مع انتهاء المصلين من صلاة الجمعة بمسجدين منفصلين في مدينة كرايست تشيرتش بجزيرة ساوث آيلاند النيوزلندي، وعلى أنغام الموسيقى فتح إرهابي أسترالي النار عليهم بدم بارد، من بندقيته التي كتب عليها أحداثًا تاريخية مثل حصار عكا ومعارك العثمانيين مع القوى الأوروبية، ليخلف 49 قتيلاً وعشرات الجرحى، في أبشع حادث إرهابي يستهدف المسلمين هناك.
جريمة إرهابية صادمة بأسلوب جديد لم يؤلف من قبل، يعيد ظاهرة “الإسلاموفوبيا” إلى الواجهة، خاصة أن الإرهابي منفذ الهجمات برر فعلته الشنيعة بدفاعه عن العرق الأبيض ضد المسلمين “الغزاة”، وسعيه إلى أن يحفز اليمين العنصري المتطرف لشن هجمات جديدة لتخويف المهاجرين وتحذيرهم من السفر إلى أوروبا والغرب.
يميني متطرف يؤمن بتفوق الجنس الأبيض
في سلاح جريمته وباقي البنادق التي حملها معه في سيارته، وفي بيان مطول من 73 صفحة نشره على صفحته على تويتر قبل الهجوم، ترك مرتكب الجريمة الإرهابية المروعة إشارات عديدة تحمل توجهه الأيديولوجي والسياسي.
متطرف يميني يحمل أيديولوجية عنصرية تؤمن بتفوق الجنس الأبيض والعداء للمسلمين والمهاجرين، ويرى أنه يجب التصدي للمسلمين وبث الخوف فيهم حتى يكفوا عن القدوم إلى “أرضهم”، ووجوب تنفيذ هجمات ضدهم لتخويفهم.
وبرر القاتل في بيانه بعنوان “البديل العظيم” أسباب ارتكابه لهذه المذبحة، مشيرًا إلى التزايد الكبير لعدد المهاجرين الذين اعتبرهم محتلين وغزاة، وأضاف “أرضنا لن تكون يومًا للمهاجرين، وهذا الوطن الذي كان للرجال البيض سيظل كذلك ولن يستطيعوا يومًا استبدال شعبنا”.
يتواصل المتطرفون في الغرب عبر الإنترنت من خلال منتديات خاصة، للتشاور في كيفية محاربة المسلمين وبث الخوف في صفوفهم
أراد الأسترالي برينتون تارانت أن تكون عمليته جرس إنذار في الغرب، ورسالة من “مجرد رجل أبيض عادي” تتضمن مجموعة من الإشارات التحذيرية لقضايا مثل نسب المواليد وحلول المهاجرين والمسلمين محل الأوروبيين البيض في العالم الغربي وغفلة الأوروبيين عن غزو المهاجرين والمسلمين لبلادهم.
وقال منفذ هذا الهجوم الإرهابي – في هذه الوثيقة – إنه دعم الرئيس ترامب باعتباره “رمزًا لهوية البيض والأهداف المشتركة لا باعتباره زعيمًا سياسيًا”، وأراد تارانت – بحسب الوثيقة – أن يحفز اليمين العنصري المتطرف لشن هجمات جديدة لتخويف المهاجرين وتحذيرهم من السفر إلى أوروبا والغرب.
واستدعى تارانت أحداثًا تاريخية مثل حصار عكا 1189، ومعارك العثمانيين مع القوى الأوروبية، ومنها معركة فيينا 1863، ومعركة شيبكا 1877 مع الإمبراطورية الروسية وبلغاريا، وهي الأحداث التاريخية التي يعود أحدثها لنحو قرن ونصف القرن، وقال المجرم الأسترالي إنه يسعى لدق إسفين بين دول حلف شمال الأطلسي الأوروبية والأتراك، الذين يشكلون جزءًا من الناتو، وبالتالي تحويل الناتو مرة أخرى إلى جيش أوروبي موحد ودفع تركيا لخانة العدو.
الإسلاموفوبيا وراء الهجوم
هذا الهجوم قال الأزهر الشريف في مصر إنه يشكل مؤشرًا خطيرًا على النتائج الوخيمة التي قد تترتب على تصاعد خطاب الكراهية ومعاداة الأجانب وانتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا في العديد من بلدان أوروبا، حتى تلك التي كانت تعرف بالتعايش الراسخ بين سكانها.
وقال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك إن الأمين العام أنطونيو غوتيريس “شعر بالصدمة والفزع إزاء الهجوم الإرهابي”، وهو يدعو جميع الناس في هذا اليوم المقدس للمسلمين لإظهار علامات التضامن معهم، مشددًا على ضرورة مواجهة الإسلاموفوبيا والتعصب والتطرف العنيف بجميع أشكاله.
بدوره، أكد بابا الفاتيكان فرانشيسكو “تضامنه الخالص” مع كل النيوزيلنديين والمسلمين منهم بشكل خاص، وقال وزير خارجية الفاتيكان بيترو بارولين في برقية إن البابا يشعر بحزن عميق لعلمه بالإصابات والخسارة في الأرواح الناجمة عن أعمال العنف العبثية، وأدان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشدة في تغريدة ما وصفه بالهجوم الإرهابي، كما قدم في تغريدة ثانية التعازي نيابة عن بلده إلى العالم الإسلامي وشعب نيوزيلندا، واصفًا ما حدث بأنه “أحدث مثال على تصاعد العنصرية ومعاداة الإسلام”.
معاني الكلمات المكتوبة على سلاح الإرهابي الذي نفذ الهجمات في نيوزيلندا
في تركيا أيضًا، ذكر وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو أن الهجوم “شيطنة” متعمدة للنضال السياسي للمسلمين، وكتب على تويتر “ليس فقط مرتكبو هذه الجرائم البشعة بل أيضًا الساسة ووسائل الإعلام الذين يغذون ظاهرة الإسلاموفوبيا المتنامية بالفعل والكراهية في الغرب يتحملون القدر نفسه من المسؤولية عن هذا الهجوم الشنيع”.
وقال رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو: “يعيش المسلمون مرارًا خسائر وآلامًا لا يمكن تخيلهما في الأماكن التي يحتاجون لأن يشعروا بالأمان فيها، أنتم في قلوبنا وعقولنا، فنحن إلى جانبكم في هذا الوقت العصيب”، مطالبًا بالتوحد للتغلب على وباء الإرهاب بكل أشكاله.
كما أعربت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن حزنها العميق والصدمة تجاه الاعتداء بسبب العنصرية والكراهية، بينما حمّل مفتي أستراليا ونيوزيلندا “الحشد السياسي والإعلامي لليمين المتطرف” مسؤولية الهجوم.
ودعت رئيسة الوزراء النرويجية إرنا سولبرغ إلى مكافحة جميع أشكال التطرف، وقالت إنه يعيد الذكريات الأليمة التي اختبرناها في 22 من يوليو/تموز 2011، أصعب لحظة في فترة ما بعد الحرب في النرويج، في إشارة إلى هجوم مماثل نفذه النرويجي اليميني المتطرف أندرس بيرينغ بريفيك.
ووصف المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان الهجوم بأنه جريمة إرهابية، معتبرًا أنها جاءت مع استمرار حملة التحريض المستمرة ضد المسلمين بالغرب في وسائل الإعلام التي تغذيها الأحزاب اليمينية، كما وصف مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتن الهجوم بأنه هجوم إرهابي وجريمة كراهية، مضيفًا “نشعر بالقلق ونتطلع للتعاون مع السلطات النيوزيلندية ومدها بكل ما يمكننا تقديمه من مساعدة“.
كره المسلمين في تزايد
هذه الحادثة الأليمة أعادت ظاهرة الإسلاموفوبيا، منذرة بمزيد من انتشارها، خاصة أن التيار اليميني المتطرف يعتقد أن المسلمين يقوضون ثقافتهم وهويتهم، وعليهم مواجهتهم قبل أن يتزايد خطرهم، ويتبنون مزيجًا من الأفكار الدينية المتطرفة والعنصرية والقومية المتشددة.
ويتواصل المتطرفون في الغرب عبر الإنترنت من خلال منتديات خاصة، للتشاور في كيفية محاربة المسلمين وبث الخوف في صفوفهم، حتى يتركوا الأراضي الغربية، ذلك أنهم يخافون من الانتشار الكبير للمسلمين هناك.
خطاب اليمين المتطرف ساهم في تنامي الأعمال العدائية ضد المسلمين والعرب وفي حق المساجد ومقابر المسلمين التي تعرضت للتدنيس في أكثر من مناسبة
لم يسبق أن كانت نيوزيلندا في دائرة الضوء فيما يتعلق بعداء الأجانب والمسلمين، فهي دولة معروفة بمستوى كبير من التعايش وبعيدة عن لائحة المناطق التي بات فيها موضوع الإسلاموفوبيا وعداء الأجانب يشكل تحديًا حقيقيًا، إلا أن الإرهابي اختارها لتنفيذ عمليته، وهو ما يؤكد أن خطر العداء للمسلمين يشهد انتشارًا كبيرًا، حيث أصبح جميع المسلمين في أغلب الدول الغربية حتى تلك التي تقبل التنوع وتتبناه، في خطر كبير.
ويعرف المسلمون الذين يشكلون الآن نحو 1% من السكان في نيوزيلندا بتعايشهم بسلام مع أتباع الديانات الأخرى، إلا أن ذلك لم يشفع لهم أمام هذا الإرهابي الأسترالي الذي يتشارك أفكاره اليمينية المتطرفة مع المئات من المتطرفين أمثله الذين يرون في المسلمين أعداءً لهم، وجب القضاء عليهم.
وما يسجل في هذه الحادثة أن منفذ العملية أسترالي وليس نيوزيلندي، ولا تعد الإسلاموفوبيا ظاهرة جديدة ولا نادرة في أستراليا، فهناك خطاب إعلامي معاد للمسلمين في وسائل الإعلام من خلال الصور النمطية السلبية للمسلمين، واستفاد العديد من السياسيين اليمينيين من هذه الصور النمطية السلبية، وأسهم ذلك في المزيد من تهميش وتمييز واستبعاد المجتمع المسلم.
خطاب محرض من اليمين المتطرف
انتشار الإسلاموفوبيا يعود بدرجة كبيرة إلى الخطاب المحرض لدى بعض وسائل الإعلام وآخر متهافت وجاهل بالإسلام لدى أكثر المنابر الإعلامية اعتدالاً في البلدان الغربية، فكثير من هذه الوسائل تروج لخطاب كراهية لتحقيق نسب مشاهدة أكثر وتوجيه الرأي العام لخدمة اليمين المتطرف.
وعقب هجمات 11 من سبتمبر/أيلول 2001، عملت الأحزاب اليمينية المتشددة و”الشعبوية” على استثمار المناخ اللاحق لهذه الهجمات في تكريس الخوف من الإسلام والمسلمين وتوظيفه لغايات انتخابية، فظهرت شعارات منها أسلمة أوروبا والتهديد الإسلامي الخفي، وغير ذلك من الشعارات التي وفرت لليمين المتطرف خطابًا مسموعًا عوضه عن ضعف خطابه السياسي ومحدودية البدائل الاقتصادية والاجتماعية التي يُقدمها.
وساهم هذا الأمر في انتشار الإسلاموفوبيا التي تعتبر نوعًا من العنصرية البشعة قوامها جملة من الأفعال والمشاعر والأفكار النمطية المسبقة المعادية للإسلام والمسلمين، ويُرجع أول استعمال لمفهوم “الإسلاموفوبيا” إلى بدايات القرن العشرين، حين استعمله علماء اجتماع فرنسيون لوصف رفض جزء من الإداريين الفرنسيين ومعاداتهم للمجتمعات المسلمة التي كانوا يتولون إدارة شؤونها في زمن الاحتلال.
في عام 2005، دخل مفهوم الإسلاموفوبيا إلى المعاجم الفرنسية بدءًا بمعجم (Le petit Robert) الذي عرف الإسلاموفوبيا كالتالي: “شكل خاص من الحقد موجه ضد الإسلام والمسلمين، يتجلى بفرنسا في أفعال عدائية وتمييز عنصري ضد المهاجرين المنحدرين من أصول مغاربية”.
تنامي خطاب الكرهية ضد المسلمين
خطاب اليمين المتطرف ساهم في تنامي الأعمال العدائية ضد المسلمين والعرب وفي حق المساجد ومقابر المسلمين التي تعرضت للتدنيس في أكثر من مناسبة، كما ظهرت مجموعات من شبان اليمين تعتدي بشكل منظم ومنهجي على المسلمين في شوارع وأزقة المدن الأوروبية كلما سنحت لها سانحة.
وفي السنوات الأخيرة، مع تنامي عمليات اللجوء خاصة من السوريين والدول العربية التي تشهد اضطرابات، ازدهر خطاب الكراهية من جديد، وكشفت قرارات عدد من الدول بإغلاق حدودها مع اليونان ودول البلقان نزعة دفينة للشعور القومي الذي سبق له أن جر على أوروبا ويلاتٍ لا تُحصى.
وباتت أخبار الاعتداء على المسلمين تأتي من معظم العواصم الأوروبية، حيث شهدت العاصمة البريطانية لندن في أبريل/نيسان 2017، اعتداءً على امرأة محجبة تم إنزالها من حافلة نقل عام عنوةً، كما تعرضت عدة نساء محجبات لاعتداءات مشابهة عام 2016 في لندن، وتضمنت الاعتداءات أعمال ضربٍ في الشارع وإزالة للحجاب.
وذكر بيان لجمعية مكافحة الإسلاموفوبيا في فرنسا أن البلاد شهدت عام 2016، حدوث 419 جريمة تمييز و39 جريمة مضايقة وتحرش و25 هجومًا و98 حادثة خطاب يحض على الكراهية واعتداء على المباني الدينية.
وفي النمسا، سجلت أحداث الاعتداءات النابعة عن كراهية الإسلام زيادة بنسبة 65%، حيث تعرض المسلمون هناك لاعتداءات أثرت على حياتهم اليومية، وفي سبتمبر/أيلول 2016، شهدت العاصمة النمساوية فيينا، اعتداء مواطن نمساوي على مواطنة نمساوية من أصل تركي أويغوري، وتدعى شهربن دورماز (51 عامًا)، حيث اعتدى المواطن النمساوي على دورماز، بالضرب ونزع الخمار عن رأسها.
وتعتبر الولايات المتحدة الأميركية من أكثر البلدان التي تشهد جرائم كراهية ضد المسلمين، وقد ذكر مكتب التحقيق الفيدرالي الأمريكي (إف بي آي) في مايو/أيار 2017 أن نسبة تلك الجرائم شهدت ارتفاعًا بنسبة 67% عام 2015، مشيرًا إلى أن عدد المجموعات المعادية للمسلمين في تزايد.
انتشار خطاب الكراهية، وارتفاع حدة الجرائم في حق المسلمين في العديد من المناطق الغربية من شأنها في حال استمرارها بهذا النهج المتسارع والخطير، أن تزيد من حدة الكراهية ضد المسلمين الأمر الذي يهدد حياتهم ومستقبلهم، لذلك فإنه من الضروري التصدي لهذا الخطاب وخلق مجتمعات تؤمن بالتنوع والتعدد.