عندما أراد جورج بوش الصغير تعبئة الرأي العام لمغامرته الدموية في غزوه للعراق عام 2003، عمد لتذكيرهم بالحروب الصليبية التي خاضها أجدادهم لقرون عديدة ضد شعوب المنطقة، بحجة تخليص بيت المقدس من “البرابرة” العرب المسلمين كما يسمونهم، وحينما تم تنبيهه من مساعديه، أنه ارتكب خطأ في إعلانه ذلك ويتنافى مع منظومة النفاق الغربية التي ينتهجونها في تحوير جرائمهم وقلب الحقائق وتسميتها بغير مسمياتها، جاء بعذرٍ أقبح من ذنبه، حينما قال إنها مجرد زلة لسان وكان يقصد رفع معنويات الشعب الأمريكي للحرب التي ينوي خوضها بالعراق.
مما يعني أنه يُقر بأن شعوبه وباقي الشعوب الغربية قد تم تنشئتها على أن الحروب الصليبية كانت حروب عادلة حينما كانت تريد الاستيلاء على الأرض العربية والمقدسات الإسلامية وسلبها من أصحابها الحقيقيين باسم الدين، والسياسيين الغربين يربون شعوبهم اليوم على الحقد الأعمى لتبرير مصالحهم، كما كان رجال الكنيسة بالأمس يبررون الحروب الصليبية على الأرض العربية والإسلامية، للمزيد من السيطرة لرجالات الكنيسة على شعوب العالم، لا سيما العربية والإسلامية منها.
لم يأت الإرهابي تارانت بجديد حينما اقترف جريمته بحق المصلين العزل في مساجد نيوزلندا
ما الفرق الجوهري بين ما اقترفه الإرهابي برينتون تارانت من مجزرة بحق المسلمين في مساجد نيوزلندا، وما اقترفه الإرهابي جورج بوش الصغير في العراق؟ توحدت الشعارات والدوافع لكليهما وتشابهت الأهداف، إلا أن الفارق الوحيد هو بالإمكانات، فإذا كان تارانت قد قتل ما يقارب 50 شخصًا من العرب والمسلمين العزل، فقد فعلها الإرهابي بوش الصغير ومن قبله أبوه، بقتل ملايين العراقيين بالحروب التي شنّوها على العراق، والحصار الذي فرضوه على شعبه الأعزل، وعمليات الانتقام التي اقترفوها بحق شبابه في سجن أبو غريب، ولم تنته جرائهم بهذا الحد، إنما استمرت في تحطيم حواضر العراق على رؤوس أهلها، في مدن الأنبار والموصل وبقية مدن العراق، وسلطت كل إرهابيي العالم للانتقام من هذا الشعب المسالم، تارة بمليشيات إرهابية طائفية تحمل حقدًا أسود تريد أن تنفسَّ عنه في أجساد العراقيين، وتارة أخرى بعصابات إجرامية كداعش وأخواتها التي أنشأتها على عينها المخابرات الغربية، لتسوق الدمار والخراب إلى بلاد المسلمين.
لم يأت الإرهابي تارانت بجديد حينما اقترف جريمته بحق المصلين العزل في مساجد نيوزلندا، فحينما كان يقتل بدم بارد على أنغام الأغاني التحريضية التي كان يسمعها، فقد فعلها أقرانه الإرهابيون من عناصر “الشركات الإرهابية” التي نشرها بوش الصغير في العراق، فقد وثق مجرمو “لاك وتر” جرائمهم وهم يقتلون المدنيين العراقيين العزل، على أنغام أغاني تحرضهم على قتل العرب والمسلمين، وحينما كتب تارانت أسماء أجداده من الإرهابيين قبل قرون على سلاحه الذي ارتكب به جريمته النكراء، فعلها الجيش الأمريكي وشركاته الأمنية الإرهابية من قبل في العراق، وحقدهم الصليبي إن لم يكن بشكل علني، كان محفورًا بقلوبهم، ويجري حقدهم في دمائهم، على المسلمين في كل مكان، نتيجة ما تربوا عليه من حقدٍ أسود على العرب والمسلمين.
محاولات دول الغرب في محاربة الشعوب العربية والإسلامية بكل وسيلة ممكنة، تفوق ما قام به الإرهابي تارانت
وإذا كان تارانت قد ذكر تركيا الحاليّة بالسوء، وذكر الدولة العثمانية بشكل صريح، ليلقي عليها حقده الأسود في محاولة منه لتنفيس ما يعريه من حقد في قلبه عليها، باعتبارها آخر دولة إسلامية كانت حامية للمسلمين ومقدساتهم، فالذي تقوم به دول الغرب المسيحي اليوم، ألعن وأمر على تركيا وشعبها المسلم، فمؤامراتهم لا تنتهي وحصارهم الاقتصادي لم ينته، ومحاولتهم لإسقاط الديمقراطية التي يتمتع بها شعبهم لم ينته، وما الانقلاب الفاشل ومحاربة الاقتصاد التركي والليرة التركية، إلا مثال بسيط على ما يفعله قادة الغرب بمحاربتهم لأي تجربة ناجحة تقودها دولة إسلامية.
إن محاولات دول الغرب لمحاربة الشعوب العربية والإسلامية بكل وسيلة ممكنة، تفوق ما قام به الإرهابي تارانت من جرائم بكثير، فهي من تبرر حصار الشعب الفلسطيني في غزة، وتبرر للكيان الصهيوني اغتصاب الأرض العربية وتدنيس المقدسات الإسلامية في فلسطين دون حسيب ولا رقيب، وهي المسؤولة عن دعم الأنظمة العربية القمعية للبقاء على سدة الحكم، وهي من ساعدت على إجهاض ثورات الربيع العربي، حينما خرجت الشعوب العربية لتسترد حريتها المسلوبة، وبررت كل الجرائم التي ارتكبتها تلك الأنظمة العربية القمعية بحق شعوبها، من جريمة “رابعة” في مصر، إلى جرائم حفتر في ليبيا، وجرائم دول الخليج بحق اليمن، وليس انتهاءً بجريمة مقتل خاشقتجي التي تمت بطريقة وحشية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً إلا القليل.
تاريخ الغرب الإرهابي حافل بالجرائم التي هي على أساس عقائدي حاقد، وما فعلته في الأندلس بحق المسلمين ليس خافيًا على أحد، لكنهم مع ذلك لا يخجلون من التباهي والتفاخر بتلك الجرائم، حينما يعقدون الاحتفالات السنوية بذكرى تلك الجرائم، بالضبط كما فعل الإرهابي تارانت، حينما يستذكر قادة تلك الجرائم التاريخية ويوثق أسماءه قادة تلك الجرائم على آلة القتل التي بحوزته ونفذ بها جريمته.
إن ما نشهده من تنامي لموجة عداء المسلمين غربيًا، ما هو إلا انعكاسًا لجهود المتصهينين الغربين منهم والعرب
لم يكن غريبًا أن أصوات قادة الغرب وحكام الأنظمة العربية قد جاءت خجولة في إدانتها لهذا العمل الإرهابي في مساجد نيوزلندا، فهي لم تكن سوى عبارات مقتضبة لرفع العتب عنهم، ذلك لأنهم في حقيقة أمرهم أسعدهم هذا التصرف، ولو كان بإمكانهم دعم مثل هذه العمليات بشكل علني لما تأخروا عن ذلك.
ولم نشهد موقف جديًا في رفض تلك الجريمة سوى من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أدان العملية وأوفد لنيوزلندا نائبه ووزير خارجيته للاطلاع على حيثيات الجريمة، ولدعم ومواساة أهالي الضحايا، لم يفعلها لا قائد عربي ولا قائد إسلامي غيره، وبالتأكيد لن نشهد تجمعًا لقادة العالم كما فعلوا في باريس دعمًا لفرنسا ضد “الإرهاب الإسلامي” كما يسموه.
إن ما نشهده من تنامي موجة عداء المسلمين غربيًا، ما هو إلا انعكاسًا لجهود المتصهينين الغربين منهم والعرب، تمهيدًا للقضاء على الإسلام والمسلمين حسب ما يظنون، وحسب ما تمليه عليهم نبوءاتهم المزعومة، ويساعدهم في ذلك المتصهينون العرب من حكام و”مثقفين” كما يسمون أنفسهم، والواجب على العرب والمسلمين أن يلاقوا هذا الجهد المعادي، بالمزيد من الثبات على القيم والمبادئ لهذا الدين الحنيف، والعمل على إزالة أسباب الضعف التي تجتاح مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ومن أهمها العمل على رفع الطغيان واستعادة الشعوب العربية والإسلامية حريتها من ربقة الأنظمة القمعية، بنفس القوة التي يجب العمل بها من علمائنا ومثقفينا على إعادة مجد هذا الدين في نفوس شبابنا، وإثبات أن هذه القيم السامية مصدر عزتنا وهي من تنادي بالسلام سواء للعرب والمسلمين أو لباقي شعوب العالم.