في صباح يوم مجزرة نيوزيلندا، ضجت صفحات التواصل الاجتماعي بصور وفيديوهات الهجوم الإرهابي الذي نفذه الأسترالي براندون تارانت، على مسجدين في مدينة كرايست تشيرش، ورغم محاولة معظم المواقع الافتراضية لوقف انتشار الفيديو، مثل فيسبوك الذي أزال 1.5 مليون مقطع للهجوم وحظر 1.2 مليون منها عند مرحلة التحميل، فإنها فشلت في وقف تداول النسخ والمقاطع المجتزئة.
وما فاجأ العالم بشكل أكبر من العملية نفسها، هو تصميمها وكأنها مشهد من لعبة إلكترونية خيالية، إلا أن صوت الصراخ ولون الدماء، نبه العالم إلى واقعية وجدية هذه “اللعبة” المتطرفة في وحشيتها وعنصريتها، التي سرقت أرواح 50 شخصًا من المسلمين، ما دفعنا للتساؤل عن أسباب استعراض تارانت جريمته بهذه الطريقة.
“الجرائم الاستعراضية”.. حلقة جديدة من الانحراف
لطالما، فضل مرتكبو الجرائم إخفاء أفعالهم وهوياتهم، ولكن في القرن الواحد والعشرين وفي عالم وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح المجرمون يتنافسون في إظهار واستعراض جرائمهم، إذ نلاحظ عدد الأعمال غير القانونية التي تم تسجيلها وتوثيقها افتراضيًا في الآونة الأخيرة، مثل الاعتداءات الجنسية والجسدية وحالات الانتحار والسطو وغيرها من الأفعال التي تخدش الحياء العام والقانون.
وهو ما صادفناه في مذبحة نيوزيلندا، التي فسرها أستاذ في قسم العدالة الجنائية بجامعة سنترال فلوريدا، راي سوريت، بأنها تمثيل لـ”الجرائم الاستعراضية” التي تعرف بالأفعال غير القانونية التي لا تهدف فقط إلى إيذاء الضحية أو القضاء على هدف ما، وإنما تسعى أيضًا للوصول إلى جمهور معين، وهو التكتيك الأكثر شيوعًا بين الجماعات الإرهابية والمتظاهرين السياسيين الذين يحاولون عادةً لفت الأنظار إلى مبادئهم السياسية، ولكن الآن، لم تعد هذه الأداة مقتصرة عليهم فقط.
فوفقًا لسوريت، فإن العوامل في تطور جريمة الأداء تشمل ظهور ثقافة المشاهير في القرن العشرين، وتمتد إلى مجرمي المشاهير الذين سعوا خلف الشهرة عن طريق الإجرام. في جانب آخر، يزعم سوريت أن انجذاب الناس إلى هذا النوع من الجرائم الاستعراضية يضفي عليها شرعية ويجعلها مقبولة اجتماعيًا بالنسبة إلى الجاني، أما الأكثر إثارة للقلق في هذا الجانب هو أنه قد يكون لها نفس التأثير على الجمهور.
كيف تروج “الجرائم الاستعراضية” للإرهاب وتحرض على العنف؟
في هذا الخصوص، رأى بعض الخبراء أن منصات التواصل الاجتماعي ساهمت بشكل ما في ظهور ظاهرة هذا النوع من الجرائم الاستعراضية التي تنمو بشكل ملحوظ ومستمر في البيئة التي توفرها السوشيال ميديا، إذ يقول المحرر في مجلة “الدراسات النقدية حول الإرهاب” لي جارفيس، إن شبكة الإنترنت وفرت للأشخاص الذين لديهم معتقدات مخالفة للأغلبية، مساحة واسعة للتواصل مع غيرهم ممن يشبهونهم بالأفكار، ويضيف “من المرجح أن تدفع تجمعات الأشخاص القلائل الذين لديهم أفكار متشابهة إلى خلق شعور عام وعميق بشرعية وانتشار أفكارهم، أكثر مما هو عليه في الواقع”.
ما يعني أن هذه المنصات تستقطب أصحاب الفكر والمبدأ المشترك في دائرة واحدة وتشجعهم على التحيز لمواقفهم افتراضيًا، وبالتالي قد تتعزز هذه الأفكار وتتحول لاحقًا إلى أفعال حقيقية، فمنذ عامين نشر خبيران من خبراء الأمن القومي، بيتر وارين سينغر وإيمرسون تي بروكينغز، تقريرًا بعنوان “War Goes Viral”، ويشيران في المقال أن منصات الإعلام الافتراضية تشجع الأفكار الصامتة أو المشاعر النائمة – الإيجابية والسلبية – على الظهور إلى العلن، فقد وجد باحثون أن سلوك الناس الرقمي يهيمن عليه نزعة “الهموفيليا” وهو مصطلح في علم الاجتماع يصف ميل الشخص إلى تكوين علاقات وروابط مع الأشخاص المتشابهين معه بالقيم أو المعتقدات، وفي المقابل، يدفعه إلى الابتعاد عن الغرباء أو الأشخاص الذين ينتمون إلى خلفيات مختلفة عنه.
وبهذا، استنتج الباحثون بأن الشبكات الاجتماعية لا تساعد المستخدمين على التعاطف مع الأشخاص المختلفين عنهم، وإنما تؤسس لهم أرضية مناسبة لتعزيز أفكارهم المتحيزة والمتعصبة ضد الجماعات الأخرى، ولا داعي للذكر أن هذه التجمعات الرقمية تتحول تدريجيًا إلى دوائر فاعلة على أرض الواقع أي أنها تترجم هذه الأفكار إلى أفعال عنصرية.
ويمكن ملاحظة ذلك من خلال عشرات الفيديوهات التي انتشرت عن العنصرية ضد المسلمين والسود أو المهاجرين في أمريكا، وهي مقاطع انتشرت بشكل واسع دون الاعتماد على صحيفة أو وكالة إعلامية مشهورة، فكل ما احتاجه الأمر هو شخص بأفكار عنصرية وبيئة خصبة قابلة لامتصاص هذه السلوكيات وتبادلها مع جمهور مماثل، وهذا ما يفسر تفشي هذه الظاهرة بشكل منتظم على أرض الواقع.
نظر الباحثون في بيانات حوادث إطلاق النار الجماعي ووجدوا أنه بعد انتهاء هذه الحوادث، كان من المرجح أن يكون هناك حدث آخر خلال أسبوعين من وقوع الحادثة الأولى.
اتضحت هذه الإستراتيجية، عندما نشر أحد مستخدمي منتدى “8 تشان” غير القانوني والخاص باليمنيين المتطرفين روابط لصفحة فيسبوك الخاصة بمرتكب مذبحة نيوزيلندا وأعلن أنه سوف يظهر في بث حي، وذلك قبل الهجوم الإرهابي بـ10 أو 20 دقيقة، ما يعني بكلمات أخرى، أن هذا المنتدى كان البيئة الافتراضية التي أسست وشجعت الإرهابي بارانت على تنفيذ جريمته على أرض الواقع.
وهو ما يقلق الخبراء الذين يشيرون إلى خطورة هذه المنصات في هذا الجانب، التي تصاحبها تغطية استعراضية للجرائم، فقد تساهم هذه الطريقة في زيادة عدد الجرائم من خلال التقليد، ففي دراسة أجريت عام 2015، نظر الباحثون في بيانات حوادث إطلاق النار الجماعي ووجدوا أنه بعد انتهاء هذه الحوادث، كان من المرجح أن يكون هناك حدث آخر خلال أسبوعين من وقوع الحادثة الأولى.
رغبة الجاني في السيطرة على الموقف ومحاربة مشاعر العجز وتعزيز شعور الفرد بالقوة والفعالية، وقد يسعى المجرم أيضًا إلى تحقيق نوع من الشهرة حتى لو كانت تلك السمعة أسوأ ما يمكن الوصول إليه
يضاف إلى ذلك ما أكدته جمعية علم النفس الأمريكية لعام 2016، حين حدد باحثون من جامعة غرب نيو مكسيكو نتائج مماثلة، ووجدوا أنه عندما كان هناك العديد من التغريدات والإشارات على موقع تويتر عن حالات إطلاق النار الجماعي، زادت فرص حدوث حالات مماثلة في الأيام القليلة المقبلة، كما بين الخبراء أن “معظم الجناة يرغبون في الشهرة ويتمنون محاكاة جرائم المجرمين السابقين”.
يفسر مدير مركز نيويورك لعلم النفس العصبي، نفتالي بيريل، هذه الأمنية بكونها رغبة الجاني في السيطرة على الموقف ومحاربة مشاعر العجز وتعزيز شعور الفرد بالقوة والفعالية، وقد يسعى المجرم أيضًا إلى تحقيق نوع من الشهرة حتى لو كانت تلك السمعة أسوأ ما يمكن الوصول إليه، ولكنها تشعره بالعلو وتعرف العالم بقوته وقدرته على أخذ حياة شخص ما بأكثر الطرق سخافة، بحسب قوله.
وتبعًا لذلك، اعتبرت المفوضية الأوروبية هذا النوع من الاستعراض كجزء من الدعاية الإرهابية التي تسعى لكسب التأييد والانتباه من أكبر عدد ممكن من الجمهور المشاهد وتحويل مواقفهم السلبية إلى نشاطات فعالة، ترفع من معدل الجرائم التي تلزم أنظمة العدالة الجنائية في جميع أنحاء العالم بإيجاد حل لهذه الظاهرة التي لم تستطع شركات التكنولوجيا، إلى الآن، أن تضع حد لها، ولا سيما أن خوارزمياتها أخفقت في مذبحة نيوزيلندا الأخيرة في التفريق بين المحتوى الإرهابي والألعاب الخيالية، وما يستقضي تدخل بشري لإنقاذ العالم من الحوادث المحتملة.