يكثر الحديث في العالم العربي اليوم عن “إسرائيل الكبرى”، وكلما عُرضت حدودها المزعومة بمناسبة وبغير مناسبة، كلما ازدادت مشاعر التوجس والخوف، لكن ما يغفله الكثيرون هو أن “إسرائيل” وأمريكا لا تحتاجان إلى هذا التوسع المباشر في المنطقة العربية والإسلامية، ما دام هناك حكومات خاضعة ومهزومة، تمنحها شرعيتها وسطوتها بما يتوافق مع أجندتها وتصوراتها للمنطقة ومستقبلها.
ما حدث في بلادنا العربية والإسلامية طوال أكثر من قرنٍ كان أخطر من أي “إسرائيل الكبرى”، فقد كان منظومة متكاملة تشمل الدولة والولاءات الوطنية والتشريعات العلمانية والممارسات الرأسمالية والإدارات الفاسدة، وتلك الجيوش “المادية” و”المفاهيمية” التي تسيطر على خريطة بلادنا الآن، تمددت حتى تحولت إلى عقبات حقيقية أمام أي نهضة أو استنهاض لهذه الأمة.
وإذا كان هناك دلالة لشيوع شعار “إسرائيل الكبرى” بين الناشطين والجنود الصهاينة اليوم، كما ترصد وسائل الإعلام، فهي أن هذه الأمة التي ينتمي إليها هؤلاء الجنود لم تمت ولم تُقَولَبْ تمامًا كما حدث لشعوبنا العربية التي استسلمت للهويات القطرية الوطنية، ففي الوقت الذي يُنظر فيه إلى “وحدة” البلدان العربية اليوم على أنها ضرب من الخيال، حيث يُواجه من يدعو إليها بالانتقادات والتهم بالمثالية، نجد أن القوم الآخر كانوا قد رسموا خريطة دولتهم وعلَمها قبل أن تقوم الدولة فعلاً، وهم أقلية مستضعفة في أوروبا.
بل ستجد من يستنكر وجود خرائط لفلسطين “التاريخية” (التي يُقصد بها فلسطين الانتدابية البريطانية) تضم “الجولان المحتل”، بحجة أنه جزء من دولة أخرى، أي سوريا التي كانت تحت الانتداب الفرنسي، وهؤلاء يتمسكون بالخرائط التي رسمها المحتل، كما لو كانت جزءًا من أصول الدين والقيم والأخلاق، وكأن خريطة فلسطين التي رسمتها بريطانيا للمشروع الصهيوني، وليست لنا، هي شيء مقدس لا يجوز المساس به.
جزءٌ من فشلنا يكمن في أننا ما زلنا نفكر وفقًا للأسس التي وضعها الاستعمار الغربي لبلادنا قبل أكثر من قرن، بينما جزء من نجاح المشروع الصهيوني يعود إلى أنه يحمل طموحًا أوسع من الواقع، مما يجعله “محركًا” أو “رافعة” لمشروعه، حتى وإن بدا هذا الطموح غير واقعي من منظور الجغرافيا السياسية أو السياسة الدولية أو الديمغرافيا.
لكن الحقيقة هي أنه في اللحظة التي يتقوقع فيها المشروع الصهيوني على ذاته، وتتقزم طموحاته إلى مجرد “البقاء” أو الحفاظ على حدود 1948، ستبدأ قصة اضمحلاله كما هو الحال مع كل دولة قامت ثم انتهت في التاريخ، ومن هنا نعلم أن وجود مشروع يتجاوز الواقع في أهدافه هو أحد أهم أسباب النهوض لأي أمة.
والمأساة أننا بدأنا مشروعاتنا الوطنية التي صُنعَتْ تحت إشراف الاستعمار بطموحات ضئيلة، ومفاهيم هشة وغير متماسكة، فهي أضيق من قدراتنا وطاقاتنا كأمة اعتُبرت “خيرَ أمة أخرجت للناس”، فهذه المشروعات لا تتماشى مع هويتنا الحقيقية وشريعتنا، بل هي مفرقة لجمعنا ومشتتة لشملنا، ومع ذلك نطمح إلى مجد أو نصر!
ماذا عن “إسرائيل الصغرى”؟
ينطلق كثير من الكتاب والمحللين والإعلاميين في عالمنا العربي من ممارسة “التهويل”، وكأنهم يسعون لجذب الانتباه والإثارة التي تتطلبها الصناعة الإعلامية، لكن هذه الممارسة تحمل من المفاسد أكثر مما تُسهم في توعية الناس حول مشروع خطير، كما يزعم هؤلاء.
إذ إن جمع كل التوجهات المتطرفة وصبّها في قالب خطاب إعلامي واحد لتصوير الواقع يُعتبر أمرًا مشبوهًا وينطوي على مفاسد عدة، لأنه يضخم صورة المشروع الصهيوني ويغفل عن إبراز مواضع فشله في “إسرائيل الصغرى”، كما يمكن تسميتها، أي في نطاق فلسطين الانتدابية التي تأسس فيها المشروع الصهيوني منذ نحو قرن وحتى اليوم.
فغالبًا ما يغفل هذا الخطاب الإعلامي ذكر حقيقة أن “إسرائيل الكبرى” لا تعدو كونها تصورًا بعيدًا عن الواقع، في الوقت الذي يعرض فيه هذا الخطاب صورة غير متوازنة، ويصور المشروع الصهيوني كما لو كان “قاب قوسين أو أدنى” من التحقق.
من الممكن تناول فكرة “إسرائيل الكبرى” وتاريخها، لكن في إطار متوازن يعرضها بحجمها الطبيعي، بعيدًا عن التهويل الذي يخفى الحقائق المعارضة لها، لأنه قد يتحول إلى “واقع” حين تطبع النفوس على قبوله باعتباره “حقيقة”
من هنا، تصبح الحاجة ملحة لتقديم طرح إعلامي متوازن، يعرض الصورة الكاملة والواقعية للمشروع، دون أن يبتر أجزاء منه أو ينفخ أجزاء أخرى، بل أن يُقرأ المشروع الصهيوني في سياقه الطبيعي وبمعطياته الواقعية، بحيث يُعرض بكل جوانبه، بما فيها نقاط الضعف والانتكاسات التي يعاني منها.
في هذا السياق، من الضروري تناول جوانب ضعف المشروع الصهيوني الذي تعارض مع فكرة “إسرائيل الكبرى” منذ بدايته، فقد فشل المشروع في تحقيق أهدافه الأساسية التي كانت تتمثل في تهجير جميع سكان فلسطين الانتدابية وإنشاء دولة يهودية خالصة، فعلى الرغم من مرور عقود على الاحتلال، ما زال أكثر من 7 ملايين فلسطيني، غالبيتهم من المسلمين، يعيشون في الأراضي التي تسيطر عليها “إسرائيل” منذ عام 1948، متفوقين في تعدادهم على اليهود في فلسطين الانتدابية اليوم.
كما تطرقتُ إلى هذا الموضوع في مقال عام 2016 بعنوان “المستقبل الذي تخافه إسرائيل”، حيث ناقشت تأثير الديمغرافيا على مستقبل “إسرائيل”، إذ يُعد الحديث عن ضم مناطق إضافية، مثل لبنان وسوريا والأردن، بما تحتويه من كتل سكانية عربية، أمرًا غير واقعي في ظل الظروف الحالية، فهو لا يتماشى مع المعطيات الجغرافية والسياسية التي تؤكد على وجود توازن ديمغرافي يصعب تجاوزه، ما يجعل الحديث عن “إسرائيل الكبرى” أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع.
الأقرب للواقعية في هذا السياق هو التركيز على واقع “التهجير” دون الانجرار وراء المبالغة أو التهويل، كما من المهم أيضًا تفادي سرديات “الترانسفير” القسري حالياً، لسكان الضفة الغربية تحديدًا، أو تصويره على أنه أمر حتمي وقريب الوقوع كما يراه بعض المحللين الذين لا يحملون مسؤولية كلماتهم وأثرها السلبي.
إن “التهجير الأفقي“، أي التهجير البطيء والمتدرج الذي يعتمد على استراتيجيات متنوعة، يمثل أحد الأساليب التي قد يُطورها المشروع الصهيوني في محاولاته لاستكمال مخططاته، فعلى الرغم من أن التهجير القسري في شكله التقليدي قد لا يكون مطروحًا، إلا أن الهجرة التي شهدتها غزة على مدار سنوات الحصار الطويلة، والتي تزايدت بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، تُمثل صورة حية لهذا التهجير الأفقي الذي يعتمد على محاصرة حياة الناس ودفعهم إلى مغادرة أوطانهم بسبب الظروف القاسية.
نفس السيناريو يمكن أن يتكرر في الضفة الغربية عبر استراتيجيات مشابهة، حيث تستخدم المستوطنات لتضييق الخناق على الفلسطينيين وتجفيف منابع الحياة الكريمة الأساسية، ما يدفعهم للهجرة بشكل تدريجي، مع أن الأعداد قد تبدو في البداية صغيرة، إلا أنها تؤثر على التركيبة السكانية مع مرور الوقت.
والتهجير بهذه الطريقة لا يتطلب تنفيذ عمليات قسرية كبيرة كما جرى خلال النكبة أو النكسة، لكنه يعكس تحولًا في أساليب الاحتلال التي تعمل على تقليص أعداد الفلسطينيين في المناطق التي يسعى للسيطرة عليها بطريقة غير مباشرة ولكن فعّالة.
نضيف على ما سبق المعطيات التالية:
- الهجرة الطوعية لعدد لا بأس به من اليهود الإسرائيليين إلى خارج “إسرائيل”، لأسباب متنوعة ربما يكون أبرزها حالة “عدم الأمان” داخل هذه الدولة.
- الفشل في تطويع قطاع غزة رغم احتلاله بين عامي 1967-2005، واللجوء إلى تفكيك مستوطنات قامت فيه لعقود، وهنا نتحدث عن قطاع صغير لا يبلغ عشر معشار أي دولة من التي يتحدث هؤلاء عن احتمال ضمها إلى “إسرائيل”!
- الفشل في الحفاظ على المكتسبات في سيناء رغم ضعف النظام المصري ودخوله في التبعية الأمريكية.
- الفشل في ضم “المنطقة الأمنية في جنوب لبنان” أو “الحزام الأمني” الذي سيطرت عليه “إسرائيل” عسكريًا بين 1985-2000، رغم إنشائها لميليشا لحد أو “جيش الجنوب اللبناني” الموالي لها، واضطرارها للانسحاب منه في النهاية.
تبرز هذه النقاط سؤالًا مهمًا: هل يمكن لمن فشل في الحفاظ على منطقة ضيقة في بلد صغير ومفكك كلبنان أن ينجح في ضم دول عربية إلى دولته؟ خاصة في ظل التضخم الكبير في الديموغرافيات العربية في تلك البلدان على مدار أكثر من ثلاثة عقود، وتزايد السخط الشعبي ضد المشروع الصهيوني وفشل عمليات التطبيع.
هذه المعطيات وغيرها لا بد من أن تُؤخذ بعين الاعتبار عند الحديث عن المشروع التوسعي لـ”إسرائيل”، أو على الأقل يجب الإشارة إليها والحفاظ على وعيها، لأن إغفالها سيقودنا إلى خطاب تهويلي يضر بالوعي الجمعي للجمهور، كما أن فيه استخفافًا بالعقول، والاستخفاف لا يمكن أن يولد وعيًا حقيقيًا.
ومن خلال مراجعة هذه المعطيات المتعلقة بما جرى ويجري في “إسرائيل الصغرى”، سيبدو الحديث عن طموحات هذه الدولة في التوسع وقيام “إسرائيل الكبرى” على حساب جيرانها أمرًا “سخيفًا” إلى حد بعيد، ولا يكفي هنا القول بأنه “غير واقعي”.
نعم، من الممكن تناول فكرة “إسرائيل الكبرى” وتاريخها وإرهاصاتها الحالية، لكن في إطار متوازن يعرضها بحجمها الطبيعي، كما أشرت سابقًا، وبعيدًا عن التهويل الذي يخفى الحقائق المعارضة لها، لأن ذلك قد يسهم في تحويل الأمر إلى “واقع” حين تطبع النفوس على قبوله باعتباره “حقيقة”.
أما أي ادعاء يتعلق بـ “بث الوعي” من خلال هذا النوع من الإعلام فهو لا يعدو أن يكون مجرد مزاعم هشة، إذ لا يمكن تحقيق الوعي الحقيقي دون نظرة واقعية شاملة على الواقع الراهن وجذوره ومآلاته، ولا دون التفكير في تداعيات هذا الخطاب على عقلية المشاهد العربي، والذي قد يتأثر دون أن يدرك النتائج المترتبة على ذلك في لاوعيه.
هل يحكم المتطرفون “إسرائيل”؟
ثمة بعد آخر مهم للقضية، وهو أن تسليط الضوء على بعض تصريحات التيار اليميني المتطرف حول التوسع و”إسرائيل الكبرى” وما شابه، يخفي حقيقة أن هذا التيار، رغم قوة تأثيره، إلا أنه ليس المسيطر أو المحرك الوحيد للمشروع الصهيوني والمؤمنين به.
والحقيقة أن المنظومة الفاعلة خلف السياسات التوسعية أو الانسحابية للمشروع الصهيوني ليس التيار المتطرف ولا أي حكومة حالية أو سابقة كانت يسارية أو يمينية، بل “الدولة العميقة” في “إسرائيل”، وهي مجموعة من المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية التي تعمل بتفانٍ لحماية الأمن القومي الإسرائيلي، وبيدها إقرار السياسات الحاسمة بناءً على تقديراتها الواقعية للمصلحة الوطنية.
من هذه الرؤية، قد تتبنى “إسرائيل” سياسات مثل الانسحاب التكتيكي من مناطق معينة (كما حدث في خطة “فك الارتباط” عام 2005) أو تغيير الأوضاع على الأرض عبر تفريغ بعض المناطق السكانية تدريجيًا، خاصة في مناطق مثل قطاع غزة، بحيث تستغل حالة الحرب وأحداثها وزخم الدعم الأمريكي لإعادة التموضع ووضع موطئ قدم بقوة أكبر.
إن لعبة التمدد والانسحاب لدى المشروع الصهيوني محسوبة ضمن سياسات الحفاظ على الأمن القومي، الذي يقع في جوهره الحفاظ على المشروع ومَده بعوامل البقاء والقوة بأكبر قدر، ومن الصعب على “إسرائيل” اليوم، بحجمها الديمغرافي وقواتها العسكرية التي تعمل على إطفاء الحرائق في أكثر من جبهة (داخلية وخارجية) أن تقرر في الآونة القريبة احتلال بلد عربي يُمثل خزانًا جديدًا من كارهيها، مثل لبنان أو سوريا أو الأردن الذي يضم الحصيلة الأكبر من المهجرين في النكبة والنكسة من الضفة الغربية!
وكانت العديد من الخطابات الصهيونية – وما زالت – ترى في الأردن “الحاوية المثالية” لاستقبال اللاجئين من غربي النهر، ومن المعروف أن هناك تصريحات عديدة قديمة وحديثة لسياسيين وإعلاميين صهاينة يتحدثون عن هذه الميزة والمساحة الواسعة للأردن، والتي تسمح باستقبال عرب فلسطين وعيشهم بأمان وانسجام مع إخوتهم العرب في ربوع الأردن الرحبة!
لكن التركيز – كما ذكرنا – على مسار أحادي من التصريحات هو بمنزلة الخطاب الإعلامي المضلل الذي يتلاعب بعقول المتلقين ولا يقدم لهم خلاصات من الوعي السياسي والواقعي والاستراتيجي الذي تتعطش إليه شعوبنا ويمثل قطعةً غائبةً في خطابنا السياسي والإعلامي على حد سواء.
الخطاب اليميني المتطرف لدى بعض شرائح السياسيين الإسرائيليين يُعتبر خطابًا إعلاميًا في المقام الأول، موجهًا للحفاظ على شعلة المشروع متوقدة، وجذب الأصوات الانتخابية لأحزابهم في الداخل، فـ”إسرائيل” في النهاية دولة “ديمقراطية”، بمعنى أنها خاضعة لمنظومة ديمقراطية تحفز الخطابات الشعبوية غير المسؤولة، التي تستغل لحظات تاريخية معينة تشتعل فيها مشاعر الجمهور في حالات معينة مثل لحظات الحرب أو الصراع أو الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، حيث يتم تقديم خطابٍ شعبوي يضع القادة في دور “البطل” أو “المنقذ” الذي يلبي تطلعات الجمهور ويشبع رغباته العاطفية.
وسر تصاعد خطاب “إسرائيل الكبرى” بين التيار اليميني المتطرف يكمن في استيعابه للحظة التاريخية الراهنة التي يمر بها المشروع الصهيوني، فهذه اللحظة تحتاج إلى إبراز قوة المشروع وهيمنة الدولة مقابل ضعف الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم العربي حولها، وخصوصًا في ظل حالة الصدمة التي يعاني منها المجتمع الإسرائيلي.
هذه اللحظة التاريخية تحتاج إلى استيعاب مشاعر السخط التي اشتعلت في المجتمع الإسرائيلي بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، حيث تبدو الفرصة مواتية لتوجيه هذه المشاعر العارمة لا نحو الإحباط والقلق والتفكير في مهرب، بل نحو مزيدٍ من السخط والعدائية، وهو مزاج موجود على أي حال في جميع المجتمعات التي تمر بتجارب شبيهة في علاقتها مع مجتمعات أخرى حول العالم، ولطالما رصد السياسيون هذه الأمزجة المتصاعدة من حين لآخر في المجتمعات ليقدموا خطابًا شعبويًا يروي عطشها، ويقدم في الوقت نفسه لأحزابهم الأصوات المطلوبة لزيادة دعمهم ومكاسبهم في الانتخابات القادمة.