عندما توجه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد علي إلى كلٍ من الرياض وأبو ظبي في مايو/أيار من العام الماضي، اعتقد كثيرٌ من الناس ـ حتى بعض المراقبين ـ أن رئيس الحكومة الإثيوبية المنتخب حديثًا آنذاك اختار التقرب من محور السعودية والإمارات في الصراع الصفري الذي يشهده الشرق الأوسط منذ عامين، الذي اختارت فيه إثيوبيا أن تبقى على الحياد وتدعم الوساطة الكويتية بين طرفي الأزمة قطر من جانب والسعودية والإمارات والبحرين في الجانب المقابل.
ولكن ما كان غائبًا عن كثيرين أن آبي أحمد استبق جولته تلك برسالة خطية إلى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني نقلها وزير الخارجية الإثيوبي ورقنيه قبيهو، لم يكشف عن مضمون الرسالة رسميًا، ولكن متابعات “نون بوست” تشير إلى أنها رسالة طمأنة أراد رئيس الوزراء الشاب تأكيد موقف بلاده الثابت وأنه لن يتغير، وكان اختيار آبي أحمد لوزير خارجيته من أجل إيصال رؤية الزعيم الجديد اختيارًا موفقًا فهو يتمتع بعلاقاتٍ قويةٍ مع الشيخ محمد بن عبد الرحمن نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري.
نجح آبي أحمد في لفت الأنظار بتبنيه سياسات إصلاحية عميقة في المجالين السياسي والاقتصادي، عززت من صورة إثيوبيا لدى المجتمع الدولي
ورغم المحاولات الحثيثة التي قادتها أبو ظبي للسيطرة على رئيس الوزراء الإثيوبي الشاب التي تمثل أبرزها في زيارةٍ مفاجئةٍ قام بها ولي عهد أبو ظبي إلى أديس أبابا أول أيام عيد الفطر الماضي معلنًا خلالها استثمار بلاده 3 مليارات دولار في إثيوبيا منها مليار وديعة مباشرة ومليارين استثمارات متنوعة، فإن أديس أبابا حافظت على علاقات جيدة مع قطر، فلم تنقطع الوفود ولا الاتصالات بين البلدين وهذه إحدى دلائل تميز السياسة الإثيوبية ورؤيتها الواضحة.
الزيارة الأولى لقطر
صباح أول أمس الثلاثاء تزين كورنيش العاصمة القطرية الدوحة بأعلام البلدين قطر وإثيوبيا، للترحيب بالزيارة الأولى إلى قطر للزعيم الثالث في مسيرة حُكم ائتلاف “الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية”، ونجح آبي أحمد في لفت الأنظار بتبنيه سياسات إصلاحية عميقة في المجالين السياسي والاقتصادي، عززت من صورة إثيوبيا لدى المجتمع الدولي، كما نجح في توقيع اتفاق سلام أنهى حالة اللاحرب ولاسلم مع إريتريا، وامتدت إصلاحاته إلى بناء علاقات قوية ومزدهرة مع دول الجوار والاتحاد الأوروبي والخليج بطبيعة الحال.
وربما كان الاتصال الهاتفي الذي جمع بين رئيس الوزراء آبي أحمد وأمير قطر الشيخ تميم أواخر نوفمبر/تشرين الثاني قد مهد لهذه الزيارة، إذ شهدت الفترة التي سبقت مجيء آبي أحمد نموًا واسعًا في العلاقات بين قطر وإثيوبيا تُوج بزيارة للأمير الشيخ تميم إلى أديس أبابا، ثم أعقبها زيارة أخرى لرئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي مريام إلى الدوحة، تم فيها توقيع اتفاقات عديدة تتعلق بتعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري ومنع الازدواج الضريبي بين البلدين، وإعفاء الدبلوماسيين وحملة الجوازات الخاصة من تأشيرات الدخول، كما تم توقيع اتفاقية خاصة بالتعاون الدفاعي بين البلدين.
لم تكن إثيوبيا في عهد آبي أحمد لتفرط في علاقاتها مع دولةٍ مثل قطر بهذه السهولة، فهي ما زالت تسعى إلى استقطاب المزيد من الاستثمارات
إلى جانب تأسيس لجنة وزارية مشتركة أسهمت إلى جانب الاتفاقات المشار إليها في تعزيز العلاقات القطرية – الإثيوبية على المستوى الثنائي، ودعم مستقبل تلك العلاقة الطموحة بين البلدين رسميًا وشعبيًا، ومن خلال تلك الروافد المتعددة للتواصل تطمح الحكومتان إلى التعاون على مستويات أرحب وأكثر ديمومة بما يعزز العلاقات في مختلف مستوياتها وعلى الأصعدة كافة.
ونتذكر هنا أن وسائل الإعلام في الدول المناوئة لقطر خاصة المصرية منها، علقت على الطفرة التي شهدتها العلاقات بين قطر وإثيوبيا معتبرةً أن توقيع هذه الاتفاقات يشكل تهديدًا ومؤامرة على مصر، خاصة فيما يتعلق باتفاق التعاون الدفاعي وزيارة رئيس الأركان القطري غانم بن شاهين إلى إثيوبيا، مع أن الأمر لا يعدو مجرد نوع من أنوع الاتفاقات الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلا شك أنه من حق أي دولة أن تطور علاقاتها الخارجية، ومن حقها توسيع شراكاتها الدولية، دون أن يثير ذلك شكوك المشككين أو حفيظة المتحفظين.
ملتقى استثماري إثيوبي في الدوحة
لكل ما ذكرناه لم تكن إثيوبيا في عهد آبي أحمد لتفرط في علاقاتها مع دولةٍ مثل قطر بهذه السهولة، فهي ما زالت تسعى إلى استقطاب المزيد من الاستثمارات، وعُرف القطريون بجديتهم وذكاء حكومة البلاد في توجيه الموارد المتاحة إلى مكانها الصحيح، واقتصاد إثيوبيا يسجل نموًا متصاعدًا يتوقع البنك الدولي أن يرتفع هذا العام ليصل إلى 8.5% في الفترة من يوليو/تموز 2018 إلى يونيو/حزيران 2019، من 7.5% في السنة المالية السابقة، يمكن أن يكون بيئة مثالية للاستثمارات القطرية.
كما تتطلع إثيوبيا إلى استقطاب رجال الأعمال القطريين ليستثمروا في البلاد، إذ أُقيم خلال يناير/كانون الثاني الماضي ملتقى الاستثمار في إثيوبيا الذي نظمته السفارة الإثيوبية في الدوحة لاستعراض الفرص الاستثمارية في بلادها وبحث علاقات التعاون الاقتصادي والتجاري بين القطاع الخاص في الدولتين، وعرض الجانب الإثيوبي خلال الملتقى الذي ضم عددًا من أصحاب الأعمال الإثيوبيين والقطريين، فرصًا استثمارية أمام رجال الأعمال القطريين في قطاعات الزراعة والتصنيع والخدمات والأدوية والسياحة وغيرها.
الطرفان يدركان أهمية أن يحافظا على علاقاتٍ جيدة، من أجل خدمة مصالح الحكومتين والشعبين، ولهذا حظي رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بحفاوةٍ كبيرة لدى وصوله الدوحة
ومن ناحيتها تهتم قطر بالحفاظ على علاقاتها لتظل ممتازة مع إثيوبيا، الدولة التي تحتضن مقر الاتحاد الإفريقي، وعدد من مقرات اللجان والمؤسسات الأممية الخاصة بالقارة السمراء، كما أن لديها تأثيرًا كبيرًا لدى صناع القرار الغربيين مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وغيرها، هذا إلى جانب موقعها المتميز في منطقة القرن الإفريقي، فلا نبالغ إن قلنا إنها البلد الأكثر قدرة على التأثير في كل دول القارة السمراء.
حفاوة واسعة واستقبال لافت لآبي أحمد في قطر
إذًا الطرفان يدركان أهمية أن يحافظا على علاقاتٍ جيدة، من أجل خدمة مصالح الحكومتين والشعبين، ولهذا حظي رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بحفاوةٍ كبيرة لدى وصوله الدوحة يوم أمس الثلاثاء، فقد أجريت له مراسم استقبال رسمية في الديوان الأميري، ثم عقد أمير قطر وآبي أحمد جلسة مباحثات بحثت العلاقات الثنائية بين البلدين وأوجه تعزيزها في مختلف المجالات، لا سيما في مجالات الاقتصاد والاستثمار والسياحة والبنية التحتية، كما تم تبادل وجهات النظر بشأن مجمل التطورات الإقليمية والدولية.
عقب ذلك زار رئيس الوزراء الإثيوبي متحف الفن الإسلامي، وعقد اجتماعًا مع نظيره القطري الشيخ عبد الله بن ناصر، لم تتوافر تفاصيل كافية عن اللقاءات والموضوعات التي تم التداول بها في “الزيارة غير محددة المدة”، عدا الحديث عن تطوير علاقات التعاون بين البلدين وسبل تنميتها خاصة في مجالات الاقتصاد والاستثمار والسياحة، ولكن واقع الحال يؤكد أن العلاقة مهمة وإستراتيجية للطرفين وتؤسس لمستقبل مشرق.
فشل محاولات إبعاد قطر عن إفريقيا
لا تنفك وسائل الإعلام التابعة لمحور دول الحصار، من محاولة شيطنة قطر وتشويه سمعتها بدعم الإرهاب والتطرف، غير أن ذلك لم يقنع أحدًا لا حكومات الدول المحترمة ولا حتى وسط شعوب العالم وشعوب القارة السمراء بالتحديد، فعندما تسلم آبي أحمد مقاليد الحكم وأعلن رغبته في تحسين العلاقات مع الجارة اللدود “إريتريا”، بادرت الإمارات إلى نسب اتفاق السلام الموقع في أسمرة إلى جهود وساطة قادتها بين آبي أحمد وأسياس أفورقي، ودعا ابن زايد الطرفين إلى قمة ثلاثية في أبو ظبي تم الترويج لها بكثافة، زاعمين أن الإمارات هي التي أنهت حالة الحرب بين البلدين، وللمفارقة عقدت السعودية كذلك لقاءً جمع الطرفين ليتم التوقيع مرة ثالثة على اتفاق السلام بين أديس أبابا وأسمرة.
وقد روجت وسائل إعلام السعودية والإمارات، إلى أن توقيع الاتفاقيْن يشكل نهاية للنفوذ القطري والإيراني في منطقة القرن الإفريقي، زاعمين أن صعود آبي أحمد لمنصب رئيس الحكومة في إثيوبيا يجعلها جزءًا من محور أبو ظبي الرياض.
ولكن ما لا يعرفه هؤلاء أن الإرث والتقاليد الإثيوبية يمنعان اختطاف الدولة، وأن إثيوبيا لا يمكن أن تُستخدم كمخلب قط، فأرض الحبشة القديمة هي التي احتضنت صحابة رسول الله “عليه الصلاة والسلام”، ورفض ملكها النجاشي “أصحمة” تسليم الصحابة لقادة قريش مقابل المال والذهب، ولا يمكن لبلدٍ تمثل دولة المقر لمنظمة عريقة مثل الاتحاد الإفريقي أن تنساق وراء خلافات ليست طرفًا فيها، لذلك شكلت زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى الدوحة ضربةً موجعة لمخططات المحور الثلاثي “السعودية، الإمارات، مصر”.
لعب وزير الخارجية الإثيوبي ورقينيه قبيهو دورًا كبيرًا في حيادية وصمود الدبلوماسية الإثيوبية في وجه التجاذبات، مستندًا إلى إرث رفيق دربه الوزير السابق تيدروس أدهانوم
وللمزيد من إلقاء الضوء على زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي إلى قطر علقت المدونة المعروفة ماهليت يوهانس لـ”نون بوست”، معتبرة أنها “خطوة كبيرة من آبي أحمد”، وعبرت عن سعادتها بمحافظة بلادها على الحياد في الأزمة الخليجية الحاليّة، مشيرة إلى “أهمية الاحتفاظ بعلاقات وطيدة مع دولة قطر وأنها رقم لا يمكن تجاوزه في السياسة الدولية”، لكن يوهانس دعت في حديثها الخاص للموقع، رئيس الوزراء إلى الانتباه للأزمات الداخلية التي تحدث جراء تفجر الصراع في بعض المناطق، لافتةً إلى أن استتباب الوضع الداخلي يمهد الطريق أمام استقطاب استثمارات أوسع وأكبر.
الكاتب والباحث الإثيوبي نور عبدا، توقف في تغريداتٍ له على موقع تويتر للتعليق على زيارة آبي أحمد إلى قطر في 3 نقاط هي:
ــ التأكيد على إستراتيجية العلاقة بين البلدين، وعدم تأثرها بمتغيرات وتجاذبات الجيوبوليتيكس الإقليمي.
ــ دور قطر كشريك إستيراتيجي في استقرار وتنمية القرن الإفريقي.
ــ رؤية إثيوبيا القائمة على الحياد الإيجابي في الأزمات الإقليمية.
ونضيف إلى حديث عبدا بأن الزيارة شكلت مفاجأة صادمة للمحور المناوئ لقطر الذي تعود على خضوع دول المنطقة لهيمنته وتعليماته، غير أن إثيوبيا تبقى عصية على أخذ التعليمات والدوران في فلك واحد، صحيح أنها تبحث عن مصالحها كأي دولةٍ أخرى لكن ذلك لن يتم على حساب مكانة بلد كان مقرًا لأقدم حضارة عرفها التاريخ “مملكة أكسوم”، وأول بلدٍ في تاريخ الإسلام يأوى اللاجئين المستضعفين ولا غرابة في ذلك فالإسلام دخل الحبشة قبل أن يصل إلى المدينة المنورة بسنواتٍ عديدة!
أخيًرا، لعب وزير الخارجية الإثيوبي ورقينيه قبيهو دورًا كبيرًا في حيادية وصمود الدبلوماسية الإثيوبية في وجه التجاذبات، مستندًا إلى إرث رفيق دربه الوزير السابق تيدروس أدهانوم، ولكن من المقرر أن يغادر قبيهو حقيبة الخارجية قريبًا لإفساح المجال أمام وزير آخر يرجح أن يكون من الحزب الأمهري الديمقراطي ذلك من أجل حفظ التوازنات داخل الائتلاف الحاكم، وربما يتولى الخارجية الإثيوبية نائب رئيس الوزراء الحاليّ ديمقي ميكونن، ولإثيوبيا سابقة في هذا الخصوص إذ شغل رئيس الوزراء السابق هايلامريام منصبي نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية في عهد مليس زيناوي، وبعد رحيل زيناوي ترقى ديسالين إلى منصب رئيس الوزراء.