كتب الفيلسوف والديموغرافي توماس مالتوس، نظرية شهيرة في كتاب نشره لأول مرة عام 1798، يحمل عنوان “مقالة حول مبدأ السكان”، وقال: “وتيرة التكاثر السكاني أعلى من قدرة الأرض على إنتاج موارد وكميات غذائية للاستهلاك الكفاف”، ورأى أن التكاثر سيقودنا في نهاية الطريق إلى زيادة عدد سكان الكوكب الذين سوف يتنازعون على موارده، ما سيؤدي إلى بروز ظواهر مجتمعية كالتشرد والسرقة والتسول، وبالتالي سينتهي المطاف بهم في مجاعة جماعية نتيجة لاختلال التوازن بين عدد السكان والموارد الغذائية، متأثرًا بثورة الجياع في باريس ولندن.
ومنذ أواخر القرن الثامن عشر، أثارت هذه النظرية المتشائمة، العديد من الهواجس بشأن القدرة الاستيعابية للأرض على احتواء هذا النمو الذي يصاحبه استغلال واستنزاف مستمر للمحاصيل والمخزونات والمراعي، والآن مع مرور عدة قرون على هذه النظرية ونمو وتيرة التكاثر الديمغرافي بشكل غير مسبوق، نجيب ما إذا كانت الرؤية “المالتوسية” للمستقبل صحيحة أم أنها خرافة علمية.
الاكتظاظ السكاني ليس مشكلتنا الكبرى
في السنوات الأخيرة، تضاعف عدد سكان العالم بما يقرب أربع مرات، وذلك بالتزامن مع زيادة معدلات الإنتاج الغذائي، ولكن في الوقت الحاليّ، تقلص الإنتاج وظل النمو السكاني في ارتفاع متزايد، إذ يزداد العدد بمعدل 83 شخصًا كل عام، أي ما يعادل سكان ألمانيا بالكامل، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا العدد في السنوات المقبلة ليصل إلى 9 مليارات نسمة بحلول عام 2050، و10 مليارات في نهاية القرن الحاليّ.
تشير هذه التقديرات إلى ضرورة حياتية بالغة الأهمية، ففي الوقت الذي سيستمر فيه التطور الديموغرافي، سيزداد معه الحاجة إلى مضاعفة الإنتاج الزراعي 3 مرات خلال الأعوام الـ40 القادمة، وهو ما اختلف العلماء عما إذا كان يمكن بالفعل توفير هذه الكمية من المواد لسد الحاجة البشرية أم لا.
في هذا السياق، قال هؤلاء العلماء، ومنهم عالم الاجتماع بجامعة هارفرد، إدوارد ويلسون، إنه بالفعل يوجد قيود على كمية الغذاء التي يمكن أن تنتجها الأرض حتى في أكثر حالاتها كفاءة، وذلك حين تكرس جميع الحبوب المزروعة لتغذية البشر بدلًا من المواشي، ولو قرر الجميع أن يصبحوا نباتيين، فإن المساحة الحاليّة البالغة 3.5 مليار فدان من الأراضي الصالحة للزراعة تكفي لنحو 10 مليارات شخص فقط.
وأوضح أن هذه المساحة تنتج نحو ملياري طن من الحبوب سنويًا، وهذا يكفي لإطعام 10 مليارات من النباتيين، ولكنه لن يسد حاجة سوى 2.5 مليار من الحيوانات في الولايات المتحدة الأمريكية، لأن الكثير من النباتات مخصصة للمواشي والدواجن في أمريكا، وبمعنى آخر، يوافق ويلسون النظرية المالتوسية في نظرتها للنمو السكاني والانهيار البيئي والمجتمعي.
عدد الأشخاص ليس المشكلة وإنما عدد المستهلكين وطبيعة استهلاكهم، فالعالم لديه ما يكفي لسد احتياجات الجميع ولكن ليس لديه ما يكفي لسد جشع الجميع
في المقابل، يرى أستاذ العلوم الزراعية بجامعة هومبولت هارالد فاتسكه، أن الأرض مؤهلة لإنتاج كمية المواد الغذائية الكافية لكل سكانها، لكن إذا توافرت فقط الشروط المناسبة، ويشير إلى أن 80% من الإنتاج الزراعي في الأعوام الماضية يعود إلى ارتفاع خصوبة التربة، و20% نتيجة لزيادة الأراضي المستخدمة للإنتاج الزراعي، وسيكون الأمر أكثر سهولة، إذا قلص الإنسان من نسب استهلاكه للحوم والمنتجات الحيوانية، لأن قطاع إنتاج المحاصيل الزراعية ينافس عليه الإنسان والحيوان ونباتات الطاقة الخضراء أيضًا.
يؤكد ذلك، عدد آخر من العلماء الذين يرون أن عدد الأشخاص ليس المشكلة وإنما عدد المستهلكين وطبيعة استهلاكهم، فالعالم لديه ما يكفي لسد احتياجات الجميع ولكن ليس لديه ما يكفي لسد جشع الجميع، كما قال غاندي يومًا ما، بالجانب إلى ذلك، يعتقدون أنه من الصعب التنبؤ بعواقب العدد الكبير من السكان لأن العالم يتغير باستمرار وقد يتبنى مع الوقت أساليب حياة مختلفة ويخفف من الضغط على المناخ والموارد وبالتالي يترك بصمة بيئية مختلفة عما يتوقعها العلماء الآن.
أما بالنسبة إلى عالم الأحياء السكانية في جامعة كولومبيا جويل كوهين، فإن هناك عوامل بيئية أخرى تحد من قدرة الأرض على التحمل، بالجانب إلى ندرة الموارد المائية وهي دورة النيتروجين والكميات المتاحة من الفسفور وتركيزات الكربون في الغلاف الجوي، مضيفًا “في الحقيقة، لا أحد يعرف متى أو على أي مستوى سيتم الوصول إلى الذروة السكانية”، علمًا، أنه في الوقت الحاليّ، يتم الاعتماد على 40% فقط من مساحة الأراضي الزراعية.
فوفقًا لتقرير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “الفاو” فإنه يتم استغلال ثلث المناطق الصالحة للإنتاج الزراعي في الدول النامية، وذلك عدا عن الغابات والمستنقعات الاستوائية التي يحظر تحويلها إلى أراضٍ للزراعة.
ليس هناك مشكلة من الأساس!
في ورقة بحثية بعنوان “استدامة الطبيعة”، استنتج الفريق الباحث بأن كوكب الأرض لا يمكنه تحمل سوى 7 مليارات شخص يعيشون بمستويات استهلاك معيشية مختلفة، ورغم أن عدد السكان وصل إلى ما يزيد على 7.6 مليار، فإن تحقيق نمط حياة مرضٍ للجميع يمكن أن يؤثر على التوازن الفيزيائي الحيوي للأرض، ما سيؤدي إلى انهيار بيئي بسبب تجاوز تعدادنا واستهلاكنا القدرة الاستيعابية الثابتة للأرض.
ولتجنب هذه الكارثة البيئية، يشير البحث إلى ضرورة تثبيت عدد سكان العالم عند 9 مليارات، ليبدأ النمو السكاني في مرحلة جديدة من التباطؤ والتقلص، وبكلمات أخرى يعني خفض معدلات الخصوبة، فلطالما ربط العلماء المشكلة السكانية العالمية بخصوبة التربة بنفس القدر الذي ربطوه بخصوبة المرأة وحقوقها، فبحسب تقرير الأمم المتحدة، انخفض معدل الخصوبة للمرأة الواحدة في العالم من 4.7 أطفال في فترة السبعينيات إلى 2.6 في بداية الألفينات.
ليس هناك دلائل علمية تشير إلى محدودية الموارد الطبيعية، وإن كانت كذلك بالفعل، فلقد نجح الإنسان مرات عديدة في تسخير الطبيعة لخدمة احتياجاته وتطلعاته
ولذلك يرى الخبراء أن الطريقة الأسرع لتأمين الأرض من الانهيار، هي تسريع انخفاض معدلات الخصوبة من خلال توفير فرص التعليم والتوظيف ووسائل منع الحمل، فبحسب صندوق السكان، هناك أكثر من 350 مليون امرأة في البلدان الفقيرة لا تريد مولودها الأخير، لكنها لا تملك وسائل منع الحمل، وبذلك تكون قضية استدامة البيئة والطبيعة اعتمدت على حقوق المرأة، فلا شك أن الخصوبة البشرية مصحوبة بالاستهلاك المادي الذي له تأثيراته المختلفة على التنوع الحيوي والبيولوجي للأرض.
ومع ذلك، تخلص نتائج الورقة البحثية إلى أن سن قوانين كهذه على المجتمعات البشرية والتحكم بأنماط استهلاكها، أمرًا غير منطقي، فليس هناك دلائل علمية تشير إلى محدودية الموارد الطبيعية وثباتها، وإن كانت كذلك بالفعل، فلقد نجح الإنسان مرات عديدة في تسخير الطبيعة لخدمة احتياجاته وتطلعاته، وتعتمد طموحاته الأخرى على الاستمرار في هذا النهج أيضًا لسنوات القادمة.