ألّحت علينا حادثة نيوزلندا بالتفكير مجددًا فيما وراء ممارسات الكراهية والحقد التي تُمارس بشكلٍ مدروسٍ للغاية ومخطّطٍ له بحقّ المسلمين في العالم. البعض يحلو له أنْ يصف الأمر بالإسلاموفوبيا، فيما يعتقد آخرون أنّه نتاجٌ لنوعٍ من الاضطراب العقليّ والنفسيّ يقوم به أفرادٌ مضطربون غير أسوياء.
لكنّ حصرَ الموضوع في وجهين اثنين: إمّا إسلاموفوبيا أو اضطرابٍ عقليّ لا يساعد أبدًا على مواجهته وفهمه، فالتهديد أكبر من ذلك بكثير. وفي النهاية، ما رأيناه في المسجدين وما نراه بشكلٍ يوميّ في الغرب هو نوعٌ من الكراهية الممنهجة التي يمكن أنْ تؤدّي في أيّ وقت إلى عمليات قتل تتجاوز في جوهرها مجرّد فردٍ متطرّف أو آخر مضطرب. هو نوعٌ من الكراهية الممتدّة عبر الغرب بأكمله تجاه المسلمين بوصفهم أفرادًا يعيشون فيما بينهم بشكلٍ طبيعيّ للغاية.
تعمل الحركات اليمينية على استغلال فكرة الخوف على الأرض والمصالح الاقتصادية لتعزيز العنصرية القائمة على اللون والعِرق والدين.
من السهل جدًّا وصف القاتل بالمضطرب أو المجنون. فما رأيناه على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وهو يُطلق النار على عشراتٍ من المصلّين أثناء تأديتهم لصلاة الجُمعة، يستدعي من الكثيرين التفكير بأنها مجرّد حالة اضطراب لا يمكن لرجلٍ عاقلٍ الإتيان بها، من المُريح التفكير بذلك في نهاية المطاف. لكنْ ما قرأناه في خطابه أو المانيفستو الذي كتبه ونشره على حسابه في تويتر يتجاوز ذلك بكثير، فنحن هُنا أمام رجلٍ واعٍ كامل الوعي لما يقوم به، فقد قرأ التاريخ وغرق في التفاصيل قبل أنْ يُقدم على خطّته التي فعل.
مانيفستو المجزرة: نحو مجتمعٍ “أبيض” نقيّ
لا يعدّ الاعتقاد القائل بتفوّق العِرق الأبيض وسيادته والنازية الجديدة أمرًا جديدًا بالطبع، وليس غريبًا أنْ تأخذ هذه الأفكار بالتزايد والتنامي أكثر وأكثر مع الوقت. فقد وجد تقرير صادر عن برنامج التطرف بجامعة جورج واشنطن على سبيل المثال أنّ المنظمات القومية البيضاء شهدت زيادة في عدد المتابعين لها على موقع تويتر بنسبة أكثر من 600 في المائة منذ عام 2012. وبشكلٍ عام، تخبرنا قدرة القاتل على بثّ الهجوم على مواقع التواصل الاجتماعي على استغلال اليمين المتطرّف الجيد والعميق لوسائل الإعلام والتكنولوجيا الرئيسية لنشر رسائله المُظلمة والعنيفة.
قام منفّذ الهجومين بنشر بيان مطوّل مكوّن من 74 صفحة على الإنترنت قبل قيامه بالجريمة، مُطلقًا عليه اسم “الاستبدال العظيم: نحو مجتمع جديد” ومضمّنًا إياه بالعديد من المفاهيم والرموز والدلالات لأحداث تاريخية تعود لقرون خلت
يُشير مقال على موقع “ّذا كونفرسيشن” إلى أنّ نيوزلندا في ثمانينات القرن الماضي قد شهدت تنامي 70 مجموعة محليّة استوفت تعريف “اليمين المتطرّف”، وهي المجموعات التي تروّج للأيديولوجيات العنصرية الشاملة التي ترى أن العرق الأبيض متفوق في الأصل على باقي الأعراق، وينبغي أن يسود عليها. وذلك تبعًا للعديد من الأفكار المبنية على العنصرية العلمية؛ أي الاعتقاد العلمي الزائف بأن الأجناس مهيأة وراثيًّا لصفات وسلوكيات مختلفة.
ومع ظهور الإنترنت ثم وسائل التواصل الاجتماعي، تزايدت التعليقات الداعية لكراهية المسلمين ومعاداتهم وإقصائهم من الغرب بشكلٍ عنيف ودمويٍّ في أحيان كثيرة. وعلى الرغم من أنّ نيوزلندا على بُعد آلاف الأميال من أوروبا أو الولايات المتحدّة، إلا أنّ مقاطع الفيديو والمانيفستو الذي نشره القاتل يخبرنا بشكلٍ قاطع بأنّ اليمين المتطرّف لا يزال مستمرًّا بالتفشّي. فما الذي يؤدّي إلى هذه الأيديولوجيات المتطرّفة؟
صورة توضّح معاني الرموز والدلالات والإشارات التاريخية التي وُجدت على سلاح منفّذ الهجوميْن الداميْين
بدايةً، قد ينبغي علينا فهم الأجواء التي رسمها القاتل أثناء تأديته لجريمته. فقد قام برينتون هاريسون تارانت بنشر بيان مطوّل مكوّن من 74 صفحة على الإنترنت قبل قيامه بالجريمة ببضع لحظات، مُطلقًا عليه اسم “الاستبدال العظيم: نحو مجتمع جديد” ومضمّنًا إياه بالعديد من المفاهيم والرموز والدلالات لأحداث تاريخية تعود لقرون خلت، وتحديدًا لأكثر من 1300 سنة من الحروب التي خاضها المسلمون ضد الأوروبيين.
كما يكشف المانيفستو عن دوافعه وراء الهجوم وخوفه من ارتفاع أعداد المهاجرين والمسلمين في أوروبا، ثمّ دعوته لقتل مَن أطلق عليهم “أعداء الرجل الأبيض”، بينهم الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس بلدية لندن، إضافة إلى رؤساء الشركات المناهضين لقضية البيض.
وقد أشاد تارانت بالرئيس ترامب، وسخر من مهاراته القيادية لكنه وصفه بأنه “رمز لتجديد الهوية البيضاء”، فيما يبدو تأثره واضحًا وجليًا بشكلٍ خاص بأفكار وأساليب العديد من المتطرّفين أو ممّن نفّذوا هجمات إرهابية بحقّ المهاجرين والأفارقة في كلٍّ من أوروبا وأمريكا. وبينما بدأ بثّ فيديو الجريمة من سيارته، قام بتشغيل أغنية موجّهة لرادوفان كاراديتش، الصربي المسؤول عن مقتل الآلاف من المسلمين البوسنيين خلال حرب البلقان في تسعينيات القرن الماضي.
دور الضحية: كيف نشأ كلٌّ هذا التطرّف والكراهية؟
قد لا تكون النظريات التي تحاول تقديم تفسيراتٍ واضحة للعنصرية والتمييز كافية هنا. فهذا النوع من التطرّف العنصري ليس نتيجة الخوف من الاختلاف وعدم القدرة على تقبّل الآخر، بل هو نتيجة الانتماء الذي يعزّزه الجانب المجتمعي الذي يعتقد بتفوّق البيض وسيادتهم. ولهذا، نحن بحاجة أكثر إلى إلقاء نظرة فاحصة على المجتمع ككل. ذلك المجتمع الذي يسعى لخلق أناسٍ بلا هدف، مهمّشين ومنعزلين في تفكيرهم ومعتقداتهم حتى يدخلوا في حال من التطرّف الإرهابي والعنيف.
تطوّر الجماعات اليمينيّة نمطًا من الاعتقادات والإيديولوجيات المصمّمة بعناية فائقة لتقوية شعور الضحية، وهذا الشعور هو الطريقة التي تطمئن بها تلك المجموعات نفسها بأنها ليست عنصرية، بل مجرّد ضحية تُعاني أيضًا وتطالب بحقوقها
فقد يكون القلق الاقتصادي واحدًا من العوامل المهمّة في صعود الرجل الأبيض المتطرّف. إذ غالبًا ما تميل الحركات اليمينية إلى استخدام مفهوم “الطبقة العاملة البيضاء” لمخاطبة الرجل الأبيض العادي الذي يتعرّض لضغوط سوق العمل ويعيش حالة من انعدام الأمان الوظيفي والاقتصادي بحجة تزايد أعداد المهاجرين واللاجئين إلى أوروبا وأمريكا.
لكن في المقابل، يرى البعض بأنّ الاعتقاد بتفوّق الرجل الأبيض ينبع من السخط والقلق الاقتصاديين هو اعتقاد خاطئ ومجرّد وهم. إذ أنّ تلك الحركات تعمل أيضًا على جذب العديد من رجال الطبقة المتوسطة وحتى رجال الطبقة الوسطى العليا بشكل متزايد، لا سيّما في منصّات الإنترنت ووسائله المختلفة.
وبالتالي، يمكننا القول بأنّ الحركات اليمينية تعمل على استغلال فكرة الخوف على الأرض والمصالح الاقتصادية لتعزيز العنصرية القائمة على اللون والعِرق والدين. في مقال نُشر عام 2000، فحص عالم الاجتماع ميتش باربير عشرات من المظاهر والمنشورات الإعلامية للجماعات اليمينية البيضاء، واكتشف نمطًا من الاعتقادات والإيديولوجيات المصمّمة بعناية فائقة لتقوية شعور الضحية. إذ على ما يبدو فإنّ هذا الشعور هو الطريقة التي تطمئن بها تلك المجموعات نفسها بأنها ليست عنصرية، بل مجرّد ضحية تُعاني أيضًا وتطالب بحقوقها المسلوبة والمعرّضة للخطر.
فمن جهة، ترى الجماعات المعتقدة بتفوّق الأبيض بأنّ قوانين التوازن قُلبت لصالح مجموعات الأقليات، سواء اللاجئين أو المهاجرين أو المسلمين أو غيرهم. وكنتيجة طبيعية، يعتقد اليمينيون البيض أنّهم محرومون من سعيهم للحفاظ على تراثهم وثقافتهم البيضاء، تمامًا كما أنّهم محرومون من العديد من حقوقهم، السياسية والاقتصادية، التي قلّصها وجود المجموعات الأخرى.
وجدت دراسة أنّ اليمينيّين أقل تعاطفًا من غيرهم حين يتعلّق الأمر بالشعور مع الأقليات واحترام وجودهم كأشخاص من لحمٍ ودمٍ لهم حياتهم الخاصة بهم بكلّ ما فيها من تفاصيل وأحداث
علاوةً على ذلك، يُشير باربير في مقاله إلى أنّ تلك الجماعات المتشدّدة تشعر بوصمة عار دومًا في حال تعبيرها عن تفوّقها وتعصّبها، ما ينعكس في أشكالٍ من الهواجس الثقافية والأسطورية التي تحاول وتسعى إلى استعادة زمانٍ مضى حيث كانت فيه “الأرض بيضاء” بشكلٍ كامل. كما يُشير بيربير إلى أنّ عدم القدرة على التعبير عن الفخر الأبيض ينتج شعورًا لدى الفرد بأنه “محطّم” وأنّ روحه معرّضة للقمع والمحو والزوال. وبكلماتٍ أخرى، ينشأ الرجل الأبيض وهو ينمّي شعوره بأنه ضحية، وهو ما تعمل عليه الأحزاب والجماعات السياسية اليمينية التي تتخذ من ذلك آليةً نفسية قوية لتجنيد الأعضاء وتحشيدهم حول القضية.
ثالوث الظلام: صفات تحكم اليمينيّين
من جهةٍ ثانية، تخبرنا الأبحاث أنّ سمات الشخصية العدوانية وسمات ثالوث الظلام: النرجسية والمكيافيلية والاعتلال النفسي، وهي السمة التي يحدّدها كلٌّ من الاضطرابات المعادية للمجتمع وانعدام التعاطف، تكون أكثر بروزًا بين المتعصّبين الذين ينتمون إلى جماعات اليمين المتطرّف أكثر من بقيّة الناس.
اليمينيّون يميلون أكثر من غيرهم في تطوير سمات الثالوث المُظلم للشخصية: النرجسية والمكيافيلية والاعتلال النفسي
وقد أشارت واحدة من الدراسات على سبيل المثال أنّ اليمينيّين عادة ما يكونون أكثر مكيافيلية، أو على استعداد للتلاعب بالآخرين لتحقيق مكاسبهم الخاصة. وهم أيضًا أكثر نرجسية من غير اليمينيّين. بالإضافة إلى ذلك، هم أقل تعاطفًا من غيرهم حين يتعلّق الأمر بالشعور مع الأقليات واحترام وجودهم كأشخاص من لحمٍ ودمٍ لهم حياتهم الخاصة بهم بكلّ ما فيها من تفاصيل وأحداث، فهم على استعدادٍ لتجريد غيرهم من المجموعات الأخرى من إنسانيّتها إلى حدٍ كبير.
إضافةً لذلك، فإنّ جزءًا كبيرًا من هذه العنصرية قائم على أساس الدين، وهو ما أكّد عليه القاتل حين عبّر عن خوفه على مسيحيّة أوروبا من الإسلام والمسلمين. ما يعني أنّ هذه الاعتقادات ليست وليدة الأزمة الاقتصادية في السنوات الأخيرة وحسب، بل تعود إلى قرونٍ سابقة طوال تاريخ العالم، حيث تؤمن المسيحية بفكرة المخلّص الوحيد للإنسان، وهي نفس الفكرة التي تؤمن بها الأحزاب اليمينية بوصفها المخلّص والمنقذ الوحيد لأوروبا. وهذا ما عبّر عنه القاتل في المانيفستو الذي نشره أيضًا.
ما يعني أنّ الأحزاب اليمينية تعمل من خلال أيديولوجيّاتها الممنهجة بوعيٍ تامٍ ومدروسٍ على تنمية شعور الضحية لدى الأوروبيّين، تلك الضحية التي تخشى على مصالحها من قدوم “الأجانب” الآخذين بالتزايد والتكاثر، فيخشون على اقتصادهم وأرضهم ودينهم وينادون بالعودة إلى قرونٍ خلت حيث كانت أوروبا قومية بهوية ثقافية واحدة قائمة على العِرق الأبيض والدين المسيحيّ، دون أن يعوا أبدًا أنّ هذه الأيديولوجيات والمعتقدات تُحيد النظر عن الصورة الكاملة وعن الأسباب الجوهرية الحقيقية وراء الأزمات الاقتصادية أو وراء مساعي السياسيّين في السيطرة والتمدّد وحشد الأصوات والناخبين من حولهم.