم تيار متشدد أوحد يوهم الشعب بأن الوطن يواجه معركة كبرى ضد أعداء وهميين والأهم في هذه الجولة من المعركة هو توفير الأمن والأمان.
ما يُعطي بصيصًا من الأمل أن الشعب الجزائري لديه خبرة كبيرة في الحراكات السياسية وهذه التجربة ليست تجربته الأولى
لا يكتفِ الحاكم المستبد بذلك ولكنه يستخدم أذرعه الإعلامية من أجل إيهام الشعب بأن جميع مشكلاته نابعة من ذاته، فسبب الركود الاقتصادي هو الكسل وعدم الالتفاف على الحكومة الجديدة التي تواجه تحديات عصبية، وفي هذه الأثناء يستخدم الحاكم الجديد العنف من أجل التنكيل بجميع المعارضين وبذلك تنتهي حالة الثورة وتدخل الدولة في مسار جديد يرتدي حلته الماضية، وفي النهاية يدرك الجميع بأن الدولة العميقة لم تتفكك ولكنها تحولت سمخًا وستجعل الجميع يدفع ثمن الثورة عليها.
في النهاية، ربما يكون كتاب “تشريح الثورة” قد أصاب الهدف في تحليل مراحل الثورة، وربما تكون تلك المراحل قد طُبقت بالفعل على بعض الثورات مثل ثورة 25 يناير المصرية، ولذا يجب أن يأخذ الجزائريون حذرهم ويستفيدوا من تجارب دول الربيع العربي حتى لا تُستنسخ تلك التجارب مجددًا، ولكن ما يُعطي بصيصًا من الأمل أن الشعب الجزائري لديه خبرة كبيرة في الحراكات السياسية وهذه التجربة ليست تجربته الأولى، فقد كانت هناك مظاهرات 11 من ديسمبر/كانون الأول 1960 ضد الاستعمار الفرنسي، ومظاهرات 5 من أكتوبر/تشرين الأول 1988 ضد الديكتاتورية العسكرية، وأحداث الزيت والسكر خلال عام 2011 وكذلك مظاهرات 2014 ضد ترشح بوتفليقة للعهدة الرابعة، ولذا يمكن القول إن بذرة الثورة والمقاومة ليست هشة في الجزائر، إذ اشتد عودها بفعل كل تلك الحراكات وربما يصعب انتزاعها بسهولة هذه المرة.