ترجمة وتحرير نون بوست
مثَل برينتون هاريسون تارانت، الإرهابي البالغ من العمر 28 سنة والذي ارتكب مجزرة جماعية بناء على دوافع عنصرية في مدينة كرايستشيرش النيوزيلندية يوم الجمعة، أمام المحكمة يوم السبت بتهمة ارتكابه جرائم قتل. ووفقا للتقرير الصادر عن صحيفة نيوزيلاند هيرالد، ظهر المتهم في المحكمة مرتديا ملابس السجن البيضاء وبأقدام حافية وأيدي متشابكة ومقيدة. وعندما صورته وسائل الإعلام خلال تواجده في قفص الاتهام ومحاطا برجلين من الشرطة، قابل اهتمامهم بابتسامة. والجدير بالذكر أن المتهم لم يرد على الاتهامات ولا يزال محتجزا على ذمة التحقيق في الوقت الحالي، كما أن القاضي سمح لبعض الوسائل الإعلامية بنقل مجريات الجلسة على الرغم من منع العامة من حضورها.
بالتزامن مع مجريات جلسة المحكمة، كان الجراحون يعملون على قدم وساق على إجراء عمليات جراحية لبعض ضحايا عمليات إطلاق النار التي وقعت في مسجدين، كما أن حصيلة القتلى بلغت 49 شخص. وقادت هذه الجريمة إلى دفع البلاد نحو معترك صدمة عميقة على خلفية بعض التصريحات المروعة لشهود عيان، خاصة وأن البلد الذي يتكون من الجزر ولا يتجاوز تعداد سكانه 4.9 مليون شخص شهد 35 جريمة قتل فقط منذ سنة 2017.
حيال هذا الشأن، تحدث عمر نابي، وهو أحد مرتادي المسجد والذي قُتل والده في هذه المجزرة، إلى المراسلين وقال: “اعتقدت بصدق أنه كان يحمل مسدسا مائيا أو مسدس ضغط هواء أو شيء من هذا القبيل، فهذه نيوزيلندا الهادئة كما تعلم. نحن نشعر بالأمان لأن هذا البلد متعدد الثقافات، فلقد حظينا بالقبول بغض النظر عن خلفيتنا، ولقد تطلب الأمر مجرد متعصب مدجج بالسلاح لزعزعة هذا التوازن”.
نشأ تارانت على بعد حوالي 1400 ميل عن مدينة كرايستشيرش، حيث وُلد في جرافتون بنيو ساوث ويلز، وهي مدينة صغيرة تقع على بعد حوالي ثلاثمائة وثمانين ميلاً شمال مدينة سيدني الأسترالية. وذكرت مقالة في صحيفة سيدني مورنينج هيرالد أن تارانت نشأ في جرافتون وكان يُعرف بأنه شخص يكرس حياته للاعتناء بلياقته البدنية ويدير برامج رياضية مجانية للأطفال.
عاش الارهابي في منزل متواضع، كما تحصل على وظيفة في صالة الألعاب الرياضية المحلية بعد مغادرته للمدرسة الثانوية سنة 2009. وخلال حديثها إلى الصحيفة الأسترالية، أفادت صاحبة الصالة الرياضية تريسي غراي، أن تارانت “لم يظهر أبدًا أي نزعات متطرفة في المحادثات التي أجريتها معه”. وبناء على منشوراته في مواقع التواصل الاجتماعي، قال تارانت إنه ترك وظيفته في سنة 2011 وانطلق في رحلة حول العالم.
أظهر البيان الذي نشره الشاب النيوزيلندي إلى أنه متأثر بالتراث الأسترالي الأوروبي، حيث أشار إلى الحوادث التي يستشهد بها القوميون البيض الأوروبيون لتشويه صورة الإسلام والمسلمين
لم يُعرف حتى الآن متى استقر هذا الإرهابي في نيوزيلندا، ولكنه كان يعيش مؤخرًا في ديوندين، المدينة الساحلية التي تبعد حوالي مائتين وعشرين ميلًا جنوب كرايستشيرش. وصرحت رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أرديرن، يوم السبت أن: “هذا الفرد سافر إلى جميع أنحاء العالم وقضى وقتا معينا في نيوزيلندا على فترات متقطعة، كما أنه لم يكن على رادار وكالات الاستخبارات النيوزيلندية أو الوكالات الأسترالية”.
وفي مكان ما خلال تجواله، أصبح تارانت متطرفًا وعنصريا كارها للاختلاف ومتشبعا بنظريات المؤامرة اليمينية المتطرفة والكثير من الترهات التاريخية. وأظهر البيان الذي نشره الشاب النيوزيلندي إلى أنه متأثر بالتراث الأسترالي الأوروبي، حيث أشار إلى الحوادث التي يستشهد بها القوميون البيض الأوروبيون لتشويه صورة الإسلام والمسلمين، بما في ذلك فضيحة الاعتداء الجنسي على الأطفال التي طال أمدها في مدينة روثردام الإنجليزية والاعتداءات الجنسية في ألمانيا سنتي 2015 و2016.
في مقاله الذي نشرته صحيفة نيوزيلاند هيرالد، كتب الصحفي مايكل كوزيول: “لم يتضح على الفور ما إذا كان تارانت متورطًا في جماعات النازيين الجدد اليمنيين المتطرفين في أستراليا. ومع ذلك، فإن الصور المأخوذة من حساب تويتر الخاص به، والتي أُزيلت في الوقت الحالي، تحمل تشابهًا لافتًا لتلك التي تستخدمها مجموعة متطرفة من اليمين المتطرف والمناهضة للهجرة تسمى “كلاب الدينغو”. ولم يكتف تارانت بهذا القدر، بل كان دءوبا على التعبير عن آراؤه المتطرفة بواسطة نشر اقتباسات أندرس بريفيك، الإرهابي النرويجي اليميني الذي قتل 77 شخصًا في عملية دهس وإطلاق نار في النرويج سنة 2011، كما ذكر أنه تمكن من إجراء اتصال قصير ببريفيك وتلقى المباركة لمخططاته وأفعاله من طرف شركاء القاتل الجماعي النرويجي.
في شأن ذي صلة، كانت استجابة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لهذه المجزرة سخيفة للغاية، حيث سُئل عما إذا كان يعتقد أن القومية البيضاء تشكل تهديدًا متزايدًا في جميع أنحاء العالم، ليجيب بأنه لا يرى ذلك حقا. وأضاف الرئيس الجمهوري قائلا: “أعتقد أنها مجموعة صغيرة من الناس يعانون من مشاكل خطيرة للغاية، إنه بالتأكيد شيء فظيع”. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن ترامب كان لديه سبب وجيه لمحاولة تقليل التهديد الصادر عن اليمين المتطرف، حيث أثنى تارانت على ترامب باعتباره “رمزًا للهوية البيضاء المتجددة والهدف المشترك”. وفي المقابل، ينتقد الشاب الإرهابي الخصال القيادية للرئيس الأمريكي من خلال نشر تغريدة مفادها “كصانع سياسة وقائد؟، بالتأكيد دونالد ترامب ليس جيدا”.
أصبح الإرهاب اليميني الآن تهديدًا حقيقيًا ومميتًا في العديد من الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة. وفي تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ذكرت وسائل الإعلام أن روبرت باورز، وهو رجل في بيتسبيرج يبلغ من العمر 46 عامًا سبق له إثارة قلق كبير على الانترنت بسبب “المهاجرين غير الشرعيين” و”المعضلات اليهودية”، أطلق النار على 11 مصلي في كنيس تري أوف لايف.
خلال الشهر الماضي، ألقى العملاء الفدراليون القبض على كريستوفر بول حسون، الملازم في خفر السواحل الأمريكي الذي دعا إلى “عنف مركَّز” من أجل “إقامة وطن أبيض”. وكما هو الحال مع تارانت، استمد حسون إلهامه من السفاح النرويجي بريفيك. ووفقا للمدعين العامين، كان حسون عاقدا العزم على قتل المدنيين العزل والأبرياء وفق معدل لم تكن البلاد قد شهدته من قبل.
من السهل الشعور بالعجز في مواجهة كل الكراهية والعنف والتكنولوجيا الرقمية
لا تعتبر الجرائم المذكورة سوى أمثلة حديثة وأكثر وضوحا حول العنف المستمر الذي يقترفه المتشددون البيض والمتطرفون اليمنيون المختلون عقليا. وفي شهر كانون الثاني/ يناير المنصرم، صرحت رابطة مكافحة التشهير اليهودية أن: “المتطرفين اليمينيين ارتبطوا بما لا يقل عن 50 جريمة قتل في الولايات المتحدة سنة 2018، مما جعلهم مسؤولين عن الوفيات بشكل لم يسبق له مثيل منذ سنة 1995”. ولم يحد تقرير إدارة ترامب الخاص الذي نشر خلال السنة الماضية بعنوان “الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب” عن هذا المسار، ليرد فيه النص التالي: “إن الإرهاب المحلي في الولايات المتحدة آخذ في الازدياد، والتطرف بدوافع عنصرية هو أحد هذه الأسباب”.
علاوة على ذلك، تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في دعم نمو الجماعات المتطرفة وتضخيم تأثيرها. وفي حالة تارانت، لا يمكن القول إنه قد تأثر بالكراهية والتعصب من عالم الإنترنت فحسب، بل إنه تمادى ليصل به الحال إلى بث جريمته الدموية على موقع فيسبوك. والجدير بالذكر أن عملاق مواقع التواصل الاجتماعي لم يعلم بشأن البث المباشر حتى تلقى بلاغا من قبل الشرطة في نيوزيلندا، ليقود ذلك إلى حذف مقطع الفيديو.
في شأن ذي صلة، صرح كاتب عمود في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية يدعى كيفن روز بأن: ” مشاركة مقطع الفيديو الذي يصور المجزرة تكررت بشكل لا نهائي على موقع تويتر وأُعلن عنه في لوحة الرسائل على موقع 8شان، كما بُث بشكل مباشر في فيسبوك. وبعد ذلك، شاهد الجميع اللقطات بشكل لا نهائي في مواقع مثل ريديت وتويتر ويوتيوب، حيث تدافعت المنصات لإنزال المقاطع بسرعة تتجاوز مجهودات حذفها”.
يبرز التساؤل جليا حول ما يمكننا فعله إزاء انتشار هذا المحتوى على هذا النحو، فمن السهل الشعور بالعجز في مواجهة كل الكراهية والعنف والتكنولوجيا الرقمية. ولا تنفي صعوبة هذه المهمة إمكانية إنجازها، وهو ما يدعمه الزميل البارز في مركز التقدم الأمريكي للأبحاث، سايمون كلارك، الذي دعا في تحليل حديث القادة السياسيين، بما فيهم الرئيس دونالد ترامب، إلى الاعتراف بحجم التهديد الذي يشكله التطرف اليميني، والالتزام بمعالجته بشتى الطرق الممكنة.
تتمثل استراتيجية الباحث الأمريكي المخضرم في تعزيز موارد إنفاذ القانون المكرسة لتتبع التطرف اليميني والتحقيق في المؤامرات المحتملة لتنفيذ التهديدات، كما سبق له القول إن :”إدارة ترامب تحتاج إلى فهم كيفية مساهمة الخطابات المحمومة إلى العنف، بما في ذلك كلمات الرئيس نفسه”.
علاوة على ذلك، يجب على الحزب الجمهوري أن يتحمل المسؤولية الناجمة عن رفضه حقيقة كون قوانين حمل السلاح المتساهلة تعتبر عاملا يمكن الإرهابيين المحليين من اقتراف جرائمهم بعض النظر عن أيديولوجياتهم. فعندما شددت أستراليا قوانين حمل السلاح الخاصة بها منذ سنوات في أعقاب مجزرة دموية بواسطة أسلحة نارية، اختارت نيوزيلندا أن لا تحذو حذوها، وهو ما مثل خطأ فظيعا. وشهد يوم السبت تصريح المدعي العام النيوزيلندي، ديفيد باركر، بأن بلاده ستحظر الآن الأسلحة شبه الأوتوماتيكية على شاكلة الأسلحة المستخدمة في هجوم يوم الجمعة.
وجه باركر أصابع الاتهام نحو عمالقة التكنولوجيا الأمريكيين قائلا: “كيف يمكن لتصوير القاتل لهذه الفظاعة الوحشية بواسطة كاميرا غو برو وبث جريمته بمساعدة مواقع التواصل الاجتماعي أن يكون أمرا صائبا؟ كيف يمكن لهذا الأمر أن يكون جيدا؟ من الذي يجب أن يتحمل المسؤولية عن ذلك؟”. وعلى الأقل، يجدر بالشركات التكنولوجية الكبرى مثل فيسبوك وتويتر وغوغل مضاعفة جهودها لمراقبة خطابات الكراهية المتفشية على منصاتهم وإزالتها بسرعة، فضلا عن حظر الأشخاص والمجموعات التي تنشرها. وفي هذه المرحلة، من الخطير بما كان ترك هذه المهمة لهذه الشركات التي تحركها رغبتها في زيادة نسب التفاعل على منصاتها، فلقد حان وقت تكاثف الجهود الجماعية أيضا.
بشكل مماثل لمقترح الزميل إيفان أوسنوس، قد يكون جزء من هذا قرارًا جماعيًا من جانبنا جميعًا لحرمان الإرهابيين من الدعاية والاهتمام اللذين يتوقون إليه. ويطرح هذا التمشي تساؤلا حول الطرق العملية لتحقيق هذا الحرمان، فإن الأخبار التي تتحدث عن مقتل حوالي خمسين مواطن بريء تحظى باهتمام إعلامي كبير شئنا أم أبينا، فالناس يطلبون حق الوصول إلى مثل هذه المعلومات والإطلاع عليها.
بناء على ذلك، من المرجح أن عدم ذكر اسم مقترف الجريمة والامتناع عن إظهار صورته في المنشورات الإخبارية سيقود إلى تثبيط المهاجمين المستقبليين، لكن تحقيق مثل هذا الأمر وجعله واقعا يبدو بعيد المنال. وحتى في حال كان لهذا التوجه بعض التأثير، ستظل هناك حاجة ماسة للقضاء على التحريض العنصري والتطرف اليميني عمومًا، وهو ما يمكن القول إن الحكومات وحدها تمتلك القدرة على القيام به بشكل فعال.
في جميع أنحاء العالم، نحن نواجه خطر صعود أيديولوجية قاتلة وبغيضة تستهدف الأقليات وتمجد العنف وتزدهر في تكنولوجيا الاتصالات الحديثة. ومن هذا المنطلق، يجب أن يكون الرد متناسبا مع التهديد الذي ينتشر بشكل لا يبشر بخير حتى في الأماكن غير المتوقعة، فحتى نيوزيلندا، التي يقصدها أثرياء شركات السيليكون فالي لشراء عقارات شخصية على أراضيها نظرا لجوها الملائم، لم تكن بمنأى عن طاعون التطرف اليميني.
المصدر: ذي نيويوركر