ترجمة وتحرير: نون بوست
في الأيام والساعات التي سبقت حدوث مجزرة في مسجد بنيوزيلندا يوم الجمعة، ترك مطلق النار خلفه مجموعة من الأدلة الرقمية التي كشفت النقاب عن هدفه الأوحد؛ الذي تمثّل في ارتكاب هجوم إرهابي مٌصمّم ليتماشى مع عصر الإنترنت. كان منفّذ الهجوم يصوّر فيلم جريمة مواكبا لعصر وسائل التواصل الاجتماعي، سينتشر بشكل فوري في جميع أنحاء العالم من خلال بثه المباشر على صفحته على موقع فيسبوك.
عموما، يبدو أن اختيار مكان الحادثة التي وقعت في نيوزيلندا، يحمل في طياته رسالة ذات مغزى عميق سيتردد صداها بشكل فوري في العالم الرقمي القاتم؛ مفادها أنه لا يوجد مكان في هذا العالم في مأمن عن أصحاب الفكر الذي يروّج لتفوّق البيض وعقائدهم، والذين وجدوا في الإنترنت ملاذا للتعبير عن أفكارهم المتطرفة.
طرحت هذه القضية تساؤلات دقيقة حول كيفية استجابة وسائل الإعلام لمذبحة تبث بشكل مباشر على صفحات الإنترنت
الجدير بالذكر أن الأدوات التي استخدمها القاتل، وهي عبارة عن مجموعة من الأدوات الصحفية الإعلامية في هجومه الإرهابي الذي أسفر عن مقتل 49 شخصًا، قد غذّت نهم وسائل الإعلام العالمية التي بثت أفكار القاتل، مما أدّى إلى نشرها على نطاق واسع لتصبح جزءا من الاتجاه السائد. ومن الواضح أن هذا الأمر كان ضمن مخطط القاتل، الذي يبدو أنه جزء من بعض الثقافات الفرعية السامة المنتشرة عبر الإنترنت. (حددت الشرطة هوية المشتبه به، وتبيّن أنه أسترالي يبلغ من العمر 28 عامًا يدعى برينتون تارانت).
في الأثناء، طرحت هذه القضية تساؤلات دقيقة حول كيفية استجابة وسائل الإعلام لمذبحة تبث بشكل مباشر على صفحات الإنترنت. في هذا الإطار، قال روبرت إيفانز، وهو صحفي وباحث كتب بشكل مكثف عن الجماعات المتطرفة التي تنشط على صفحات الإنترنت: “تتعامل وسائل الإعلام بشكل جيد مع المجموعات المتطرّفة، على غرار تنظيم القاعدة”، التي تملك بنية تنظيمية وقيادية واضحة. في المقابل، تشكل المجموعات النشطة على الإنترنت التي لا تخضع إلى قيادة واضحة، مثل تلك التي شارك فيها منفّذ العملية الإرهابية، تحديًا أكثر صعوبة.
عموما، وفي إطار استخدامه لإستراتيجية تعتمد على وسائل الإعلام، بثّ منفّذ الهجوم مقطع فيديو مريع مدته 17 دقيقة على الهواء مباشرة من كاميرا مثبتة على خوذة عسكرية. وظهر المشتبه به وهو يقود سيّارة من طراز سوبارو إلى هدفه المنشود، وسار متّجها نحو المسجد، وبدأ في عملية إطلاق النار.
كان متابعو برينتون تارانت على علم بهذه العملية، إذ أنه أعلن عن الهجوم وعن بثه على الهواء مباشرة على موقع 8شان، وهو موقع لتبادل الصور يفخر بنشره لمحتوى الفيديو الذي اعتبرته مواقع الإنترنت الأخرى مسيئًا للغاية. فضلا عن ذلك، وضع الإرهابي رابط صفحته على موقع فيسبوك، ونشر مطلق النار الروابط التي تحيل إلى بيانه المكوّن من 74 صفحة، والتي ظهرت على مواقع عديدة أخرى، بحيث يمكن لمستخدمي موقع 8شان الآخرين الحصول على نسخة منه قبل حذفه. والجدير بالذكر أن موقع 8شان أُنشأ بعد أن اعتقد بعض مستخدمي موقع 4شان أنه أصبح عدائيا جدًا للمحتوى المسيء والذي يبث الكراهية.
في وقت سابق استخدم أحد مقاتلي تنظيم الدولة التكنولوجيا للاعتراف المباشر بقتله قائد شرطة فرنسي وشريكه في سنة 2016.
في الساعات التي أعقبت الهجوم، بثت وسائل الإعلام العالمية مقطع الفيديو بشكل واسع، حيث نشرت صحيفة “التابلويد”، “ذا صن” البريطانية، مقتطفات من الفيديو على صفحتها الرئيسية، وزوّدت صحيفة الديلي ميل قراءها برابط تمكّنهم من تنزيل البيان. من جهتها، عرضت المحطة التلفزيونية الإخبارية الأمريكية، إم إس إن بي سي، البيان على الهواء واقتبست منه. ولساعات عديدة بعد الهجوم، كان الفيديو متاحًا على موقع يوتيوب قبل أن تحذفه المنصة. كما كان أيضًا متاحًا على موقع فيسبوك، حيث بثّ منذ البداية لفترة قبل أن تحذفه المنصة. وعلى الرغم من أن الفيديو غير متاح حاليًا على المواقع الرئيسية، إلا أنه لا يزال بإمكان أي مستخدم إنترنت جريء العثور عليه.
لم يكن إطلاق النار الذي حدث يوم الجمعة الأول من نوعه، حيث بثت عملية القتل الوحشية مباشرة على موقع فيسبوك. ففي وقت سابق استخدم أحد مقاتلي تنظيم الدولة التكنولوجيا للاعتراف المباشر بقتله قائد شرطة فرنسي وشريكه في سنة 2016. لكن البيان الذي قدّمه مطلق النار ومقاطع الفيديو، فضلا عن وسائل التواصل التي اختارها؛ كانت جديرة بالملاحظة لمدى تؤثُرها وتشبُعها بالمصطلحات والعرف الخاصة بثقافة الإنترنت.
في هذا السياق، تنوّه هذه المعطيات بأن مطلق النار، الذي يُعتقد أنه معجب بالقاتل الجماعي النرويجي أندرس بهرنغ بريفيك الذي قتل 77 شخصًا في سنة 2011؛ أراد بشكل أساسي تخليد اسمه تحت عنوان العنصرية. وفي بداية الفيديو، يشجع مطلق النار المشاهدين على الاشتراك في قناة اليوتيوب الخاصة باليوتيوبر بيو دي باي، الذي مجّد معاداة السامية وأدلى بتصريحات مهينة عن النساء. وتمتلك قناته ما يقارب 90 مليون مشترك، مما يجعله شخصية اليوتيوب الأكثر شعبية في العالم.
يستفز مطلق النار عن عمد القراء غير المعتادين على ثقافة الإنترنت من خلال إصدار بيانات غريبة قد يأخذها هؤلاء القراء على محمل الجد
من ناحية أخرى، عقب الإشارة إلى اليوتيوبر فيليكس أرفيد المعروف ببيو دي باي، أصدر هذا اليوتيوبر بيانا يدين من خلاله الهجوم، ويؤكد أن متابعيه كانوا في عرضة لما حدث في نيوزيلندا. وإلى جانب ذكر بعض القتلة الجماعيين البيض القدامى، أشار البيان بكثرة إلى الميمات والصور والنصوص التي تشكّل اللغة المشتركة لمستخدمي الإنترنت. وفي جوهره، يمثّل البيان خطابا يدعو إلى قتل الأوروبيين غير العرقيين.
في بعض الأحيان، يستفز مطلق النار عن عمد القراء غير المعتادين على ثقافة الإنترنت من خلال إصدار بيانات غريبة قد يأخذها هؤلاء القراء على محمل الجد. وفي أحد المقاطع التي ناقش فيها مطلق النار ما إذا كانت ألعاب الفيديو قد علمته العنف، أوضح أنه تعلّم “القومية الإثنية” من لعبة الفيديو “سبايرو عام التنين” وأن لعبة الفيديو “فورتنايت” دربته “ليكون قاتلًا ويقوم بحركات مهينة على جثث أعدائه”، في إشارة إلى الرقصات الاحتفالية التي تحتويها هذه اللعبة.
علاوة على ذلك، يعجّ البيان برسائل تنطوي على النكات وتوضّح أن كاتبها عضو متمرس في هذه المجتمعات الإجرامية. ووفقا لموقع “نوو يور ميم.كوم”، اختار مطلق النار الميم (المخيال) المعروفة “أوستراليين شيتبوسترز” كشخصيته الرئيسية، التي تشير إلى “الصورة النمطية الشائعة التي يعتمدها مستخدمون منتدى الصور “فورتشان” الأستراليون”. وتشير كلمة “شيتبوستز” إلى الرسائل ذات الجودة المنخفضة التي تنشر في إحدى منتديات المراسلة عبر الإنترنت.
تواجه المنظمات الإعلامية التقليدية تحديا كبيرا من أجل تغطية الأحداث الإلكترونية الشبيهة بهذه الحادثة
خلال الإعلان عن الهجوم على موقع 8شان، أفاد مطلق النار بأنه “قد حان الوقت للتوقف عن تنزيل “شيتبوستز” وتنزيل منشورات تُصوّر الحياة الواقعية”. ومثلما كشف الحادث المميت الذي تعرض له التجمع السلمي للقوميين الأميركيين البيض في شارلوتسفيل، عن العناصر المتطرفة من الأمريكيين المختبئين وراء الإنترنت، فإن إطلاق النار، الذي وقع يوم الجمعة داخل حرمة مسجد كرايستشرش، يصوّر أبغض أشكال العنصرية التي يولّدها موقع 8شان.
من جهة أخرى، تواجه المنظمات الإعلامية التقليدية تحديا كبيرا من أجل تغطية الأحداث الإلكترونية الشبيهة بهذه الحادثة. وفي تقرير صدر سنة 2018، درس الباحثون من منظمة الأبحاث غير الربحية، “دايتا سوسايتي”، كيفية تسبّب التغطية الإعلامية للمجتمعات الإلكترونية وأيديولوجيتها العنصرية في إدماجها ضمن التيار السائد للمجتمع.
في هذا الصدد، استنتج الباحثون أن “إنجاز الصحفيين لعملهم على النحو المطلوب خلال تغطيتهم لأعمال اليمين المتطرف- بما في ذلك تغطية نظريات المؤامرة، وأصحاب مواقع التواصل الاجتماعي المؤيدة لترامب، والنازيين الفعليين- يلعب دورا مباشرًا في خدمة مصالح العلاقات العامة لهذه المجموعات. نتيجة لذلك، أجّجت هذه التغطية نيران قضية مشتعلة بالفعل”.
من جانب آخر، يستحيل على وسائل الإعلام ألا تغطي قضية تكشف عن مغادرة اليمينيين المتطرفين مخابئهم على الإنترنت ومشاركتهم في أعمال عنف جماعية؛ خاصة وأن مقتل 49 شخصًا، في لغة الإعلام، يمثّل خبرا هاما. وفي المقابل، يكمن التحدي في سرد هذه الواقعة دون التأثير على عدد كبير من العناصر المبتدئة التابعة لمجتمعات الإنترنت العنصرية التي شنّت الهجوم.
المصدر: فورين بوليس