يشهد القطاع الصناعي في العراق أزمة ممتدة ألقت بظلالها على الاقتصاد الوطني، مع توقف آلاف المصانع عن العمل بسبب تحديات متعددة، أبرزها الإغراق السلعي، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وضعف الدعم الحكومي في السنوات الماضية.
ورغم تعهّد الحكومات العراقية المتعاقبة بالعمل على تنشيط هذا القطاع الحيوي، يبدو أن الطريق نحو النهوض بالصناعة المحلية محفوف بالكثير من الصعوبات والتحديات التي تقف عائقًا أمام تلك الجهود.
واقع المصانع
يشير خبراء الاقتصاد إلى أن الصناعة العراقية تشهد تراجعًا، حيث تتوزع المصانع بين تلك التي توقفت تمامًا وأخرى تعمل بكفاءة متواضعة لا تلبي احتياجات السوق المحلية.
يقول الخبير الاقتصادي، عبد الرحمن المشهداني، إن الصناعة العراقية عانت خلال السنوات الماضية من تدهور كبير، حيث تعطلت آلاف المصانع عن العمل بسبب ضعف السياسات الحكومية وانعدام الدعم الحقيقي للقطاع، ما أدى إلى شلل واضح في الإنتاج المحلي.
وفي حديثه لموقع “نون بوست”، يعزو المشهداني أبرز أسباب توقف المصانع العراقية إلى فتح الحدود على مصراعيها أمام الاستيراد، ما أدى إلى الإغراق السلعي في السوق العراقية، وهو ما أضعف قدرة المنتج المحلي على المنافسة أمام المنتجات المستوردة ذات الأسعار الأقل والجودة المختلفة.
ونوّه المشهداني إلى أن التكاليف الإنتاجية المرتفعة لعبت دورًا كبيرًا في تعطيل المصانع، حيث لجأ الكثير من الصناعيين إلى التحول نحو التجارة بدلًا من الاستمرار في الإنتاج، ما أثر على ديناميكية القطاع الصناعي.
وكشف الخبير الاقتصادي الدكتور نبيل المرسومي، بأن آخر إحصائية للصناعات العراقية، تشير إلى وجود نحو 67 ألف مصنع صغير ومتوسط، لافتًا إلى أن نحو 35 ألف منها متوقفة.
وأضاف المرسومي، في حديثه لصحيفة الصباح الحكومية الرسمية، بأن أسباب توقف هذه المصانع ترتبط بقلة الدعم، خاصة فيما يتعلق بالطاقة الكهربائية والوقود، فضلًا عن فتح الحدود للسلع الأجنبية المنافسة للسلع العراقية المماثلة.
من جانبه، أكّد رئيس اتحاد الصناعات العراقي عادل عكاب، بأن “الجهد متواصل لإحياء آلاف المعامل الصناعية في عموم مناطق العراق”، لافتًا إلى أنه توجد معامل تحتاج إلى تحديث خطوط الإنتاج وأخرى للتأهيل.
وبيّن عكاب أن “التوجه الحكومي مع إحياء الصناعات المحلية في مختلف مفاصلها بهدف تقليل الاستيراد، لا سيما أن مقومات إحياء الصناعة الوطنية متوافرة في البلاد، ويمكن أن نحقق الاكتفاء الذاتي في بعض منها، والأخرى يمكن أن نتكامل مع أسواق أخرى لتغطية الطلب المحلي من منتجاتها”.
الحلول الممكنة
تتعدد الحلول التي يمكن أن تسهم في إحياء الصناعة العراقية وتحفيز نموها، حيث يرى الخبراء أن هناك حاجة ماسة لتطبيق سياسات تشجيعية وداعمة تركز على تحديث خطوط الإنتاج، وتوفير تسهيلات في استيراد المعدات الحديثة، بالإضافة إلى تعزيز دور الحكومة في دعم الصناعات المحلية عبر تيسير الإجراءات الجمركية وتنظيم دعم الطاقة.
ويرى المشهداني أن الحلول لإحياء المصانع لا تقتصر على إعادة تشغيل المصانع القديمة نفسها، بل تحتاج إلى إعادة هيكلة، سواء كانت هذه المصانع حكومية أو تابعة للقطاع الخاص، فالمصانع القديمة المتهالكة تحتاج إلى تحديث شامل.
ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن الحكومة العراقية تبذل جهودًا متزايدة لدعم القطاع الصناعي وإعادة تشغيل المصانع المتوقفة، حيث جرى تشكيل فريق متخصص لدراسة المشكلات وإيجاد الحلول المناسبة، ويؤكد أن هذا الفريق يضم خبراء ومستشارين ويعمل تحت إشراف مجلس الوزراء، وأسهم في إصدار قرارات حكومية لمعالجة التحديات الأساسية، مثل توفير الأراضي الصناعية وتجديد عقود الإيجار للصناعيين، والتي كانت تمثل عقبة كبيرة أمام استمرار بعض المشروعات، فضلًا عن تخفيض الضرائب على المواد الأولية المستوردة الداخلة في الصناعة إلى 5 بالألف بدلًا من 15%، وهو ما يعد خطوة مهمة لتقليل تكاليف الإنتاج.
وكشف المشهداني عن توجه حكومي لتسهيل إجراءات استيراد الآلات وخطوط الإنتاج والمعامل كاملة من مصادر غربية، بالإضافة إلى الاستفادة من الضمانات السيادية التي قدمتها الحكومة للقطاع الخاص، وأوضح أنه بإمكان القطاع الخاص اليوم التعاقد مع أي شركة غربية مصنعة للمعامل، بما في ذلك المصافي، وتقدم الحكومة ضمانًا سياديًا يساعده في الحصول على قرض يغطي 85% من قيمة المشروع.
وتحدث عن ضمانات سيادية بسقوف عالية، تصل قيمتها إلى نحو 7 أو 8 مليارات دولار بشرط أن يتم استيراد معامل وخطوط إنتاج من دول مصنعة عالميًا، سواء كانت أمريكا أم دول أوروبية.
ويرجح الخبير الاقتصادي أن يكون لهذه السياسة في حال نجاحها أثر إيجابي على الصناعات، خلال السنوات الثلاث القادمة، فيعود الإنتاج مرة أخرى إلى تلبية احتياجات السوق المحلية، وربما جزء منه سيخصص للتصدير.
ويلفت المشهداني إلى أن التركيز الحكومي الحالي ينصب على دعم قطاعات استراتيجية مثل البتروكيماويات، وصناعة الإنشاءات، والزجاج، والورق، والأدوية، كونها تلعب دورًا حيويًا في تحقيق الاكتفاء الذاتي وتلبية احتياجات السوق المحلية، ويضيف أن القروض تمثل جانبًا مهمًا من الحلول التي تقدمها الحكومة، حيث تم وضع شروط ميسرة للمشروعات الكبيرة، تشمل فوائد منخفضة بنسبة 3% وفترات سداد تصل إلى 15 سنة، مع فترات إمهال تصل إلى 3 سنوات.
وأوضح أن الضمانات المطلوبة لهذه القروض أصبحت أقل تعقيدًا، حيث أصبح المشروع نفسه هو الضمان بدلًا من العقارات، ما يسهم في تحفيز الصناعيين على الاستفادة من هذه المبادرات.
دور الصناعة
تلعب الصناعة دورًا حيويًا في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في أي دولة، ولا سيما في العراق الذي يمتلك إمكانيات ضخمة في هذا القطاع.
وفي ظل الظروف الحالية، يمكن للصناعة أن تكون محركًا رئيسيًا لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليص الاعتماد على السلع المستوردة، مع توفير فرص العمل، وتقليص البطالة، وتحفيز النمو الاقتصادي.
ورجّح الخبير نبيل المرسومي أن يؤدي إعادة تشغيل هذه المصانع إلى انخفاض كبير في نسبة البطالة، من خلال توفير 3 ملايين فرصة عمل إضافية، الأمر الذي من شأنه أن يعزز الأمن الاقتصادي والمجتمعي، ولفت إلى أن عودة الصناعة توفر العملة الأجنبية الصعبة والتي تخرج جراء استيراد السلع، كما أن إعادة تشغيل هذا العدد الكبير من المصانع أو جزء منه، يشكل عامل جذب للمستثمرين الأجانب، وينوه إلى أن تشغيل هذه المصانع يعود بالنفع على العديد من الدوائر الرسمية، من خلال دفع مبالغ ورسوم لأكثر من 27 دائرة ومنظمة حكومية.
ومن الناحية الصحية – بحسب المرسومي – تسهم الصناعات الغذائية المحلية الخالية من المواد الحافظة لفترات طويلة، في إبعاد المستهلكين عن تأثيراتها على الصحة العامة.
وبدوره، يذكر المشهداني أن العراق يمتلك موارد كبيرة يمكن أن تكون مدخلات للصناعات المحلية، وأن التحرك باتجاه تطوير القطاع الصناعي سيخلق صناعات متكاملة تدعم الاقتصاد بشكل شامل خلال السنوات المقبلة.