لا تزال أصداء مذبحة مسجدي كرايست تشيرش بنيوزيلندا، الجمعة الماضية، التي أودت بحياة 50 مسلمًا ومثلهم من المصابين، تخيم على الأجواء بصورة كبيرة، لا سيما بين أوساط الجالية الإسلامية التي باتت تتحسس خطواتها خشية وقوع المزيد من تلك الجرائم في ظل تنامي خطاب الكراهية الذي فرض نفسه مع صعود اليمين المتطرف.
تنديد محلي وإقليمي ودولي واسع النطاق جراء هذا العمل الإرهابي الذي ربما ينسف نموذج نيوزيلندا الديمقراطي الهادئ المستقر الذي طالما كان مثلاً يحتذى به في قبول الآخر والتسامح وغياب التعصب، الأمر الذي ربما يفسر حالة الهلع التي أصابت الشارع النيوزيلندي بكل أطيافه الـ48 ساعة الماضية.
حادثة كهذه لا بد وألا تمر مرور الكرام، دون توظيفها بالشكل الملائم لتصحيح حزمة المفاهيم الخاطئة عن الإسلام والمسلمين التي لاقت أرضًا خصبة للنمو في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 وصعود اليمين المتطرف الذي تعزز بشكل أكبر خلال السنوات الستة الأخيرة مع موجات الهجرة لأوروبا.
اعتاد المسلمون مع كل عمل إرهابي الوقوف داخل قفص الاتهام، مطالبون بالدفاع عن أنفسهم وتبرئة ساحتهم من الجرائم الإرهابية التي لا تمت للإسلام بصلة، ومع ذلك كانت هوية منفذ العمل هي ما تحدد طبيعة التعامل مع الجريمة خاصة إن كان مسلمًا، لذا فإن مذبحة مسجدي نيوزيلندا رغم ما تحمله من آلام وجراح، من الممكن أن تعيد للمسلمين في الغرب بعض مكتسباتهم المفقودة طول السنوات الماضية وأن تصحح الكثير من المعتقدات المغلوطة التي تم التسويق لها وفق أجندة عنصرية تعزز ثقافة الكراهية للمسلمين.. فكيف يكون ذلك؟
98% من الجرائم الإرهابية نفذها غير مسلمين
المتابع لخريطة الجرائم الإرهابية التي ارتكبت في أوروبا وأمريكا خلال السنوات الأخيرة يجد أن الغالبية العظمى منها قام بها غير مسلمين، ففي دراسة نشرها موقع “ديلي بيست” الأمريكي، كشف أن 98% من جرائم الإرهاب في أوروبا و94% في أمريكا منفذوها ليسوا مسلمين.
الدراسة التي أعدها مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، ورصدت جرائم الإرهاب الذي ارتُكب على الأراضي الأمريكية بين عامي 1980 و2005، كشفت أن 94% من الهجمات الإرهابية ارتُكبت على يد غير المسلمين، 42% منها من المجموعات ذات الصلة باللاتينيين، و24% من الجماعة اليسارية المتطرفة و16% آخرون خارج الفئات الرئيسة الأخرى و7% من الإرهابيين اليهود و6% من الإرهابيين المسلمين و5% من الإرهابيين الشيوعيين.
الهجمات الإرهابية التي ينفذها مسلمون تحظى بتغطية إعلامية تزيد بنسبة 357% عن تلك الهجمات التي ترتكبها مجموعات أخرى
وفي دراسة أخرى لجامعة ولاية كارولينا الشمالية عام 2014، أشارت إلى أنه منذ هجمات 9/11، لم يؤد الإرهاب المرتبط بالمسلمين إلا لمقتل 37 من الأمريكيين، في حين أن 190 ألف أمريكي قتلوا في تلك الفترة الزمنية نفسها، حيث تعرضت الولايات المتحدة في غضون الـ25 عامًا الأخيرة إلى 318 حادثًا إرهابيًا.
وفي تقريرها الصادر في 2014 توصلت هيئة “يوروبول”، وهي وكالة إنفاذ القانون في الاتحاد الأوروبي، أن الغالبية العظمى من الهجمات الإرهابية في أوروبا ارتُكبت من الجماعات الانفصالية، وعلى سبيل المثال، كان هناك 152 هجومًا إرهابيًا في أوروبا عام 2013، ولكن كانت “الدوافع الدينية” وراء هجمتين فقط من هذه الهجمات، مقابل 84 عملية إرهابية بسبب المعتقدات العرقية أو القومية أو الانفصالية.
ومن أكثر الجرائم الإرهابية حضورًا على خريطة أوروبا خلال الأعوام الماضية التي جسدت العنصرية الأوروبية في أوج صورتها مقتل 77 شخصًا في النرويج على أيدي السفاح أندرس بريفيك “ذبحًا” لتعزيز أجندته المعادية للمسلمين وللمهاجرين، والموالية لـ”أوروبا المسيحية”، كما ذكر هو نفسه.
تعاطف كبير مع ضحايا المذبحة
شيطنة المسلمين
السؤال الأكثر حضورًا الآن: هل يتم التعامل مع العملية الإرهابية التي يكون منفذها مسلم كغيرها من الجرائم الأخرى التي ربما تفوقها قسوة وشراسة لكن مرتكبها غير مسلم؟ بالطبع الإجابة لا تحتاج إلى عناء التفكير، فهي أبلغ وضوحًا من التوضيح، ولعل مذبحة نيوزيلندا الأخيرة تجسد هذا الواقع بصورة كبيرة.
مع كل حادثة يرتكبها مسلم تخرج وسائل الإعلام الغربية لتعزف مجددًا على وتر “الإرهاب الإسلامي” وإلصاق العنف والإرهاب بكل ما هو مسلم، حتى إن كانت دوافع الجريمة لا علاقة لها بالمعتقد الديني من الأساس، لكن حين يكون المجرم غير مسلم أو مسيحي على وجه الخصوص، تذهب التغطية إلى آفاق أخرى، كالخلل العقلي والانتماء لليمين المتطرف وغير ذلك من المسميات التي تتجنب ذكر ديانة مرتكب الحادث، وهذا ما حدث بالفعل مع الإرهابي الأسترالي برينتون تارانت، بطل مذبحة مسجدي كرايست تشيرش.
في دراسة بحثية نشرتها “جاستس كوارترلي” أثبتت أن الهجمات الإرهابية التي ينفذها مسلمون تحظى بتغطية إعلامية تزيد بنسبة 357% عن تلك الهجمات التي ترتكبها مجموعات أخرى، فيما أوضحت الباحثة أنا فيرالا في مقال لها على موقع جامعة جورجيا الأمريكية أن الدراسة وجدت أن هوية مرتكب الجرم تؤثر بشكل رئيسي على التغطية الإخبارية لأي هجوم إرهابي، إلى جانب عوامل أخرى ولكن بدرجة أقل.
الزخم الذي أحدثته مذبحة الجمعة لابد أن يتم استغلاله بشكل أو بآخر، فجريمة بهذا الحجم وفي هذا التوقيت لا يجب أن تعبر هكذا دون التوقف عندها ودراستها وبحث أوجه الاستفادة منها بما يحول دون تكرارها مرة أخرى
معدو الدراسة أشاروا إلى أنه في الولايات المتحدة، “يميل الناس إلى الخوف من الإرهابي المسلم، بينما يتجاهلون تهديدات أخرى”، فيما قالت أليسون بيتوس، وهي زميلة مديرة في مبادرة “الصراع بين الثقافات والتطرف العنيف”: “ما يثير الدهشة بشكل خاص هو الكم الهائل من التغطية الممنوحة لحفنة صغيرة من الإرهابيين المحليين الذين كانوا مسلمين ومن خارج الولايات المتحدة، لقد استأثرت هذه الأقلية الصغيرة من مجموعة البيانات بقدر كبير جدًا من التغطية”.
وخلص الباحثون إلى أن “هذه أول دراسة تبحث على وجه التحديد في كيفية تأثير الجاني على التغطية عبر نطاق واسع من قضايا الإرهاب، وهي تسلط الضوء على عدم المساواة في التغطية الإعلامية في العصر الرقمي بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية”، وأضافوا أن هذا الاختلال يمكن أن يخلق تصورات خاطئة عن انتشار الهجمات والوقوع في التحيز والتمييز.
مسيرات تندد بالعنصرية ضد المسلمين في لندن
لن يمر مرور الكرام
الزخم الذي أحدثته مذبحة الجمعة لا بد أن يتم استغلاله بشكل أو بآخر، فجريمة بهذا الحجم وفي هذا التوقيت لا يجب أن تعبر هكذا دون التوقف عندها ودراستها وبحث أوجه الاستفادة منها بما يحول دون تكرارها مرة أخرى، هذا ما أشار إليه أسامة الهتيمى الباحث في الشؤون الإسلامية الذي أكد أن “هذه الجريمة الشنعاء التي جرت بحق المصليين المسالمين سيكون لها تداعياتها السياسية والإعلامية الكبيرة التي ستشكل في نهاية الأمر زخمًا نادرًا ما يكون في صالح المسلمين”.
الهتيمي في حديثه لـ”نون بوست” شدد على ضرورة استخدام هذا الزخم وتوظيفه للرد على كل حملات التشويه التي جرت بحق الإسلام والمسلمين طيلة السنوات الماضية خاصة تلك التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 حيث تفجير برجي التجارة العالمية في أمريكا التي أعقبها قيام أمريكا بغزو كل من أفغانستان 2001 والعراق 2003″.
وعن كيفية توظيف الجريمة، يرى الباحث في الشؤون الإسلامية أن الأمر يحتاج إلى جهد كثير على المستويين السياسي والإعلامي حيث ضغط اللوبيات العربية والإسلامية الموجودة في بلدان الغرب من أجل سن قوانين وتشريعات تجرم الاعتداء أو حتى إبداء مظاهر عنصرية وتمييزية بحق المسلمين والتأكيد على أن الإرهاب والعنف والتطرف ليست ظواهر إسلامية خالصة وإنما ظواهر بشرية تتصاعد وتتنامى وفق ظروف وملابسات خاصة.
وجود بعض التنظيمات المتطرفة والعنيفة المحسوبة على الإسلام كتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ساهم بشكل كبير في بلورة المتبنين لظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب آليات عدائية مشابهة لتلك التي اتبعتها هذه التنظيمات
وتابع “في اعتقادي الموقف العدائي من الإسلام والمسلمين في الغرب هو ظاهرة لها ديمومتها واستمراريتها وإن خفت صوت هؤلاء المتطرفين في بعض الحقب الزمنية لاعتبارات داخلية في الغرب أو أن هذا العداء اتخذ أشكالاً أخرى تجاهلنا بقصد أو دون قصد اعتبارها أشكالاً من العداء، حيث تمثل ذلك في الاحتلال الغربي للكثير من البلدان العربية والإسلامية لفترات زمنية طويلة مارس خلالها كل أنواع الانتهاكات بحق الإسلام والمسلمين”.
وفي سياق متصل فإن وجود بعض التنظيمات المتطرفة والعنيفة والمحسوبة على الإسلام كتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ساهم بشكل كبير في بلورة المتبنين لظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب آليات عدائية مشابهة لتلك التي اتبعتها هذه التنظيمات فلم تعد تكفيهم سياسات أنظمتهم التي كانوا يجدون فيها الكفاية كونها كانت تمارس حالة من الهيمنة على البلدان الإسلامية إذ رأوا أن تلك الهمينة لم تمنع من وصول أيادي التنظيمات الإسلامية لهم سواء في البلدان الإسلامية أم حتى في عقر ديارهم وهو ما استلزم أن يكون لهؤلاء ردود فعل تشبه إلى حد كبير سلوك تلك التنظيمات، هكذا أضاف الهتيمي الذي اختتم حديثه بالمطالبة بتأسيس مركز لرصد عمليات الإرهاب والتمييز ومظاهر العداء بحق الإسلام والمسلمين في مختلف دول العالم، على غرار المراكز الأخرى التي تتربص بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
رب ضارة نافعة، فرغم الخسائر التي مني بها المسلمون جراء هذه الجريمة التي خيمت الحزن على عشرات العائلات والأسر، فإنها ربما تكون فرصة جيدة – حال تم توظيفها بشكل مدروس – لمعالجة أوجه القصور السياسي والإعلامي والعقدي بشأن نظرة الغرب للمسلمين، وإن كان هذا يتوقف على مدى قدرة حكومات المسلمين وآلاتهم الإعلامية على استغلال الجريمة والتعامل معها بحنكة وذكاء.