بملابس الحداد السوداء، وقفت جاسيندا أرديرن رئيسة الوزراء النيوزلندية، على المنصة الرئيسية لمركز “كانتبري” للاجئين في مدينة كرايست تشيرش، معزية عائلات وأقارب الحادث الإرهابي الذي أودى بحياة 50 مسلما أول أمس الجمعة.
عناقها لذوي الضحايا ونظرات الحزن التي ارتسمت فوق جبينها، وهي تقول إن نيوزيلندا بالنسبة للمهاجرين المقيمين فيها هي بيتهم، و”هم نحن”، ساهم في تخفيف الألم والتقليل من وقع الحادث الذي وصفته بأنه يوم أسود في تاريخ بلادها المطمئنة منذ عقود.
ردود فعل إيجابية بين أوساط الجالية الإسلامية جرًاء سرعة تجاوب أرديرن مع الجريمة وإصرارها على تقديم واجب العزاء بنفسها، الأمر الذي أزال جزءًا كبيرًا من حالة الاحتقان التي تصدرت المشهد خاصة بعد التصريحات المستفزة للسيناتور الأسترالي فريزر أنينغ، الذي اتهم خلالها المسلمين بأنهم سبب التطرف الأول.. فمن تلك الشابة التي نجحت في امتصاص غضب الشارع وجنبت بلادها ويلات تصعيد ربما ينسف فكرة “النموذج النيوزيلندي الهادئ”؟
أصغر رئيسة حكومة في العالم
ولدت جاسيندا كيت لوريل أرديرن في 26 من يوليو 1980، استهلت حياتها المهنية بالعمل كباحثة في مكتب رئيسة الوزراء هيلين كلارك، بعد تخرجها من جامعة وايكاتو عام 2001 لتشغل فيما بعد منصب مستشارة سياسية لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، تم انتخابها رئيسة للاتحاد الدولي للشباب الاشتراكي في عام 2008.
دخلت البرلمان لأول مرة عام 2008 بعد معركة انتخابية شرسة، وذلك إثر مغادرتها الكنيسة عام 2005 التي تربت طيلة حياتها كعضو في “كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة” بدعوى أنها تتعارض مع آرائها الشخصية المثيرة للجدل بعض الشيء التي على رأسها دعمها لحقوق المثليين، وفي عام 2017 اعتبرت نفسها “لا أدرية” أي غير ملتزمة بكل التعاليم المسيحية.
في الأول من أغسطس 2017 تولت زعامة حزب العمل في بلادها قبل أن تصبح رئيسة للوزراء في الـ26 من أكتوبر في نفس العام، حين كان عمرها آنذاك 37 عامًا لتصبح أصغر رئيسة حكومة في العالم، وثالث رئيسة وزراء في تاريخ نيوزيلندا وهو ما وضعها تحت مجهر الاهتمام الدولي وسلط عليها أضواء الإعلام في الداخل والخارج.
تعرفت على زوجها الحاليّ، مقدم البرامج التليفزيوني الشهير، كلاك جيفورد عام 2012، وتزوجت منه في 2017 إلا أنها فوجئت بحملها في يناير 2018 لتصبح أول رئيسة وزراء حامل في البلاد، وعقب وضعها مولدتها الصغيرة “نيف تي” باتت محط حديث الشارع النيوزيلندي إلا أنها حرصت على مرافقتها في كل اجتماعاتها الوزارية والبرلمانية، الأمر الذي زاد من إعجاب الشعب بها وبما تتسم به من مرونة وانسيابية في التعامل.
ليس هناك رد فعل رمزي أقوى على الإرهاب الذي تعرض له الأشخاص الذين قتلوا في أثناء أداء الصلاة، من صور رئيسة الوزراء التي ترتدي الحجاب، ويرتسم الحزن على وجهها
تعرضت للعديد من التحديات عقب فوزها في الانتخابات، على رأسها معضلة قيادة ائتلاف مكون من أعضاء البرلمان التابعين لعدد من الأحزاب غير المتجانسة، يكفي أن من بينهم رئيس حزب “نيوزيلاندا أولًا” ونستون بيترز الذي شن حملة ضد الهجرة ومبيعات الأراضي والمساكن للأجانب.
إلا أن أرديرن بعد إعلان بيترز نواياه المعادية للمهاجرين خرجت في مؤتمر صحفي بعد توليها المنصب لتعلن للعالم أجمع سياستها الأولى في إدارة شؤون بلادها حين قالت: “هذا يوم رائع، نحن نطمح إلى أن نكون حكومة لجميع النيوزيلنديين وأن نغتنم الفرصة لبناء نيوزيلندا أكثر عدلًا وأفضل”.
رئيسة وزراء نيوزيلندا مع طفلتها الأولى
الدبلوماسية الإنسانية
نجحت الدبلوماسية الإنسانية التي انتهجتها أرديرن في تعاملها مع الحادث في تسليط الضوء عليها خلال اليومين الماضيين، وذلك بعد التعاطف الذي أبدته مع ذوي ضحايا المذبحة وجسدته تصريحاتها والمبادرات التي قامت بها في إطار محاولات التخفيف من تأثير الحادثة على أمن واستقرار بلادها.
ففي مبادرة تضامنية أثارت اعجاب عدد من أفراد الجالية الإسلامية في نيوزيلندا ارتدت رئيسة الحكومة حجابا وعباءة سوداء تشبه إلى حد كبير الأزياء التي ترتديها المرأة العربية، أثناء زيارتها مركز “كانتبري” للاجئين في مدينة كرايست تشيرش، بعد يوم واحد فقط من الحادث، للقاء ممثلين عن الجالية الإسلامية وعائلات وأقارب ضحايا الحادث الإرهابي.
This is how a leader should respond to a tragedy
NZ Prime Minister, Jacinda Ardern, visiting the city of Christchurch and the Muslim community #ChristchurchMosqueAttack
https://t.co/15mxtL1Qhb— Shahjhan Malik (@shahjhan_malikk) March 16, 2019
“نشعر عميقًا في قلوبنا ما حصل لكم، نشعر بالأسى وبالظلم وبالغضب ونحن نتشارك بهذا معكم، تريدون عودة احبائكم لكم، وأعلم أن هناك أمورًا دينية فيما يتعلق بالدفن وهذا أمر في قائمة أولوياتنا”.. هكذا تحدثت أرديرن أمام ذوي الضحايا، مشيرة أن “واحدة من بين الأمور التي واجهناها كانت المساجد، كان يتوجب علينا التأكد من أنها آمنة للأشخاص، وحالما تمكنت الشرطة من القيام بذلك بدأت بالتعرف وتحديد هوية أحبائكم، بالطبع سيقومون بذلك بأكبر سرعة ممكنة”
To Pres. Trump & PM May.
This symbolizes NZ PM Jacinda Ardern’s response to the the horrific #FarRight terrorist attacks in #Christchurch: empathy, compassion & humanity.
NZ will cover funeral costs & loss of income for years, regardless of immigration status.
Watch and learn. pic.twitter.com/4k8QxYMkFJ
— Dorje (@dorje_m) March 17, 2019
وأضافت: “تأكدوا أننا نعلم مدى أهمية التسريع في هذه العمليات بالنسبة لكم ونحن نقوم بكل ما يمكننا القيام به حاليًا.. سلامتكم هو الأمر الثاني الذي أريد التأكيد عليه، وأن يكون لكم أماكن آمنة للعبادة وأن تشعروا بالأمان خلال عبادتكم”، كما تعهدت في مؤتمر صحفي سبق هذا اللقاء بتشديد قوانين حمل الأسلحة، إذ تبين أن المهاجم كانت لديه رخصة حمل أسلحة حصل عليها في نوفمبر 2017، قائلة: “مجرد أن هذا الشخص حصل على ترخيص وحاز أسلحة من هذا النوع، يدفعني إلى القول إن الناس يريدون أن يتغير ذلك، وسأعمل على هذا التغيير”.
كما تعهدت بتحمل كلفة دفن الضحايا وتوفير الدعم المالي “لسنوات وليس لشهور” لأسرهم بغض النظر عن وضعهم القانوني كمهاجرين، هذا بخلاف صرف 10 آلاف دولار لهم كتعويض مبدئي، وردًا على سؤال عن رأيها في السيناتور الأسترالي فريزر أنينغ الذي استغل مجزرة المسجدين لإلقاء اللوم على المهاجرين المسلمين والدين الإسلامي، وصفت أرديرن هذا الموقف بأنه “قمة العار”.
نجحت جاسيندا أرديرن وفق ما تبنته من دبلوماسية إنسانية في تقديم صورة إيجابية لبلادها، استطاعت من خلالها تهدئة الأجواء المشتعلة بين الجالية الإسلامية
وحسبما نُقل عن صحيفة محلية نيوزيلندية فإنه “ليس هناك رد فعل رمزي أقوى على الإرهاب الذي تعرض له الأشخاص الذين قتلوا في أثناء أداء الصلاة، من صور رئيسة الوزراء التي ترتدي الحجاب، ويرتسم الحزن على وجهها وهي تقف أمام الناس من المجتمع المسلم في كرايستشيرش”.
وهكذا نجحت جاسيندا أرديرن وفق ما تبنته من دبلوماسية إنسانية في تقديم صورة إيجابية لبلادها، استطاعت من خلالها تهدئة الأجواء المشتعلة بين الجالية الإسلامية وتجنيب شعبها بكافة أطيافة ويلات هزة ربما كان ثمنها غال جدا على أمن واستقرار بلد كان حتى وقت قريب نموذجا للسلم المجتمعي والديمقراطي.