“سيرا جيجيسي”.. أبرز التقاليد الثقافية في أورفا التركية

إلى جانب الأماكن التاريخية التي يحرص زائرو ولاية شانلي أورفة، الواقعة في جنوب تركيا، على زيارتها، كموقع “جوبيكلي تبة” الأثري وضريح النبي أيوب وقلعة شانلي أورفا وبحيرة الأسماك ومتحف الآثار والفسيفساء وغيرها من الآثار التاريخية، تشتهر الولاية أيضًا بـ”الأمسيات الثقافية” التي تحمل طابعًا خاصًا، وتعرف بـ”سيرا جيجيسي”.
موروث ثقافي قديم
هذه الأمسيات في الأساس هي تقليد ثقافي قديم، حافظ عليه أهل شانلي أورفا جيلاً بعد جيل، ويعد تقليد “سيرا جيجيسي” من أبرز التقاليد التي تميز أهل ولاية أورفة عن بقية أهالي الأناضول، وقد أدرجت منظمة اليونسكو هذا التقليد إلى قائمة التراث الثقافي غير المادي عام 2010.
يعرف هذا التقليد بـ”سيرا جيجيسي” لأنه يقوم على فكرة الترتيب، وكلمة “Sıra” التركية من بين معانيها ترتيب و”جيجي” تعني ليلة، ونظرًا لطبيعة هذا التقليد القديم الذي يتم بالترتيب بشكل أسبوعي بين شباب الولاية، حمل هذا الاسم، ولا يُعرف متى بدأ هذا التقليد على وجه التحديد، وإلى أي عصر يعود.
يبدأ الأمر باختيار كل شاب لمجموعة من أقرانه، ليمارسوا معًا هذا الطقس، حيث يجتمعون بشكل دوري في يوم محدد من كل أسبوع، ويعقدون مجلسًا خاصًا في بيت أحدهم، ولهذا المجلس قواعده المعروفة فيما بينهم، ويتغير مكان الاجتماع كل أسبوع، ولكن يجب أن تُعقد هذه الجلسات في البيت، كنوع من الحميمية من ناحية، ولمساعدة أهل ذلك البيت إذا كانوا بحاجة إلى مساعدة، من ناحية أخرى.
طقوس “سيرا جيجيسي” وآدابها
تتضمن “سيرا جيجيسي”، أربعة أقسام: الحوار والموسيقى والرقص والطعام، وفي أول اجتماع يحددون بعض الأشياء التي ستستمر معهم خلال اجتماعاتهم الأسبوعية، كاختيار رئيس للمجموعة عن طريق التصويت، وهو الذي يدير كل شيء في الجلسة، وفي آخر كل اجتماع، يحدد مكان وموعد الجلسة القادمة، كما يتم اختيار شخص آخر يكون بمثابة الخزينة للمجموعة، وهو مسؤول عن كل ما يتعلق بالأمور المادية للمجموعة في أثناء اجتماعها.
تبدأ الجلسة عادة بتقديم “القهوة المُرّة” مرتين، ومن آداب شرب هذه القهوة في المجلس، أنه لا ينبغي لشاربها أن يضع الفنجان على الأرض في أثناء تناولها، بعد ذلك يبدأ الحوار في أحد الموضوعات غير المحددة سلفًا، ومن الممكن أن يكون موضوعًا سياسيًا أو تاريخيًا أو أدبيًا أو غير ذلك، أو يقومون باختيار كتاب ما، ويقرأ أحدهم جزءًا منه ثم يتناقشون بشأن بعض الأمور في الكتاب، ومن ضمن الكتب المتداولة بينهم: المثنوي لجلال الدين الرومي، وبعض الكتب الفقهية.
إذا لم ينته الحوار في هذه الجلسة، يتم تأجيله إلى الجلسة القادمة، ومن الممكن أن يدعوا أحد المختصين في هذا الأمر للحديث عن ذلك الموضوع ومناقشته معهم، وكل جلسة لها آداب معينة يحددها رئيس المجموعة، وتسمح له صلاحياته بفرض جزاء على بعض المخالفين الذين يحتدّون في أثناء مناقشة بعض المسائل.
تتضمن كل جلسة من هذه الجلسات جزءًا خاصًا بالموسيقى، حيث يعزف أحدهم على آلة “الساز” ويغني أشعار الغزل والعشق الإلهي وبعض الأغاني الشعبية والملحمية الخاصة بمدينة أورفة التي يحرصون على الحفاظ عليها مع الأجيال الجديدة كجزء من ثقافتهم.
جدير بالذكر أن فن الغزل في الغناء، يحظى باهتمام بالغ في هذه الولاية، لدرجة أن دائرة الموسيقى ببلدية شانلي أورفة، افتتحت الشهر الماضي، معهدًا لتعليم فن الغزل في الغناء، بهدف الحفاظ على هذا الفن الذي اشتهرت به الولاية على مدار تاريخها.
ومن العادات التي يمارسها أهل ولاية أورفا أيضًا في هذه الجلسات، أنهم يصنعون الأكلة الشهيرة لديهم وهي الـ”تشي كفتة” أي الكفتة النيئة على أنغام الموسيقى.
يأتي بعد ذلك وقت تقديم الطعام الذي ينبغي أن يكون من أكلاتهم المحلية، وغالبًا ما يقدمون الـ”تشي كفتة” في هذه المجالس، ثم يقدمون الحلوى التي ينبغي أن تكون محلية أيضًا، كحلوى “القطمير”، وجدير بالذكر أنهم يحددون مستوى الأطعمة المحلية التي تُقدم في كل اجتماع، حسب أوضاعهم المادية، ولا ينبغي أن تحدث أي مبالغات في الأطعمة في أثناء هذه الجلسات، وإذا خالف أحدهم هذه القاعدة، يقع عليه الجزاء، والهدف من ذلك هو عدم التسبب في حرج شخص آخر لن يستطيع تقديم هذه الأشياء لاحقًا.
تنتهي كل جلسة بممارسة رقصاتهم المحلية التي تميزهم، وهي أقرب ما تكون إلى الدبكة، ثم يختار رئيس الجلسة الشخص الذي ستعقد عنده الجلسة في الأسبوع القادم، وإذا لم يكن مستعدًا لاستقبالهم فمن حقه أن يعتذر ويتم اختيار شخص آخر.
رغم أن هذا التقليد أخذ طابعًا تجاريًا وأصبح يُستخدم في جذب السائحين، وهو ما تسبب في إبعاده عن أصوله، لأنه اقتصر على الموسيقى والأكل والرقص، بهدف المتعة فقط، فإن تقليد “سيرا جيجيسي” مستمر في شانلي أورفة حتى يومنا هذا، وسيلاحظ زائر هذه الولاية أن جميع الرجال هناك يمارسون هذا الطقس على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم الاجتماعية.