منذ بداية التصعيد الإسرائيلي في المنطقة، ومع تصاعد المخاوف من اندلاع حرب إقليمية بين “إسرائيل” وما يسمى “محور المقاومة”، بعد توسيع رقعة التصعيد الإسرائيلي باتجاه الجنوب اللبناني وتزايد الضربات الإسرائيلية لمناطق مختلفة من سوريا؛ تعمل قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على استغلال هذا الانشغال المحلي والإقليمي لتحقيق مكاسب سياسية تصب في خانة الاعتراف بها كسلطة أمر واقع مختلفة عن باقي مناطق السيطرة السورية من خلال شكل الإدارة والحكم والوجود السياسي.
وبعيدًا عن الحديث عن جولات إلهام أحمد الرئيسة المشاركة لهيئة العلاقات الخارجية في “الإدارة الذاتية” إلى أوروبا، وإعلانها أن مناطق سيطرة “قسد” أصبحت أشبه بدولة من حيث المؤسسات والخدمات وأنها مستعدة لاستقبال اللاجئين السوريين العائدين من أوروبا، تستغل “قسد” هذه الأجواء الإقليمية المتوترة بإجراء انتخابات بلدية كانت قد أجلتها مرتين، إذ كانت مقررة في أواخر مايو/أيار إلى منتصف يونيو/حزيران، ومن ثم إلى أغسطس/آب، لكنها تراجعت عن الخطوة من دون الإعلان رسميًا، بعد تصعيد اللهجة والتهديدات التركية، واعتبار واشنطن حليفة “قسد” الرئيسية أن الوقت غير مناسب في سوريا لإجراء الانتخابات.
انتخابات سرية
لم تعلن “قسد” تأجيل انتخاباتها للمرة الثالثة، علمًا بأنها تجاوزت المدة الزمنية المُعلن عنها سابقًا، واستمر الأمر كذلك إلى 5 سبتمبر/أيلول الماضي عندما أصدرت الإدارة الذاتية قرارًا فوضت “الهيئة العليا للانتخابات” التابعة لها بدء العمل على إجراء “انتخابات البلديات”، وفي الوقت الذي لم تحدد فيه موعدًا ثابتًا، اكتفت بربط إجراء الانتخابات بـ”الوقت المناسب” الذي تراه هيئة الانتخابات، وحسب وضع كل “مقاطعة”.
وتقسم “قسد” مناطق سيطرتها إلى مقاطعات، متجاهلة التقسيم الأصلي للمدن السورية، وهذه المقاطعات هي الشهباء وعفرين ومنبج في ريف محافظة حلب، والفرات والطبقة التابعتان لمحافظة الرقة، إضافة إلى مدن وبلدات ريف دير الزور الشرقي ومناطق الجزيرة السورية في محافظة الحسكة.
وعن طريقة إجراء هذه الانتخابات بشكل غير معلن، أكد لـ”نون بوست”، مصدر بما يسمى مقاطعة الشهباء (تضم تل رفعت وبلدة فافين وعددًا من مدن وقرى ريف حلب الشمالي)، أن “الإدارة الذاتية” بدأت الترويج للانتخابات عبر المجالس المحلية وبين الموظفين والعاملين، حيث زارت وفود منها المنطقة في الأول من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتقت بالسكان وشرحت طريقة الانتخاب، وعرفتهم بالمرشحين للانتخابات، الذين كان أغلبهم غير معروف لسكان المنطقة.
المصدر أضاف أن هذه الوفود كانت مختلطة من عدة أحزاب منها: حزب سوريا المستقبل، والتحالف الديمقراطي، ويرافقها موظف البلدية في المنطقة، إضافة إلى المختار الذي يسمى “الكومين”، وهو المسؤول أيضًا عن رفع أسماء من يحق لهم الانتخاب للبلدية المسؤولة، التي تقوم بدورها بتسليمه البطاقات الانتخابية للسكان.
وأوضح المصدر أنه بالنسبة لما يسمى مقاطعة “الشهباء” فقد أُجريت الانتخابات في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بشكل شبه سري ودون أي تغطية إعلامية.
من ناحيته كشف موقع “عين الفرات” المتخصص بتغطية أخبار دير الزور، أن الإدارة الذاتية حددت يومي 18 و19 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، موعدًا لانتخابات البلديات في محافظة دير الزور شرقي سوريا.
وأشار الموقع إلى أن “قسد” عزّزت إجراءاتها الأمنية وعمدت الحواجز التابعة لها إلى التدقيق على المارة، كما منعت الإجازات عن عناصرها إلى حين انتهاء الانتخابات.
انتخابات إجبارية بصورة ديمقراطية
على الرغم من إعلان “قسد” المتكررة أنها ستجري انتخاباتها البلدية الأولى بطريقة ديمقراطية، تتيح للجميع حرية الاختيار والانتخاب، فإن ممارساتها على الأرض كانت عكس هذه الادعاءات، وفي هذا السياق قال أحد موظفي الإدارة الذاتية في مدينة الرقة لموقع “نون بوست” إن أعضاءً في الهيئة العليا للانتخابات أجبروا كل الموظفين على المشاركة بالانتخابات، إذ قالوا لهم “هي انتخابات ديمقراطية، لكن ستشاركون رغمًا عنكم”.
أحد الناخبين الذين تواصل معهم “نون بوست” في “مقاطعة الشهباء” ذكر أن خوفه من الحرمان من خدمات الماء والكهرباء والإغاثة هو الذي دفعه للمشاركة، مشيرًا إلى رسائل تهديد وصلتهم عن طريق مخاتير تلك القرى (الكومينات)، والموظفين العاملين مع الإدارة بهذا الخصوص.
وفي هذا السياق كشفت شبكة “نداء الفرات” الإخبارية المحلية أن “قسد” عمدت إلى تهديد موظفيها بفصلهم، والمدنيين المستفيدين من المساعدات الإنسانية بقطعها عنهم في حال الامتناع عن المشاركة، بالتزامن مع إجراءات متخذة لإبقاء عملية الانتخاب سرية وبعيدة عن وسائل الإعلام، ونوهت الشبكة أن غالبية الأهالي لا يثقون بسير ونتائج الانتخابات، معتبرين أن قوائم الناجحين تم إعدادها مسبقًا من “قسد”.
لماذا تصر “قسد” على إجراء الانتخابات؟
رغم كل الضغوط والتهديدات الإقليمية والمحلية الرافضة لإجراء هذه الانتخابات، يبرز السؤال التالي: لماذا تصر “قسد” على القيام بهذه الخطوة؟ ولماذا اختارت هذا التوقيت بالذات رغم تأجيلها أكثر من مرتين؟
الباحث المختص بالشأن الكردي بمركز رامان للبحوث، بدر ملا رشيد، يُرجع إصرار “قسد” إلى رغبتها في مواجهة الضغوط المحلية، وبالأخص في مناطق الغالبية العربية (دير الزور والرقة ومنبج)، نتيجة قيام سكان هذه المناطق وأعيانها بالضغط على الإدارة الذاتية لاتخاذ إجراءات تزيد من مشاركتهم في إدارة مناطقهم.
وبناء عليه – يضيف ملا رشيد – في حديثه لـ”نون بوست” فإن إجراء الانتخابات قد يقتصر على المناطق ذات الغالبية العربية، لتبدو “قسد” بأنها متماهية مع المطالب الشعبية، خاصة بعد حالة عدم الاستقرار والاشتباكات المتقطعة، التي شهدتها تلك المناطق وذلك على خلفية اتهام “قسد”، بعدم إشراك المكون العربي (العشائري) في حكم وإدارة المنطقة.
سوريا: لماذا تصرّ الإدارة الذاتية التابعة لـ”قسد” على إجراء الانتخابات؟
من ناحيته يشير رئيس المجلس الوطني الكردي، عبد الله كدو، في حديث لـ”نون بوست” إلى أن هدف الإدارة الذاتية وجناحها العسكري pyd من وراء هذه الانتخابات الحصول على نوع من الاعتراف بسلطته، لكنه مُنع من ذلك أمريكيًا وتركيًا، والآن يريد الخروج بشيء من ماء الوجه أمام السكان وخاصة أنصاره في المنطقة.
وحول اختيار “قسد” لهذا التوقيت يقول كدو إنه من الواضح أن الإدارة الذاتية وجدت أن لا فرصة أفضل من هذه الفترة الانتقالية بين الإدارتين الأمريكيتين للإيحاء بأنها مستقلة وغير آبهة بالضغوطات من جهة، وبسبب الانشغال الإقليمي والدولي بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والجنوب اللبناني من جهة ثانية.
وفي سياق الحديث عن دوافع “قسد” لإجراء الانتخابات قالت الرئيسة المشاركة لهيئة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية إلهام أحمد، في 13 يونيو/حزيران الماضي، إن انتخابات البلدية عبارة عن “عملية ترميم للمؤسسات الخدمية التي تعمل على إعادة تأهيل ما دمرته الدولة التركية أمام الصمت الدولي”.
وأدَّعت أحمد أن العملية الانتخابية كانت مطلبًا شعبيًا ظهر كأحد مخرجات “مؤتمر أبناء الجزيرة والفرات” الذي عقد عام 2019 بعد لقاءات تشاورية مع أبناء المنطقة، لكن الشروع بالانتخابات تأجل لأسباب أمنية.
انتخابات على وقع التهديد التركي
رفعت تركيا سقف تهديداتها ضد الإدارة الذاتية وهيكلها العسكري “قسد” خلال الأشهر الماضية، وارتبطت تلك الحالة على نحو كبير بالإعلان الأول الذي انتشر بخصوص الاستعداد لتنظيم الانتخابات البلدية، التي تراها تركيا خطوة أولى نحو “تأسيس دولة إرهابية في المنطقة”، وذلك بحسب تصريحات سابقة لوزير الدفاع التركي، الذي عبّر عن رفض بلاده القاطع لمساعي إجراء انتخابات بلدية في مناطق شمال شرقي سوريا، مؤكدًا أنها تشكل تهديدًا للأمن القومي التركي.
ومع إصرار الإدارة الذاتية على إجراء الانتخابات ازدادت حدة المواقف التركية، إذ دعا زعيم حزب “الحركة القومية” (MHP) التركي، دولت بهشلي، لعملية عسكرية مشتركة تجمع تركيا والنظام السوري للقضاء على “العمال الكردستاني” في سوريا، وفق ما نقلته صحيفة “Cumhuriyet” التركية.
ومع فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والحديث عن إمكانية انسحاب القوات الأمريكية ازدادت التهديدات التركية بالقيام بعملية عسكرية على لسان المسؤولين الأتراك.
وفي هذا السياق قال أردوغان في حديثه للصحفيين على متن طائرته عائدًا من أذربيجان الأربعاء الماضي: إن “عملياتنا عبر الحدود على جدول أعمالنا من أجل أمن بلادنا وسلام مواطنينا. إذا شعرنا بالتهديد، فلدينا الاستعداد للبدء في أي وقت”، وأضاف أن “هناك مناطق على حدودنا يتمسك بها الإرهابيون ولا يمكن ضمان الأمن الكامل دون تطهيرها وتجفيف مستنقع الإرهاب”.
ولدى السؤال عن كيفية تمرير “قسد” لهذه الانتخابات رغم كل هذه التهديدات يقول الباحث بدر ملا رشيد: “يبدو أن مسؤولي الملف السوري في الإدارة الأمريكية قد وصلوا إلى صيغة تفاهم مع الإدارة الذاتية تتعلق بعدم المبالغة في مراسيم إجراء وتنظيم الانتخابات وتقسيمها وفق رغبة كل منطقة على حدة”.
ويعود ذلك – بحسب رشيد – إلى تجنب التوتر والمخاطر التي من المحتمل أن تحدث في حال إجراء الانتخابات في أجواء تشي بظهور كيان فيدرالي منتخب في شمال شرق سوريا، وهناك احتمال أن يكون قد تم نقل صيغة هذا الحل للجانب التركي، حتى يكون على اطلاع بهدف وأبعاد إجراء هذه الانتخابات، لذا هناك احتمال كبير بعدم إجراء هذه الانتخابات في المناطق الحدودية المتاخمة لتركيا مثل الحسكة والقامشلي وكوباني، وأن تقتصر على المناطق الداخلية فقط.