ترجمة حفصة جودة
في إحدى ليالي القاهرة الباردة كانت فرقة “أراغيد” النوبية تتجه إلى المسرح، وسرعان ما نسى الجميع البرد، فمع أول أغنية أحس الجمهور المتحمس بالدفء وبدأوا بالتفاعل مع الأغنية فصفقوا على إيقاع الألحان ورقصوا على دقات الطبول.
تشير كلمة أراغيد في اللغة النوبية إلى الفرح، وتعد الفرقة من آخر الجماعات المتبقية في مصر التي تحاول إحياء فن الغناء المميز بلغة “فاديجا” النوبية، وتعتبر المجموعة من الفرق النشطة القليلة التي تعزف الموسيقى التقليدية للنوبة القديمة التي تعتمد فقط على اثنين من الآلات: الأولى أصوات المغنيين في الفرقة، والآلة الثانية هي “الدف”.
يعكس اسم الفرقة – الذي يعني الفرح – مشاعر وروح الجمهور الذي نادرًا ما يتوقف عن التصفيق في أثناء أداء الفرقة، ويشير الاسم كذلك إلى الموسيقى التي يلعبونها خلال حفلات الزفاف التقليدية لقبيلة “فاديجا”.
يقول الدكتور مصطفى عبد القادر الباحث في التراث النوبي: “أراغيد هو فن الرقص النوبي الذي يؤدونه في حفلات الزفاف والمهرجانات المحلية”، أما التصفيق بحماس والصوت القوي لقائد الفرقة ومؤسسها فرح المصري وهو يضرب الدف ويتمايل مع الإيقاع يعبر عن المزاج العام للعرض.
تقوم الفرقة بأداء عروضها وهي ترتدي “الجلابيات” وهو الرداء التقليدي للنوبة، بينما يرتدي بعضهم ومن بينهم المصري الزي النوبي التقليدي الكامل وكذلك العمامة النوبية، ويصاحب أصواتهم في أثناء الغناء ضربات الدف فقط.
تخلق موسيقى أراغيد نوعًا من الاتحاد بين الفرقة والجمهور
يقول المصري: “نحن نحاكي تقليد أراغيد النوبي حيث نغني فقط باستخدام الدف ولا نستخدم أي آلات موسيقية أخرى، وتجمع أغانينا بين أغاني التراث والأغاني التي كتبها شعراء النوبة القدامي والمعاصرون”.
يملك المصري شاربًا ووجهًا جميلاً لا يشيخ، وهو يرفض أن يقول كم يبلغ من العمر، حيث يعتقد في الخرافة التي تقول إن ذلك يجلب الحظ السيء أو العين الشريرة، ويقول المصري: “يكفي أن أخبركم أنني أغني منذ كنت في الثامنة من عمري وقد سافرت إلى القاهرة وبدأت أمتهن الغناء في الثمانينيات”، يضيف المصري: “اسمي الحقيقي محمد، لكن الناس في قريتي بالنوبة يطلقون عليّ فرح لأنني أحب الغناء كثيرًا وأغني طول الوقت في جميع مناسباتنا”.
موسيقى مميزة
تعد الموسيقى النوبية مميزة عن باقي أساليب الغناء المصرية، حيث تستخدم الإيقاع الخماسي (السلم الموسيقي الخماسي)، طبول ثقيلة وإيقاع سريع يجعل الموسيقى النوبية مثيرة واحتفالية ومبهجة، وتعتبر الترنيمات المتكررة الأكثر استخدامًا في الأغاني النوبية.
يقول عبد القادر: “تُعرف الموسيقى النوبية بإيقاعها الإفريقي الذي عادة ما يدفع أي شخص يستمع إليه إلى الرقص”، وعادة ما يشارك الحضور في أداء أراغيد وذلك بالرقص مع الفرقة مما يخلق شعورًا بالاتحاد.
يقول المصري: “الأراغيد أسلوب حياة وهو أكثر من مجرد فن، فحياتنا كلها في النوبة عبارة عن أراغيد، الغناء والرقص جزء من هويتنا، نحن نغني للحب والرحمة ولموسم الحصاد ولنهر النيل”.
يمثل جمهور أراغيد أعمار وجنسيات مختلفة، يقول أحمد حسن – مدرس 50 عامًا -: “لا أستطيع فهم اللغة النوبية، لكنني أشعر أن الأغاني ملهمة ومليئة بالفرح، لا أستطيع أن أشرح ذلك لكن هذا ما أشعر به تجاهها”، تتفق نانسي هال – بريطانية 29 عامًا – مع وجهة نظر حسن حيث تقول: “أشعر أن قلبي يرقص مع الإيقاع”.
يقف فرح المصري في المنتصف بعمامته وهو يضرب على الدف ويغني بينما يصفق ويرقص الآخرون
تعمل الفرقة بانتظام في المركز المصري للثقافة والفنون أو في مركز “مكان”، وتغني دون استخدام أي مكبرات صوت أو نظام صوتي، مما يضفي الطبيعة والأصالة على عروض الفرقة، يقول المصري: “يستخدم المغنيون اليوم الأنظمة الصوتية في عصر التكنولوجيا، لكن التحدي الذي نمثله هو أننا نغني مباشرة دون أي أدوات أو معدات صوتية ولا نستخدم حتى مكبرات الصوت”.
منذ أن تأسست فرقة “أراغيد” عام 2003 قامت بأداء عروضها في بلجيكا وألمانيا واليابان وعدد من دول الخليج.
التراث في خطر
يتعرض التراث النوبي لخطر الموت لأن النوبيين الذين تقل أعمارهم عن 60 عامًا نسوا الأغاني القديمة، أما هؤلاء الذين يتذكرونها فما عادوا يتغنون بها الآن، يقول المصري: “نحن الفرقة الوحيد الباقية التي تغني أغاني أراغيد، إننا نحاول الحفاظ على هذا الفن لكنها مهمة صعبة”.
ويضيف المصري: “لا تعرف الأجيال الصغيرة تلك الأغاني لأنها ليست مكتوبة، لكنها تنتقل شفاهيًا بين الأجيال، فابني مثلاً لا يسمع اللغة النوبية إلا في المنزل لأننا نعيش في القاهرة فلا يمكنه أن يسمعها في أي مكان آخر”.
مهمشون في وطنهم
يقول المصري إن الفن النوبي مهمش في مصر والدعم الرسمي للموسيقى يديره أشخاص لا يفهمون في تلك الموسيقى أو يعرفون ثقافتنا، ويضيف: “لم يخصص مسؤولو الدولة المشاريع والمبادرات القليلة التي من المفترض أن تقوم بها مع أهل النوبة الحقيقيين الذين يعرفون فننا وثقافتنا، هؤلاء المسؤولون لا علاقة لهم بالنوبة”.
ويتحدث المصري عن القنوات الفضائية المصرية التي تستهدف سكان صعيد مصر قائلاً: “عادة ما تتجاهل وسائل الإعلام المصرية الفنانين النوبيين، فنادرًا ما يستضيف المذيعون المصريون مغنيين من النوبة أو تقدم بثًا مباشرًا لعروضهم التي يقدمونها على شبكة طيبة في أسوان”.
فرح المصري يضرب على الدف
يقول علاء – ابن فرح المصري وأحد أعضاء فرقة أراغيد الموسيقية – إن الروابط ضعيفة بين المصريين والموسيقى النوبية، ويضيف: “يتعلق الأمر بالاختلافات الثقافية، فالناس يشعرون أن لغتنا صعبة الفهم، ومن الناحية الموسيقية فهم ليسوا معتادين على الإيقاع الخماسي عدا سكان الصعيد”.
تعد النوبة منطقة مصرية وهي تقع على طول نهر النيل وتضم المنطقة بين أسوان في جنوب مصر وحتى الخرطوم في وسط السودان، وتتميز النوبة بطقوس وتقاليد قبيلتي “كنوز” و”فاديجا” ويمثلان أيضًا اثنين من أهم لغات النوبة.
تجربة صعبة
تسبب بناء السد العالي عام 1963 في غرق أراضي النوبة بالكامل، مما جمع بين مجموعات مختلفة من النوبيين معًا كمنفيين دائمين من أوطانهم وعُرفوا باسم “مجتمعات الذاكرة”.
يقول عبد القادر: “تأثرت عادات النوبة بالتجربة المؤلمة للنزوح والبُعد عن بيئتهم الطبيعية التي كانت ملهمًا رئيسيًا في ثقافتهم الموسيقية”، يتفق المصري مع هذا الرأي حيث يقول: “لقد وجد النوبيون أنفسهم فجأة يعيشون في الجبال بدلًا من حياتهم القديمة التي كانت تحيط بها المشاهد الطبيعية، مما كان له تأثيرًا سلبيًا على فنونهم”.
عندما يصل الأداء إلى ذروته ويمتزج أعضاء الفرقة مع الحضور في الرقص معًا في ذلك المكان الدافئ، تشعر وكأن هذا المكان الصغير في القاهرة قطعة حية من النوبة.
المصدر: ميدل إيست آي