ترجمة وتحرير: نون بوست
مرت ستة أشهر طويلة منذ أن تقدم المدعي العام كريم خان بطلب إلى الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت وثلاثة من قادة حماس، اثنان منهم على الأقل قد لقيا حتفهما.
خلال هذه الفترة، قُتل 9,000 فلسطيني في غزة تحت القصف الإسرائيلي المدمر والتجويع المتواصل؛ ويقترب إجمالي عدد القتلى رسميًا من 45,000، وقدرت مجلة لانسيت الطبية أن العدد قد يتجاوز ذلك بأضعاف المرات.
إن استغراق القضاة الثلاثة في الدائرة التمهيدية ستة أشهر للبت في هذه القضية، في حين أن متوسط فترة الانتظار هو شهران، هو دليل على الضغط غير المسبوق الذي تعرضت له أعلى محكمة في القانون الدولي.
في المقابل، لم يستغرق الأمر سوى ثلاثة أسابيع فقط لإصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وماريا ألكسييفنا لفوفا بيلوفا، المفوضة الروسية لحقوق الطفل.
وجاء الضغط على هؤلاء القضاة الثلاثة الشجعان حصريًا من تلك الدول التي تدعي أنها تناضل من أجل نظام عالمي قائم على أساس القانون الدولي.
وقاد الرئيس الأمريكي جو بايدن الهجوم على المحكمة الجنائية الدولية والعدالة الدولية بإدانته الفورية لطلب خان ووصفه بأنه “مشين”.
وقال بايدن في مايو/ أيار: “اسمحوا لي أن أكون واضحًا: مهما كان ما يلمح إليه هذا المدعي العام، فلا يوجد تكافؤ بين إسرائيل وحماس. سنقف دائمًا إلى جانب إسرائيل ضد أي تهديدات لأمنها”. لاحظوا أن هذا الكلام قيل قبل السماح بأي إجراءات قانونية.
وليس من المستغرب أن يواجه المدعي العام محاولة للإقصاء بمزاعم سوء السلوك الجنسي، والتي يجري الآن تحقيق خارجي بشأنها.
معاقبة المحكمة
وفي محاولات أكثر دهاءً لإسقاط مذكرات الاعتقال، أعادت المملكة المتحدة، من بين دول أخرى، مناقشة قضية سبق أن حسمتها المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق باختصاص المحكمة فيما يحدث في الأراضي المحتلة، وجادلت المملكة المتحدة بأن المحكمة ليست ذات اختصاص وفقًا لاتفاقيات أوسلو التي وُقّعت في التسعينيات، ولكنها لم تُنفذ أبدًا.
لكن حكومة رئيس الوزراء كير ستارمر تراجعت عن هذه الحجة منذ ذلك الحين، وفي إسقاطه لاعتراض المملكة المتحدة على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، قال متحدث باسم ستارمر: “لقد كنا واضحين جدًا بشأن أهمية سيادة القانون واستقلالية المحاكم على الصعيدين المحلي والدولي”.
أما في الولايات المتحدة، التي لم توقع على نظام روما الأساسي، فهناك مشروع قانون أمام الكونغرس للضغط على المحكمة الجنائية الدولية، ورغم أن مشروع القانون الذي يهدف لمعاقبة المحكمة على مذكرات الاعتقال لا يعدو كونه محاولة سياسية فجة للضغط على العملية القضائية، إلا أن 42 من أعضاء مجلس النواب الديمقراطيين صوتوا لصالحه، وعارضه البيت الأبيض، ولم يقره مجلس الشيوخ بقيادة زعيم الديمقراطيين المنتهية ولايته تشاك شومر بعد.
لكن السيناتور جون ثون، الذي سيصبح زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ عندما يتولى دونالد ترامب الرئاسة مرة أخرى العام المقبل، تعهد بمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية.
وكتب ثون قبل بضعة أيام على موقع إكس (تويتر سابقًا): “إذا لم تتراجع المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام عن إجراءاتهما المشينة وغير القانونية لإصدار مذكرات اعتقال بحق المسؤولين الإسرائيليين، فينبغي على مجلس الشيوخ أن يقرّ على الفور تشريعًا بفرض عقوبات، كما فعل مجلس النواب بالفعل بمشاركة من الحزبين”.
وأصبح هذا الضغط على القضاة الثلاثة أمرًا لا يطاق؛ فقد طلبت القاضية الرومانية يوليا موتوك، مغادرة هيئة القضاة الثلاثة لأسباب صحية الشهر الماضي، وحلت محلها القاضية السلوفينية بيتي هولر.
ورغم كل هذا، مضى هؤلاء القضاة الشجعان قدمًا وأصدروا أوامر الاعتقال. إنهم يستحقون الثناء الكامل لأنهم يمثلون نظامًا قائمًا على سيادة القانون الدولي، على خلاف القادة من أمثال جو بايدن.
لقد أصبحت الولايات المتحدة تمثل شريعة الغاب، حيث يكون الصواب والخطأ قابلين للتطويع، وألعوبة بيد الأقوياء. وجاء رد الفعل الذي يعكس تماما موقف الولايات المتحدة من قرار المحكمة الجنائية الدولية، من عضو ديمقراطي هو السيناتور جون فيترمان، الذي نشر على وسائل التواصل الاجتماعي “لا مكانة أو لا أهمية ولا مسار. تبًا لكم”، مرفقًا رمزًا تعبيريًا للعلم الإسرائيلي.
أقلية من طرف واحد
يتماشى ذلك تماماً مع كون الولايات المتحدة أقلية يمثلها طرف واحد؛ حيث استخدمت مؤخرًا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي ضد وقف إطلاق النار غير المشروط والفوري في غزة، وهي المرة الرابعة التي تفعل فيها الولايات المتحدة ذلك خلال الحرب المستمرة منذ 13 شهرًا.
وقال ماجد بامية، نائب السفير الفلسطيني لدى الأمم المتحدة، في بيان شديد اللهجة: “لا يوجد حق في القتل الجماعي للمدنيين، لا يوجد حق في تجويع كل السكان المدنيين، ليس هناك حق في تهجير شعب بالقوة، وليس هناك حق في الضم. هذا ما تفعله إسرائيل في غزة، وهذه هي أهدافها الحربية، وغياب وقف إطلاق النار يسمح لها بالاستمرار في القيام به”.
وبعد ذلك بوقت قصير، قامت الطائرات الحربية الإسرائيلية بقصف شامل لمجمع سكني بالقرب من مستشفى كمال عدوان في شمال غزة المحاصر، مما أسفر عن مقتل 66 شخصًا على الأقل.
واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) رغم تعرضها للإهانة من حليفتها إسرائيل قبل يومين فقط؛ حيث انتقد نتنياهو إدارة بايدن بشكل متكرر في خطابٍ ألقاه أمام الكنيست الإسرائيلي بعد أسبوعين من فوز ترامب بالانتخابات في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني.
وقال نتنياهو: “كان لدى الولايات المتحدة تحفظات واقترحت عدم دخولنا إلى غزة، وكان لديها تحفظات على دخول مدينة غزة وخان يونس، والأهم من ذلك أنها عارضت بشدة دخولنا إلى رفح”.
وأضاف: “أخبرني الرئيس بايدن بأننا إذا دخلنا سنكون وحدنا، وقال أيضًا إنه سيوقف شحنات الأسلحة المهمة إلينا، وقد فعل ذلك. وبعد أيام قليلة، ظهر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن وكرر الكلام نفسه، فقلت له: سنقاتل بأظافرنا”.
هذه هي الأسابيع الأخيرة لما سيبقى كواحد من أكثر فترات الرئاسة سوءا في تاريخ الولايات المتحدة.
إن ضعف بايدن عندما طُلب منه التصرف كقائد عالمي حقيقي جعل أسلافه الجمهوريين، مثل رونالد ريغان وجورج بوش الأب، يبدون وكأنهم نماذج يُحتذى بها في السلوك الأخلاقي مقارنة به.
شريك في الجريمة
كان سقف العار قد وصل بالفعل إلى أدنى مستوياته على الإطلاق عندما تولى بايدن منصبه قبل أربع أعوام، بعد رئاسة ترامب التي وضعت بعناية جميع شروط الانفجار الذي حدث بعد ذلك، لكن بايدن تمكن من الانحدار إلى مستويات أدنى في تعامله مع الحرب الإسرائيلية على غزة.
وتوضح إحدى الفقرات في حكم المحكمة الجنائية الدولية مسؤولية الولايات المتحدة عن المذبحة الوحشية في غزة، فقد أشارت إلى أنه في الوقت الذي تجاهلت فيه إسرائيل مناشدات مجلس الأمن الدولي والأمين العام للأمم المتحدة والدول والمنظمات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني بشأن الوضع الإنساني في غزة، فإنها استجابت لضغوط الولايات المتحدة.
وأشارت المحكمة إلى أن “الدائرة لاحظت أيضًا أن القرارات التي سمحت أو زادت من المساعدات الإنسانية إلى غزة كانت مشروطة في كثير من الأحيان، ولم تُتخذ هذه القرارات للوفاء بالتزامات إسرائيل بموجب القانون الإنساني الدولي أو لضمان تزويد السكان المدنيين في غزة بما يكفي من السلع التي يحتاجونها، بل كانت في الواقع استجابة لضغوط المجتمع الدولي أو طلبات الولايات المتحدة الأمريكية. وفي كل الأحوال، لم تكن الزيادات في المساعدات الإنسانية كافية لتحسين إمكانية حصول السكان على السلع الأساسية”.
بعبارة أخرى، لم يربط نتنياهو صراحةً بين وقف السلع الأساسية والمساعدات الإنسانية وبين أهداف الحرب فحسب، بل جعل توريد المواد الغذائية مشروطًا بالضغوط التي واجهها.
وأشارت المحكمة إلى أن “الدائرة وجدت بالتالي أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن السيد نتنياهو والسيد غالانت يتحملان المسؤولية الجنائية عن جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب”. وهذا الاستنتاج يجعل الولايات المتحدة تحديدًا شريكًا في جرائم نتنياهو.
لا يمكن للمرء أن يبالغ في أهمية مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، فالمحكمة لا تملك سلطات إنفاذ قانون خاصة بها، بل تعتمد على الدول الأعضاء لاعتقال المشتبه بهم وتسليمهم.
وبالتالي، فإن هذه المذكرات تلقي المسؤولية على عاتق كل دولة من الدول الأطراف في نظام روما الأساسي البالغ عددها 124 دولة، والسؤال المطروح على كل دولة من هذه الدول الملزمة الآن بموجب القانون الدولي بدعم وتنفيذ هذه المذكرات هو سؤال بسيط: “هل تؤمنون بالقانون الدولي أم بشريعة الغاب؟”
تضييق الخناق
لن تجد بعض دول الجنوب صعوبة في الإجابة عن سؤال كهذا، لكن دولاً أخرى ستجد صعوبة في الإجابة عنه.
على وجه التحديد، سيكون التحدي الأكبر على عاتق المملكة المتحدة وجميع الدول الأوروبية التي شكلت العمود الفقري لدعم الهجوم الإسرائيلي على سكان غزة، والتي دأبت على استخدام حق النقض (الفيتو) باستمرار ضد دعوات وقف إطلاق النار الفوري.
وادعت كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا بأن إسرائيل تملك الحق في مواصلة حربها على غزة بحجة الدفاع عن النفس، وقادت حملات كبيرة على الصعيد المحلي لتجريم الاحتجاجات، في البداية بوصفها معادية للسامية، ومؤخرًا بوصفها إرهابًا.
ومع ذلك، فإن التحدي القانوني الذي تواجهه هذه الدول كبير، فمذكرات المحكمة الجنائية الدولية لا تنطبق فقط على نتنياهو وغالانت، بل أن هذه المذكرات قد تؤدي أيضا إلى تحريك دعاوى محلية ضد مواطنين إسرائيليين آخرين، ولا سيما مزدوجي الجنسية في الدول الأوروبية، لأن المحكمة وجدت أنهم قد اشتركوا في ارتكاب بعض الجرائم.
وقال تريستينو مارينيلو، المحامي الدولي في مجال حقوق الإنسان الذي يمثل الضحايا الفلسطينيين في المحكمة الجنائية الدولية، لموقع ميدل إيست آي: “أي شخص آخر متورط في ارتكاب الجرائم قد يُقدم للعدالة على المستوى المحلي وأيضًا على المستوى الدولي”.
وهناك احتمال ضئيل في أن يختبر نتنياهو أو غالانت الإرادة السياسية لستارمر من خلال زيارة المملكة المتحدة أو أي بلد يمكن أن تُنفذ فيه هذه المذكرات.
ولكن هل سيسمح ستارمر، بصفته مديرًا سابقًا للنيابات العامة، بمقاضاة البريطانيين مزدوجي الجنسية الذين شاركوا في الجرائم التي أثبتت المحكمة الجنائية الدولية الآن أنها وقعت في غزة؟ هذا هو الاختبار الأكبر لعزم المملكة المتحدة على دعم القانون الدولي.
وحتى لو لم يحدث شيء من هذا القبيل، فإن هذه المذكرات تضيّق خناق الرأي العام العالمي والقانون الدولي حول عنق إسرائيل، وهذا بدوره يزيد من عزلتها العالمية.
إذا ما ألقى نتنياهو وغالانت نظرة على أكثر من خمسة عشر متهمًا آخرين تم وضعهم على موقع المحكمة الجنائية الدولية، فإنهما سيدركان أنهما سيشكلان عبئا على المسؤولين الإسرائيليين الذين يعتبرون أنفسهم جزءًا من العالم الغربي.
تضم القائمة عمر البشير، رئيس السودان السابق؛ وجوزيف كوني، قائد جيش الرب للمقاومة في أوغندا؛ وسيرغي شويغو، وزير الدفاع الروسي السابق؛ وبالطبع بوتين نفسه.
مضاعفة الضغوط
كان رد الفعل الطبيعي من قبل الحكومة الائتلافية في إسرائيل هو مضاعفة الضغوط، فقد وصف وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتامار بن غفير قرار المحكمة بأنه معادٍ للسامية من أوله إلى آخره، وقال إن على إسرائيل الرد على المحكمة الجنائية الدولية بإعلان ضم الضفة الغربية.
قد تؤيد إدارة ترامب القادمة هذا الأمر، ولكن على ترامب نفسه أن يتوقف للتفكير مليًا قبل أن يتصرف بهذا الاندفاع.
وفي الواقع، إذا كان ترامب صادقًا في وعده بأن “يجعل أمريكا أولًا”، فقد يكون من الحكمة أن يبدأ في النأي بنفسه عن التصرفات المتهورة لدولة منبوذة، وإلا فإنه قد يحذو ببساطة حذو بايدن في السماح لإسرائيل بجر الولايات المتحدة معها إلى الحضيض.
يجب على ترامب، البراغماتي العتيد، أن يرى أنه بسماحه لإسرائيل بمهاجمة إيران وضم الضفة الغربية وإعادة احتلال غزة، سيتخلى عن جميع الصفقات التجارية والعقارية المربحة التي يسيل لعابه بشأنها في إعادة إعمار المنطقة.
ومن الآن فصاعدًا، إذا لم يتم ترويض إسرائيل بطريقة لم يستطع بايدن القيام بها، فإنها ستستمر في إضعاف الامتداد التجاري والعسكري العالمي لواشنطن، ولن يكون بإمكانها تعزيزه. لقد أصبحت إسرائيل رهانًا تجاريًا خاسرًا لشريكها الأمريكي.
ورغم كل التبجح الإنجيلي والمال الذي قدمته ميريام أديلسون، المليارديرة الإسرائيلية الأمريكية التي تقف وراء حملة ترامب الرئاسية، إلا أنني أشك في أن ترامب العلماني المتطرف والمتعجرف في التعاملات التجارية لا يستطيع أن يرى ذلك بالفعل.
المصدر: ميدل إيست آي