يسعى النظام بشكل غير معلن لتثبيت ما تحقق من مخرجات ديمغرافية على الأرض، لكنه يعمل على تنفيذ هذه الاستراتيجية بشكل هادئ وغير ملفت، ضمن محددات صعبة ترتبط بمصالح حلفائه المتناقضة، إذ يمتلك كل من هؤلاء الحلفاء محدداته الخاصة في هذا الإطار.
ولا يتبنى النظام حتى الآن موضوع إعادة اللاجئين ضمن استراتيجيته الإعلامية ولا رسائله السياسية، ولا يُذكر إلا بشكل عابر، ويحاول على الأرض حتى دفع الذين ما زالوا داخل سورية للخروج منها، وهو ما يُبرر استمرار معدلات اللجوء بالارتفاع رغم توقف معظم الأعمال القتالية.
محددات موقف النظام في قضية التغيير الديمغرافي
تواجه سياسة النظام لتثبيت التغير الديمغرافي في سورية جملة من المحددات، والتي يُحاول بناء استراتيجيته ضمنها. وأهم هذه المحددات:
يحاول النظام السوري بشكل معلن الظهور كمتجاوب مع المبادرات الروسية لإعادة اللاجئين، إلا أنه في الوقت نفسه لا يتقدّم بمبادرات ذاتية ولو للاستهلاك المحلي
1- موقف روسيا، والتي تسعى إلى تحقيق استقرار في سورية يُثبّت مكتسباتها الميدانية ويمكنها من المباشرة في جلب التمويل لإعادة الإعمار، بما يساعدها على تحقيق مكاسب اقتصادية، إضافة إلى رغبتها في تحقيق مصالح فاعلين آخرين، كتركيا، ضمن إطار أكبر للسياسة الخارجية الروسية.
2- موقف حلفاء النظام في لبنان، وخاصة التيار الوطني الحر، والذين يرغبون في التخفيف من الوجود السوري في لبنان، لاعتبارات لبنانية داخلية، وإن كانوا يتفهمون بالعموم سياسات النظام، بل ويشاركون في تنفيذها، كحزب الله.
3- موقف إيران، والذي لا يشاطر موسكو الرغبة في إعادة اللاجئين، ولا يحضر هذا الموضوع في خطابه السياسي إلا ضمن الحدود الدنيا.
استراتيجية النظام لتثبيت التغيير الديمغرافي
تقوم استراتيجية النظام على ثلاثة مكونات رئيسية، وهي عرقلة عودة اللاجئين، وشراء الوقت،
أولاً: عرقلة عودة اللاجئين
تُمثّل عودة اللاجئين إلى سورية أولاً، ثم إلى أماكن سكناهم الأصلية ثانياً، عاملاً حاسماً في الحد من التغير الديمغرافي للمجتمع السوري.
رغم أن مبادرات عودة اللاجئين الفاعلة حالياً هي مبادرات من حلفاء النظام (روسيا، حزب الله، جهاز الأمن العام اللبناني)، إلا أن النظام يقوم بوضع عراقيل تحدّ من أعداد العائدين
ويحاول النظام السوري بشكل معلن الظهور كمتجاوب مع المبادرات الروسية لإعادة اللاجئين، إلا أنه في الوقت نفسه لا يتقدّم بمبادرات ذاتية ولو للاستهلاك المحلي، كما يركّز على إعادة اللاجئين كمضمون في خطابه السياسي.
ورغم أن مبادرات عودة اللاجئين الفاعلة حالياً هي مبادرات من حلفاء النظام (روسيا، حزب الله، جهاز الأمن العام اللبناني)، إلا أن النظام يقوم بوضع عراقيل تحدّ من أعداد العائدين، وتؤثّر على نجاحها الفعلي. ومن أبرز هذه العراقيل:
1- فرض الموافقة الأمنية المسبقة: وهو إجراء يعادل في كل تفاصيله الحصول على “تأشيرة دخول” للسوري للسماح له بالعودة إلى سورية! حيث لا يمكن للاجئين في لبنان العودة من خلال أي مبادرة إلا بعد الحصول على موافقة أمنية من أجهزة النظام المعنية.
2- اعتقال بعض العائدين وإخفاء بعضهم بشكل قسري. وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان فقد قامت قوات النظام السوري باعتقال مالا يقل عن 1846 شخصاً من العائدين الى مناطق إقامتهم الأصلية، منذ مطلع عام 2017 وحتى آذار/مارس 2019، إضافة لتوثيق 13 حالة موت تحت التعذيب لعائدين خلال ذات الفترة الزمنية.
سمحت اتفاقيات المصالحة التي تمت مع المدن التي سيطر عليها النظام السوري وحلفائه خلال السنوات الماضية ببقاء من شاء من المدنيين فيها، إلا في اتفاق مدينة داريا، والذي قضى بإفراغ المدينة من سكانها بالكامل
3- منع العودة إلى مناطق الإقامة الإصلية، ويتم نقل العائدين في معظمهم إلى أماكن إقامة ومخيمات مؤقتة، وبالتالي فإنّ العودة تصبح شكلاً آخر من أشكال اللجوء، ولا تبقى خياراً إلا لأولئك الذين يعيشون ظروفاً غير إنسانية تماماً في أماكن لجوئهم، كما هو الحال بالنسبة لكثير من اللاجئين السوريين في لبنان.
4- تشجيع اللاجئين في لبنان على الهجرة إلى أوروبا، حيث يقوم عاملون في مكاتب مبادرة حزب الله لإعادة اللاجئين على إرهاب اللاجئين عند مقابلتهم، كما يقوم سماسرة يتواجدون قرب المكتب أو في المكتب نفسه أحياناً بعرض خدمات التهريب إلى أوروبا.
ثانياً: الضغط على المقيمين في المناطق العائدة لسيطرته
سمحت اتفاقيات المصالحة التي تمت مع المدن التي سيطر عليها النظام السوري وحلفائه خلال السنوات الماضية ببقاء من شاء من المدنيين فيها، إلا في اتفاق مدينة داريا، والذي قضى بإفراغ المدينة من سكانها بالكامل.
وفرضت هذه الاتفاقيات وجود رقابة روسية في بعض المناطق (وهو ما يساهم بشكل كبير في الحد من الانتهاكات التي يقوم بها النظام)، إلا أن الواقع أثبت أن النظام لم يقم بحملات واسعة على هؤلاء المدنيين حتى في غياب الرقابة الروسية، واكتفى بمستويات القمع غير الملفتة، بما يوازي الوضع قبل عام 2011.
يملك النظام السوري خبرة طويلة في استخدام “عامل الوقت” لتعظيم مكاسبه السياسية والميدانية
لكن امتناع النظام عن تنفيذ حملات انتقام واسعة جاء بالتوازي مع سياسات متعددة لخنق هؤلاء السكان، ودفعهم للتفكير بمغادرتها، أو على الأقل منع الآخرين الموجودين خارجها من التفكير بالعودة إليها. وتشمل هذه السياسات:
1- منع الأهالي من ترميم منازلهم المتضررة، وينطبق ذلك تحديداً على عدد من المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة وعادت لسيطرة النظام كالغوطة الشرقية، ما يجعل الإقامة في هذه المنازل شبه مستحيلة، نظراً لتضررها الجزئي أو الكلي.
2- التقاعس المتعمد عن إعادة تقديم الخدمات العامة مثل خطوط الكهرباء والهاتف الأرضي.
3- إغلاق مناطق محددة أمام السكان والأهالي والعائدين، دون أي سبب واضح، فعلى سبيل المثال فإنّه لا يحق لأهالي داريا ومالكي العقارات فيها العودة إلى المدينة التي سيطر عليها النظام بالكامل قبل أكثر من عامين ونصف.
4- عدم السماح لمن هم من خارج هذه المناطق من الدخول إليها وزيارة سكانها إلا بشروط، وضمن فترة محدودة خلال النهار مع ترك الهوية الشخصية لدى الحاجز الأمني. وينطبق هذا الأمر على معظم الغوطة الشرقية ومناطق أخرى.
ترتكز استراتيجة “شراء الوقت” في مجال تثبيت التغيير الديمغرافي على تأخير عودة اللاجئين ما أمكن، باستخدام كل الأدوات الممكنة، وتأجيل الحل السياسي قدر الإمكان.
5- تنفيذ عمليات هدم مستمرة لأبنية داخل هذه المناطق بذريعة تدمير أنفاق أنشأتها فصائل المعارضة المسلحة وبقايا متفجرات، لكن صور الأقمار الصناعية، بحسب تقرير لهيومن رايتس ووتش، أظهرت أن عمليات هدم المنازل تتم بآليات ثقيلة تتحرك على الأرض، مثل الجرافات والحفارات. وقال التقرير إنه من الواضح أن العديد من المباني التي تم هدمها كانت أيضا سليمة بشكل واضح، ومن المحتمل أن تكون مسكونة ولم يتم هدمها لأنها تضررت من جراء الغارات الجوية. كما تنشر وسائل إعلام النظام بشكل مستمر إعلانات عن قيام “وحدات الهندسة بتفجير عبوات ناسفة وذخائر من مخلفات الإرهابيين” في مناطق مختلفة ومتفرقة من ريف دمشق، وخاصة داريا (بعد مرور أكثر من عامين على السيطرة عليها).
ثالثاً: شراء الوقت
يملك النظام السوري خبرة طويلة في استخدام “عامل الوقت” لتعظيم مكاسبه السياسية والميدانية، وقد استخدام هذا العامل على نطاق واسع في كل ما يتعلق بالمجتمع السوري، حيث يمتلك في هذا الإطار قدرة أوسع على التأثير.
وترتكز استراتيجة “شراء الوقت” في مجال تثبيت التغيير الديمغرافي على تأخير عودة اللاجئين ما أمكن، باستخدام كل الأدوات الممكنة، وتأجيل الحل السياسي قدر الإمكان.
وتساعد هذه الاستراتيجية في تخفيض عدد من يرغبون بالعودة، وفي تغيير وقائع على الأرض تساعد على تخفيض هذا العدد بشكل أكبر في المستقبل، في حال تغير المعطيات الحالية، ووقوع النظام تحت ضغوط تدفعه لتقديم تنازلات في هذا الإطار.
تقوم استراتيجية النظام السوري على تثبيت وقائع على الأرض يصعب تغييرها، بغض النظر عن شكل الحل الذي سيفرضه عليه حلفاؤه، أو الذي سيفرض على حلفائه أنفسهم
وتتسق استراتيجية شراء الوقت مع الاستراتيجية الإيرانية عموماً، والتي تتسم بالنفس الطويل في كل مناطق نفوذها، وترى أن مرور الزمن على الوقائع غير المرغوبة يمكن أن يحوّلها إلى واقع يصعب تغييره، حتى لو تغيّرت الظروف التي سمحت بحصول هذه الوقائع.
وقد استُخدمت هذه الاستراتيجية بنجاح في العراق، إذ أدّت أعمال العنف التي شهدتها مناطق عديدة، وخاصة بغداد، إلى هجرة عدد كبير من السنة والمسيحيين إلى دول أخرى، ولا يُعتقد أن يعود هؤلاء إلى أماكن سكناهم الآن، رغم التغير الجزئي الذي حصل في المشهد الأمني بعد ذلك.
تقوم استراتيجية النظام السوري على تثبيت وقائع على الأرض يصعب تغييرها، بغض النظر عن شكل الحل الذي سيفرضه عليه حلفاؤه، أو الذي سيفرض على حلفائه أنفسهم.
ويستخدم النظام في الوقت الراهن أدواته الأمنية والقانونية على نطاق واسع، بشكل يُعيق عودة اللاجئين إلى سورية، وعودة النازحين إلى مناطقهم، وفي نفس الوقت يحاول الظهور بمظهر المتجاوب مع المبادرة الروسية لإعادة اللاجئين.