تشهد مناطق شمال غربي سوريا وضعًا إنسانيًا متأزمًا يتفاقم يومًا بعد يوم، مع ارتفاع عدد السكان بشكل ملحوظ بالتزامن مع انخفاض كبير في تمويل الاستجابة الإنسانية، ما ينعكس على مختلف جوانب الحياة، حيث يواجه السكان تحديات معيشية واقتصادية وخدمية متزايدة، في ظل غياب الخدمات الأساسية وتدهور البنية التحتية.
ورغم الحاجة الملحّة لدعم قطاعات الصحة والتعليم وتوفير مصادر دخل للسكان، فإن التمويل المخصص لهذه القطاعات الحيوية يشهد تراجعًا حادًّا، ما يترك أثرًا كبيرًا على حياة الملايين من النازحين والمقيمين في المنطقة.
وعلى وقع الزيادة السكانية الناتجة عن النزوح الداخلي والعودة من تركيا تحت ما تسمّيه “العودة الطوعية”، يعاني السكان من أوضاع معيشية قاسية تزداد تعقيدًا بفعل ضعف الموارد وانعدام التخطيط الإداري، بسبب عشوائية إدارية تتقاسمها عدة أطراف نتيجة الحالة الفصائلية، الأمر الذي يؤدّي إلى تفاقم الفقر وارتفاع نسب البطالة والعجز عن تلبية الاحتياجات الأساسية، ما يضع المنطقة في مواجهة أزمة مركّبة، تتطلب تدخلًا من المنظمات الإنسانية لتخفيف الأعباء عن السكان ومواجهة التحديات المتزايدة.
زيادة سكانية اعتباطية
تختلف الأرقام والإحصائيات المتعلقة بعدد السكان في مناطق شمال غربي سوريا، ويرجع ذلك إلى غياب جهة موحّدة تقوم بعمليات الإحصاء، في ظل وجود حكومتَين تديران المنطقة بشكل منفصل، وهما الحكومة المؤقتة التي تسيطر على مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي، وحكومة الإنقاذ التي تدير مدينة إدلب وأجزاء من أرياف حلب وحماة.
ورغم تبايُن الإحصائيات المتعلقة بأعداد السكان في شمال غربي سوريا، إلا أنها تتفق جميعها على وجود زيادة سكانية ملحوظة، وحسب المكتب الأممي لتنسيق الشؤون الإنسانية في سوريا (أوتشا)، فإن الزيادة السكانية تصل إلى قرابة مليون نسمة في مناطق شمال غربي سوريا، حيث يبلغ عدد السكان نحو 5 ملايين و100 ألف نسمة في عام 2024، بعدما كانت خلال عام 2023 نحو 4 ملايين و100 ألف نسمة.
أما إحصائية صادرة عن “منسقو استجابة سوريا” بتاريخ 19 نوفمبر/ تشرين الثاني، فإن مناطق شمال غربي سوريا (بما يشمل محافظة إدلب وريفها، وريف حماة، وريف حلب الشمالي والشرقي) شهدت زيادة سكانية تقدَّر بنحو 589 ألفًا و729 نسمة مقارنة بالعام الماضي، رغم انخفاض معدل النمو السكاني الطبيعي وتراجع معدلات الوفيات.
وارتفع إجمالي عدد السكان في المنطقة ليصل إلى 6 ملايين و606 آلاف و781 نسمة، بعدما كان عددهم في يوليو/ تموز 2023 حوالي 6 ملايين و17 ألفًا و52 نسمة، ما يعكس تغيرات ديموغرافية لافتة في ظل الظروف الإنسانية الصعبة التي تعيشها المنطقة.
ويشكّل النازحون والمهجّرون من مختلف المحافظات السورية، الذين يعيشون في المخيمات والقرى والبلدات والمدن، ما نسبته 49.82% من إجمالي عدد السكان في شمال غربي سوريا، وهي نسبة لم تشهد تغييرًا كبيرًا مقارنة بإحصائية عام 2023 التي بلغت 49.32%.
في المقابل، تراجع معدل النمو السكاني إلى 27.92% لكل ألف نسمة، وانخفض معدل الوفيات إلى 6.88% لكل ألف نسمة، ما يمثل انخفاضًا مقارنة بإحصائية عام 2023 التي سجّلت معدل نمو بلغ 30.33% لكل ألف نسمة، ومعدل وفيات وصل إلى 7.45% لكل ألف نسمة.
وبناءً على الأرقام السابقة، يظهر أن نسبة النازحين لم تشهد تغيرات كبيرة، في حين تراجع معدل النمو السكاني وانخفض معدل الوفيات، ومع ذلك إن الزيادة السكانية الواضحة دلالة على وجود مؤشرات تعكس حركة نزوح وهجرة غير مستقرة، ويبدو أن هذه التغيرات ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بعمليات ترحيل اللاجئين السوريين من الأراضي التركية، التي تجري تحت مسمّى “العودة الطوعية”.
وفقًا لتصريحات وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، عاد نحو 114 ألفًا و83 لاجئًا سوريًا من تركيا إلى بلادهم منذ بداية عام 2024، بمعدل شهري يبلغ حوالي 11 ألفًا و408 عائدين، بالمقابل انخفض عدد اللاجئين السوريين المقيمين على الأراضي التركية إلى مليونين و935 ألفًا و742 لاجئًا، مقارنةً بالعام 2023 الذي كان يبلغ حوالي 3 ملايين و214 ألفًا و898 لاجئًا بحسب بيانات إدارة الهجرة التركية.
ويتهم حقوقيون ومنظمات حقوقية السلطات التركية بإجبار اللاجئين السوريين على العودة إلى بلادهم، مشيرين إلى وجود ضغوط تمارس عليهم لتوقيع أوراق تصنف عودتهم كـ”طوعية”، ما يعتبر انتهاكًا لحقوق اللاجئين وتتنافى مع القوانين الدولية التي تكفل حماية الأشخاص الفارّين من النزاعات والصراعات.
إلى جانب عمليات الترحيل من تركيا، ساهمت الحرب الإسرائيلية الأخيرة في لبنان في عودة عدد من النازحين السوريين إلى مناطق شمال غربي سوريا، الذين قصدوا الأراضي اللبنانية قبل اندلاع الثورة السورية بحثًا عن فرص عمل، إضافة إلى الذين نزحوا إلى لبنان هربًا من العمليات العسكرية التي شهدتها مناطقهم واستقروا هناك لفترة طويلة.
ورغم أن أعدادًا كبيرة من هؤلاء النازحين عادوا إلى شمال غربي سوريا عبر معبر عون الدادات، إلا أنه تغيَّب الاحصائيات الرسمية مع استمرار حركة النزوح في المنطقة.
ويُرجع الباحث المتخصص في قضايا السكان والمجتمع في مركز جسور للدراسات، بسام السليمان، أسباب الزيادة السكانية في مناطق شمال غربي سوريا إلى 4 عوامل رئيسية، وهي:
- النمو السكاني الطبيعي: الناتج عن الفارق بين معدلات الولادات والوفيات.
- عمليات الترحيل من تركيا: تتراوح بين العودة الطوعية والإجبارية، حيث يتم ترحيل اللاجئين السوريين بشكل متزايد من الأراضي التركية.
- عودة النازحين من لبنان: نتيجة الحرب الإسرائيلية الأخيرة في لبنان، ما دفع العديد من السوريين إلى العودة لمناطقهم الأصلية شمال غربي سوريا.
- النزوح الداخلي بهدف الهجرة إلى أوروبا: حيث يدخل المئات شهريًا إلى مناطق شمال غربي سوريا في محاولة لعبور الحدود نحو أوروبا، لكن صعوبة العبور تجبر الكثيرين منهم على البقاء في المنطقة.
انخفاض التمويل
فاقم تضاعف الزيادة السكانية الأوضاع الإنسانية والمعيشية في مناطق شمال غربي سوريا، خاصة مع انخفاض تمويل الاستجابة الإنسانية إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من 8 سنوات، ما يشير إلى انحدار مستمر في أحوال السكان الذين يشكّل نصفهم من النازحين والمهجّرين.
وتظهر معالم ضعف تمويل الاستجابة الإنسانية في العديد من القطاعات المهمة للسكان في المنطقة، مثل قطاعات الصحة والتعليم والغذاء، فضلًا عن توقف دعم محطات مياه الشرب، والصرف الصحي والبنية التحتية للطرقات والخدمات العامة.
وخصصت منظمة الأمم المتحدة (أوتشا) في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني، نحو 25 مليون دولار أمريكي في إطار خطة الطوارئ الإنسانية لمساعدة سكان شمال غربي سوريا، عبر صندوق المساعدات الإنسانية عبر الحدود، ومن المفترض أن يتضمّن التمويل الأولي حزمة من المشاريع الإنسانية خلال فصل الشتاء، كالمأوى والغذاء والصحة والمياه، والمواد الأساسية مثل الوقود والألبسة الشتوية، إضافة إلى الرعاية الصحية والتعليم.
إلا أن خطة الاستجابة كانت بنسبة 10% فقط من إجمالي الحاجة المعلنة، بينما حذّرت المنظمة من نقص التمويل الذي سيعرّض الخدمات الأساسية في المنطقة للخطر، لأن العديد من المرافق الصحية والطبية والتعليمية تضررت وتعطّلت بالكامل، مؤكدةً أن 70% من السكان يعيشون في مخيمات تفتقر لخدمات أساسية، مثل المياه والصرف الصحي والمرافق التعليمية والصحية والكهرباء.
في المقابل، تشير بيانات فريق “منسقو استجابة سوريا”، أن نسبة تمويل الاستجابة الإنسانية في مناطق شمال غربي سوريا وصلت إلى 28.1%، حيث تعتبر في أدنى مستوياتها منذ 8 أعوام، ما سينعكس سلبًا على مختلف القطاعات الممولة بهدف تقديم الخدمات الصحية والتعليمية والبنية التحتية.
ورغم تخصيص جزء من تمويل الاستجابة لمناطق شمال غربي سوريا عبر الحدود، إلا أنه انتهى تفويض معبرَي باب السلامة والراعي الحدوديَّين مع تركيا لإدخال المساعدات، بعدما مدّد نظام الأسد استخدامهما في أغسطس/ آب الماضي حتى 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بينما يتبقى باب الهوى مستخدمًا في إدخال المساعدات بعدما مُنح تفويضًا في يوليو/ تموز الماضي حتى 13 يناير/ كانون الثاني 2025.
ويلاحظ أن عدد الشاحنات المحملة بالمساعدات الأممية التي دخلت من معبر باب السلامة، ومعبر الراعي، ومعبر باب الهوى، بلغ نحو 499 شاحنة منذ مطلع عام 2024، حسب الفريق، بينما تشير بيانات مكتب الأمم المتحدة إلى أن عدد الشاحنات التي عبرت خلال عام 2023 إلى مناطق شمال غربي سوريا باستخدام 3 معابر حدودية بلغ نحو 2000 شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية.
آثار وضغوط
تسبّبت زيادة عدد السكان وتراجُع تمويل الاستجابة الإنسانية في تفاقم الأوضاع الاجتماعية في مناطق شمال غربي سوريا، حيث انعكس ذلك بشكل كبير على مختلف الفئات السكانية، بسبب انخفاض في مستوى الدخل، وارتفاع في معدلات البطالة، وزيادة ملحوظة في أعداد العائلات التي تعيش تحت خط الفقر والجوع.
ويرى الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر، أن الزيادة السكانية تترك آثارًا عميقة تؤدي إلى زيادة الضغط على الموارد الاقتصادية المتاحة، وهي بحدودها الدنيا في مناطق شمال غربي سوريا التي تعتمد على الزراعة بالدرجة الأساسية.
وقال عمر خلال حديثه لـ”نون بوست” إن “الزيادة السكانية تعني تدنّي حصة الفرد من الدخل، وتدفع نحو قلة فرص العمل النادرة أساسًا، وتساهم في انتشار البطالة وازدياد نسبة الفقر في منطقة جغرافية ضيقة لا تشكل مساحتها نحو 10% من مساحة سوريا”.
وأضاف أن “ذلك لا يقتصر على الواقع الاقتصادي، إنما يزيد الحاجة إلى الخدمات في مختلف القطاعات المستنزفة أساسًا، فضلًا عن المواد الغذائية وعلى المحروقات، ما يعني زيادة الأسعار وبالتالي تعمّق الضغوط الاقتصادية التي يواجهها السكان، والتي تتمثل بارتفاع الأسعار”.
وأكد عمر أن ضعف الاستجابة الأممية للأوضاع الإنسانية يعزز من تفاقم الأزمة، حيث كان من المفترض في ظل الزيادة السكانية زيادة حجم المساعدات، لكن على العكس تراجعت بشكل كبير، ما أدّى إلى زيادة حدّة الأزمة، وظهرت زيادة مؤشرات الفقر وتراجع الدخل وتهديدات المجاعة، ما ينعكس بشكل مباشر على المؤشرات الاجتماعية.
ويواجه نحو مليوني و33 ألفًا و791 نازحًا واقعًا مأساويًا في مخيمات رسمية وعشوائية تفتقر لأدنى الخدمات ومقومات الحياة، بينما يحتاج نحو 4 ملايين و200 ألف شخص للمساعدات الإنسانية، ما يعني أن أكثر من 68% يعيشون في ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة، حسب “منسقو استجابة سوريا”.
ولا يغطي متوسط دخل الأسرة نحو 24% من النفقات والاحتياجات المعيشية الضرورية، بينما توجد فجوة تصل إلى 76%، ما يضع العائلات في حيرة من أمرهم لتغطية احتياجات المعيشية، وهو ما يدفع البعض إلى الانخراط في أعمال متعددة في حال توفرها بهدف الحصول على دخل إضافي.
ويرى بسام السليمان، باحث في قضايا المجتمع والسكان في مركز جسور للدراسات، أن مناطق شمال غربي سوريا تفتقر للموارد إذ غالبيتها تعتمد على الموارد الزراعية، وهي لا تكفي للعدد السكاني الموجود، ما يؤدي إلى استنزاف التربة الزراعية والمياه الجوفية والأراضي من خلال التوسع السكاني والبناء.
وقال السليمان خلال حديثه لـ”نون بوست” إن “الزيادة السكانية وفقًا لواقع البنية التحتية كالمياه والصرف الصحي والبناء والطرقات، تشكّل تهديدًا للمنطقة التي تعاني من ترهُّل خدماتي أساسًا نتيجة القصف والتدمير والإهمال المتواصل بسبب شحّ التمويل”.
وأضاف أن “ارتفاع أعداد السكان يزيد من استنزاف الخدمات الاجتماعية وفي مقدمتها التعليم، حيث تشهد المدارس والمراكز التعليمية اكتظاظًا بأعداد الطلبة، دون بناء مدارس جديدة لاستقبال الزيادة السكانية، ما يساهم في التسرُّب المدرسي، ويمنع الأطفال من الحصول على حق التعلم”.
وأشار إلى أن قطاع الصحة مستنزف أيضًا، فالنقاط الطبية والمستشفيات العاملة في المنطقة رغم قلتها مهددة بالإغلاق نتيجة انخفاض التمويل، وتساهم الزيادة السكانية في حرمان الآلاف من الحصول على الطبابة، بينما تكون الكلف مرتفعة في القطاعات الخاصة.
وحول الزيادة السكانية نتيجة الترحيل والنزوح، أوضح أن مسألة التكيُّف مع واقع المنطقة صعب للغاية، لا سيما العائدين من تركيا ولبنان الذين يضطرون إلى التكيُّف السلبي من حيث انخفاض الدخل إلى أقل من 100 دولار أمريكي شهريًا، وهو ما يعني بالضرورة التخلي عن الكثير من الاحتياجات، وينعكس سلبًا على المستويات الصحية والبدنية والعقلية.
ختامًا، يعيش السوريون في مناطق شمال غربي البلاد أزمة مركبة تعجز عن حلّها المنظمات الإنسانية والفرق التطوعية، والإدارات المحلية، نتيجة انخفاض تمويل الاستجابة الإنسانية وارتفاع أعداد السكان بشكل اعتباطي، ما يزيد من فرص انتشار الفقر والجوع، وسط غياب للمبادرات الدولية لإيجاد حل سياسي يصل بالسوريين إلى برّ الأمان.