من أكبر نعم الله علينا، نعمة البنين التي لا تقاس فضائلها بأي مقياس، فهم بهجة حياتنا المثقلة بالمتاعب والهموم وسندنا عند الكبر وهم أيضًا امتداد لأنفاسنا التي بدأت تضيق هذه الأيام، فأغصاننا المورقة الوديعة أصابها الذبول وفقدت قوامها، إنها تموت شيئًا فشيئًا إن لم نسارع لإنقاذها ونعالج تربتها ونقضي على طفيليات كثرت، نعم فسدت تربتنا ولم تعد براعمنا قادرة على امتصاص الماء الطاهر النقي من كل الشوائب، ذبلت زهراتنا النجمية ونحن عاجزون أمامها لأننا وللأسف ما زلنا مستعبدين ولكن بأشكال جديدة!
لأننا عاجزون عن مواصلة مشوار الثورة ضد من ما زلنا نؤمل فيهم خيرًا وهم يقتلون أطفالنا بدم بارد، عن قصد أو عن غير قصد، فكلاهما سواء، المصاب بلغ فلذات أكبادنا فمتى يحيا فينا إيكار اليوناني ذو الجناحين الملصقتين بالشمع ونهرب بعيدًا عن هذا الوضع المزري؟ متى ننتفض على المفسدين؟ وكيف سننتفض وتهمة الهرج والتشويش تنتظر كل من يخرج عن صمته ويطالب بالقصاص؟ كيف نقتص منهم وسبيلهم غير معروف، ثم من هؤلاء المفسدين، فالجميع مكلوم ويرفع شعارات ظاهرها عاطفي لكنها فظيعة في حقيقتها.
الأدهى والأمر هو كيفية تسليم جثامين الرضع لأهاليهم الذين لم تجف دموعهم بعد، في علب كرتونية! نعم كرتونية ومستعملة أيضًا
شهدت تونس مؤخرًا حادثة فظيعة فقد على إثرها أكثر من 12 رضيعًا حقهم في الحياة وآخرون ما زالوا يصارعون من أجل البقاء في أقسام الإنعاش، هكذا على حين غرة ودفعة واحدة في مستشفى الرابطة بالعاصمة تونس، الأسباب لا تزال مبهمة، فالبعض يدعي أن الموت نتيجة تعفن جرثومي سببه الحالة الرثة لمستشفياتنا وآخرون يرجحون فرضية الدواء الفاسد الذي تم إعداده بأيدي نجسة وأدمغة متعفنة في شركات ربحية آخر همها النفس البشرية، لكن من المفسدون المتسببون في هذا العمل المشين؟ إنه أمر غير معلوم إلى يوم الناس هذا!
انطلقت لجنة في البحث عن الأسباب وما أكثر لجاننا المفتشة! الممحصة! الفذة! الأدهى والأمر هو كيفية تسليم جثامين الرضع لأهاليهم الذين لم تجف دموعهم بعد، في علب كرتونية! نعم كرتونية ومستعملة أيضًا، طريقة تسليم قاسية وغير إنسانية، رضع ملفوفون في قطع قماش عليها آثار دماء بعلب كرتونية في استهتار كبير بمشاعر عائلات الرضع ومشاعر التونسيين ككل، متعللين بعدم توافر الصناديق المعدة لحمل الجثث الصغيرة، زد على ذلك مطالبة الأهالي رغم فقرهم الوشيم بدفع تكاليف الإقامة والعلاج، فإلى هذه الدرجة انعدمت الأخلاق واضمحلت الضمائر!
لم ينته الأمر عند هذا الحد، فطفولتنا تعاني نقص مرافق الترفيه والإحاطة خاصةً في المناطق الداخلية المهمشة
على وقع أسوأ الجرائم الصحية بشاعة تضاف جرائم اجتماعية وكالعادة الأطفال هم ضحاياها، حوادث اغتصاب أطفال هنا وهناك، هذه الحوادث تكاد تتكرر يوميًا في ظل ردود فعل وإجراءت رتيبة قاتلة لم تبلغ درجة الخروج عن المألوف، تنديد وشجب وكلام كبير دون إجراءت موجعة لمصادر الفساد والإفساد.
من آخر الأحداث معلم شاذ بجهة صفاقس قادته غريزته البهيمية إلى اغتصاب بعض تلاميذه، هذا المعلم المارق عزل عن عمله بذات الأسباب سنة 2006 لكنه بعد الثورة تمتع بالعفو وعاد ليفترس براعم أخرى، ما هذا الهراء! كيف نعيد معلم إلى نفس الفضاء الذي ارتكب فيه أفعاله المشينة سابقًا، وما زاد الطين بلة هو هرسلة المعلمة التي أفشت الخبر وفضحت ذلك الوحش، لكن ما يزيد في إرعابنا هو تصريح الوزارة أن تقارير عمليات التحرش والاعتداءات أصبحت خبزًا يوميًا.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، فطفولتنا تعاني نقص مرافق الترفيه والإحاطة خاصةً في المناطق الداخلية المهمشة، إضافة إلى تسرب آفات اجتماعية كتعاطي المخدرات المتوافرة بأثمان بخسة ربما ثمنها يساوي ثمن علبة حليب المفقود أحيانًا في بلد فلاحي بامتياز! في المقابل لا يمكننا إغفال الإهمال وعدم الرعاية لبعض الأولياء الذين تركوا الجمل بما حمل على عاتق الدولة المنهكة أصلًا.
في النهاية أقول: هل من صحوة ضمير في تونس، لماذا نمر من فاجعة إلى فاجعة ومن مصيبة إلى كارثة ومن جريمة إلى نازلة، ما الذي يحصل في تونس؟ من الذي يتأبط بنا شرًا؟ حتمًا ليست أطرافًا خارجية بل أطراف قذرة تعيش بيننا من بني جلدتنا، وأختم بما قاله جبران خليل جبران:
اذهب فليس يضير غير، قلوبنا هذا الذهاب .. فلقد خلصت إلى النعيم ونحن في دنيا العذاب.