شهد العالم خلال الأعوام الأخيرة مجموعة من الأحداث الإرهابية المرفقة بتغيرات في النظام العالمي بأكمله، وقد دلت العديد من المتغيرات التي شهدتها الدول العربية مؤخرًا على أن هناك عالمًا جديدًا يعاد ترتيب أوراقه من جديد، وأن نظامًا عالميًا انهار ليتولد آخر لم تبرز ملامحه بعد.
ففي ظل العولمة التي غزت الفكر وقيدت الكيانات بسلاسلها المتينة، يتم إعادة إنتاج تبعية الدول العربية كل واحدة حسب مستواها الاقتصادي والسياسي والأمني، لتصبح الدول في تحدياتها الحاليّة تولي أهمية كبرى لاقتصاداتها التكنولوجية التي تعد اللبنة الأساسية للنمو والتقدم، متجاوزة الاعتماد على الموارد الطبيعية فقط.
“إسرائيل” والتحدي الاقتصادي للدول العربية
اهتمت “إسرائيل” وأمريكا والدول الآسيوية والأوروبية خلال العقود الأخيرة بالمجال التكنولوجي، كما أنها حددت إستراتيجيات تعاون وتشارك من أجل إنجاح مخططاتها، نظرًا لإحساسها بثقل مواجهة التحديات المستقبلية التي ستطال حياة “الإنسان“، في حين بقية الدول العربية على حالها المعهود، تفككات وانقسامات وحروب وضعف الأمن القومي والسياسي، ولا توافق في خدمة مصالح الأمة العربية، وإذا استمرت على هذا الحال فلن تستطيع مواكبة تطورات العالم في ظل تسارع عجلة العولمة، ولن تتمكن من تحقيق ولو ملاءمة بسيطة تنافس بها الدول الغربية.
فبعض الدول العربية ما زالت تعتمد في اقتصاداتها على الموارد الخضراء، ولا تشجع الاستثمار التكنولوجي الداخلي، ولا تحفز الشباب المخترع الذي يفضل بيع أمانة اختراعه للدول الأوروبية والآسيوية أو يتوجه إلى أمريكا أو كندا ليحققوا آمالهم وينموا قدراتهم، بحثًا عن عيش أفضل كريم، بعيدًا عن التهميش والإقصاء الطبقي الذي يعانون منه في بلدانهم الأم.
لهذا فالدول العربية بسوء اتحادها وكثرة العراقيل الناتجة عن سوء التدبير، تجعل صورتها مهترئة أمام المنافس الإسرائيلي والأمريكي مما يزيد من حدة تعقيد مشكلاتها المتشابكة.
لماذا التفوق الإسرائيلي مقابل الضعف العربي؟
منذ نهاية التسعينيات وصولاً إلى القرن الحاليّ دخل العرب في دوامة من الخصامات التاريخية مما جعل حلقة قواهم تتفكك وتضعف، رغم سعيهم إلى تسوية الأوضاع والاتفاق على حل سلمي يتوافق عليه الأطراف بهدف كسر المعادلة التي تضمن لـ”إسرائيل” التفوق دائمًا.
و”إسرائيل” التي تدعي السلم والسلام واحترام الديمقراطيات الدولية، لا تلتزم بأي معاهدة تفرض حماية واحترام حقوق الإنسان، فهي تحب دائمًا تغيير ورقتها لكي لا تتماشى ومتطلبات النظام العالمي، بل تسعى جاهدة لتكون النظام المتحكم بالقرار بدعامة أمريكية اعتمادًا على مبدأ “فرق تسد”.
أمريكا سبب رئيسي في انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان آنذاك يقدم الدعم العسكري والسياسي لبعض الدول العربية، لتستغل الولايات المتحدة الظرفية وتفرض التبعية على الدول العربية، وتتمكن من تحويل الأمم المتحدة إلى مؤسسة تابعة لها، مما سهل لها مأمورية الحق في تنزيل واستصدار ما تشاء من القرارات من مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة
ومن بين الأسباب التي جعلت “إسرائيل” تتفوق على خلاف الدول العربية، هي حرب الخليج ونهاية الاتحاد السوفيتي وعملية التسوية التي أطلقت من مدريد عام 1991، مع إدراج القضية الفلسطينية، كل هذه العوامل جعلت الأوضاع تتغير في الشرق الأوسط.
ولنفسر قليلاً، فأمريكا سبب رئيسي في انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان آنذاك يقدم الدعم العسكري والسياسي لبعض الدول العربية، لتستغل الولايات المتحدة الظرفية وتفرض التبعية على الدول العربية، وتتمكن من تحويل الأمم المتحدة إلى مؤسسة تابعة لها، مما سهل لها مأمورية الحق في تنزيل واستصدار ما تشاء من القرارات من مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، وفور تراجع الخطر السوفيتي، عملت الولايات المتحدة على إيجاد مصادر تهديد بديلة له وسهرت على تقوية سياستها الخارجية.
وقد ورد في كتاب “انهيار الاتحاد السوفيتي وتأثيره على الوطن العربي”، تقرير صادر عن لجنة التخطيط الإستراتيجي جاء فيه: “الاتحاد السوفيتي لم يعد عدوًا للغرب بالطريقة التي كان عليها في السابق، وأن مصادر التهديد البديلة ستكون خلال السنوات القادمة هي مصادر عدم الاستقرار في العالم، والأصولية الإسلامية في العالم الثالث، والأنظمة السياسية غير المستقرة، وأن على العرب والحلف الأطلنطي أن يكون مستعدًا جيدًا لمواجهة هذه المصادر الجديدة للتهديد”.
التكتيكات الإسرائيلية – الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط
أول بلد يتبادر إلى أذهاننا عند ذكر منطقة الشرق الأوسط هو “تركيا”، البلد الذي أصبح محط أنظار العالم بأسره، وأضحى العديد من المواطنين العرب يتمنون العيش بين ثناياه، بغية الحصول على قسط من جماليات العيش التي تتوافر فيه لكل مواطن تركي مهما اختلف انتماؤه المذهبي أو الطائفي.
وقد اشتغل الإعلام التركي مند تولي حزب العدالة والتنمية منصب الرئاسة، على تحسين صورة البلد والإفصاح عن كل الإنجازات التي تم تحقيقها في نطاق تحسين الخدمات وتجويد مستويات التعليم الابتدائية والثانوية والجامعية مع إعطاء مجال شاسع للبحث الحر الخاص بدراسة الأجانب والاستفادة من خبراتهم وتطويرها، والتركيز على جانب الابتكار والاختراع في مجال التكنولوجيا الرقمية الحديثة والأبحاث المتعلقة بالصناعة والطاقة البديلة والمتجددة وكل ما يهم التنمية المستدامة.
تسعى تركيا الآن لتعزيز ثقلها داخل المنطقة وتضغط على الدول العربية دون قطع العلاقات معها، لتصير بذلك في مقدمة زعامة العالم الإسلامي وهذا ما ترفضه السعودية إلى جانب حلفائها، مع تزايد قلق “إسرائيل” وأمريكا اللتين تنظران إلى أن تركيا تعمل بأجندتها الخاصة في الشرق الأوسط
وكل هذا الاهتمام الذي أولته تركيا للنهوض بأقطابها الكبرى لم تستسغ “إسرائيل” وأمريكا حُلوه، بل جعلهما تقلقان بشكل رهيب، وازداد حدة بعد مخالفة تركيا البلدان العربية والغربية في السماح للفلسطينيين بولوج الأراضي التركية واحترام قدر الأخوة بشكل محترم جدًا عجزت عنه الدول العربية ذات التبعية الأمريكية أو الراضخة لسلطتها بشكل خفي وغير مباشر.
هذه الخطوة التي اتخذتها تركيا أربكت تصور “إسرائيل” الخاص لمستقبل التسوية في منطقة الشرق الأوسط، رغم وجود علاقات اقتصادية وتجارية وعسكرية تربطهما.
كما تسعى تركيا الآن لتعزيز ثقلها داخل المنطقة وتضغط على الدول العربية دون قطع العلاقات معها، لتصير بذلك في مقدمة زعامة العالم الإسلامي وهذا ما ترفضه السعودية إلى جانب حلفائها، مع تزايد قلق “إسرائيل” وأمريكا اللتين تنظران إلى أن تركيا تعمل بأجندتها الخاصة في الشرق الأوسط، التي تتنافى والرؤية الإسرائيلية – الأمريكية والعربية بغية الوصول إلى اتفاقية سلام تضمن لجميع الأطراف الاستقرار والديمومة.
الرؤية الأمريكية – الإسرائيلية والعربية لاتفاقية السلام
ترى أمريكا أن مستقبل التسوية في منطقة الشرق الأوسط يكمن في الحفاظ على مصالحها مع العرب و”إسرائيل”، وقد قال ريشارد نيكسن رئيس الولايات المتحدة الـ37: “أكثر ما يهمنا في الشرق الأوسط هو البترول و”إسرائيل”، ولو أنهما لا يسيران دائمًا في اتجاه واحد”، لهذا فتشبت أمريكا بـ”إسرائيل” يدعم موقعها في الشرق الأوسط كما يضمن السلام والأمن لـ”إسرائيل”.
يرى بنيامين نتنياهو أن السلام نوعان: الأول يكمن في السلام بين الدول الديموقراطية، والثاني هو سلام الحسم الذي يرتبط بصورة مباشرة بقدرة “إسرائيل” على الردع وإبداء القوة على الدول العربية التي ستسعى فيما بعد لإبرام اتفاقية السلام معها خوفًا على مصالحها الإقليمية، وتراكم الصراعات بينها وضعف خطاباتها السياسية والدبلوماسية
في حين ترى “إسرائيل” أن اتفاقية السلام يجب بناؤها اعتمادًا على توسيع دائرة التفوق العسكري والاقتصادي، وإعطائها دورًا محوريًا مقابل ضعف وتفكك العرب، وهذا ما يعتمده الليكود “السلام مقابل السلام”.
وفي نفس الإطار يرى بنيامين نتنياهو أن السلام نوعان: الأول يكمن في السلام بين الدول الديموقراطية، والثاني هو سلام الحسم الذي يرتبط بصورة مباشرة بقدرة “إسرائيل” على الردع وإبداء القوة على الدول العربية التي ستسعى فيما بعد لإبرام اتفاقية السلام معها خوفًا على مصالحها الإقليمية، وتراكم الصراعات بينها وضعف خطاباتها السياسية والدبلوماسية.
أما الدول العربية فقد حددت رؤيتها لنجاح تسوية السلام بالتزام اتفاقية مدريد وقرارات الشرعية الدولية، ما يبرز أنها غير ملمة بالمتطلبات التي تحتاجها لتعزيز مصالحها أولاً وتحويلها إلى مصالح ذات إطار مؤسسي يدافع عنها، ما يدل أيضًا على غياب تصور مستقبلي لحالة المنطقة.
وقد قال الباحث سمير الزبن في دراسة أجراها سنة 2001 عن الشرق الأوسط ومستقبل المنطقة العربية: “غياب التصور العربي جعل الدول العربية تتعاطى مع تطورات الآخرين بإيجابية عالية، حتى لو كانت تصورات تعمل ضد مصالح الدول العربية، ففي الوقت الذي تعمل فيه الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل” على صياغة أوضاع المنطقة، فإن الدول العربية تفتقد لأي رؤية تجيب عن أسئلة المستقبل بشأن موضوع التسوية”.
ليبقى مستقبل نجاح إبرام اتفاقيات السلام مع البلدان العربية في منطقة الشرق الأوسط رهينًا بالإستراتيجية السياسية لـ”إسرائيل” وبالدعم الأمريكي لها.