خلال احتفال شركة إنتل الأمريكية، المتخصصة بصناعة الرقائق الإلكترونية، بمناسبة مرور 40 عامًا على تأسيسها في “إسرائيل” عام 2015، قال نائب رئيس الشركة السابق، مولي عدن: “إذا اعتبرنا أن “إسرائيل” دولة ناشئة، فإن إنتل كان لها دور رئيسيًا في تحقيق ذلك”، مشيرًا إلى تأثير مليارات الدولارات التي ضختها الشركة في الاقتصاد الإسرائيلي على نموها، ومتكتمًا عن مخاوفها من المنافسين الجدد.
ومع وجود التقديرات والتوقعات التي تدلل على زيادة توسع إنتل في “إسرائيل” أكثر من أي وقت مضى، سنوضح في هذا التقرير حجم الاستثمارات ومدى فعاليتها في تنمية قطاع التكنولوجيا والابتكار وزيادة حجم العمالة في “إسرائيل”، وما علاقة الروابط الصينية الإسرائيلية بهذا التعاون الاقتصادي؟
مرحلة التأسيس
تعد إنتل من أكبر شركات التكنولوجيا متعددة الجنسيات في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي متخصصة في صناعة الرقائق الإلكترونية ومعالجات الحواسيب الشخصية، والعديد من القطع والأجهزة التكنولوجية الأخرى. تأسست الشركة في عام 1968 على يد روبرت نويس وغوردون مور، واتخذت وادي السيليكون في كاليفورنيا مقرًا رئيسًا لنشاطاتها.
صورة من عام 1976 لشركة “إنتل” الأمريكية
احتلت الشركة المرتبة الـ46 لأكبر شركات الولايات المتحدة من حيث إجمالي الإيرادات في عام 2018، وتعتبر ثاني أكبر شركة مصنعة للرقائق أشباه الموصلات في العالم والثانية أيضًا من ناحية الإيرادات وذلك بعد أن تخطتها شركة سامسونغ الكورية. توفر الشركات معالجات لشركات عدة، مثل: آبل وديل وأتش بي ولينوفو.
وبالرغم من أنها ابتكرت أول شريحة للمعالجات الدقيقة (Microprocessor) في العالم عام 1971، إلا أن نجاحها الحقيقي لم يظهر سوى مع انتشار أجهزة الحاسوب المحمولة، أي خلال التسعينيات، حين أصبحت المزود الرئيسي للمعالجات الدقيقة في السوق، فقد كانت معروفة آنذاك بسياساتها العدوانية والتنافسية على موقعها في القطاع، ولا سيما مع شركة “مايكروسوفت” التي تعاونت معها لعقود طويلة في تدشين البرامج والأجهزة الأساسية للحواسب الشخصية، ومن ثم توترت العلاقات في مرحلة ما لأن مايكروسوفت انشغلت في مغازلة شركاء جدد في السوق وأرادت الاستقلال عن إنتل، فيما كانت هذه الخطوة مخالفة لرؤية إنتل في الهيمنة على السوق.
إنتل في “إسرائيل”.. أكبر مشغل في الاقتصاد الإسرائيلي
افتتحت هذه الشركة أول مكتب لها في عام 1974 وأصبحت حينها إنتل “الشريحة الذكية” لإسرائيل، كما وصفها عدن سابقًا، آملًا أن تدوم هذه الشراكة إلى أعوام مديدة، فلقد ساعدت الشركة “إسرائيل” في وضع أولى خطواتها على طريق التكنولوجيا المتقدمة في العالم، كما أدت استثماراتها فيها إلى خلق قصة نجاح غير مسبوقة في عالم الابتكارات التكنولوجية. إذ تشير التقارير إلى أن استثمارات إنتل في “إسرائيل” قطفت ثمارها بعد 5 سنوات فقط من عقد أول اتفاقية تجارية بينهما.
كما أنها تقمصت دور المستثمر الرئيسي في سوق الشركات المحلية الناشئة، فمنذ عام 1996، استثمرت إنتل في 70 شركة محلية وأصبحت لاعبًا رئيسيًا في ريادة الأعمال الناشئة، فوفقًا لأبحاث الشركة، أسس الموظفون السابقون في الشركة 30 شركة جديدة كل عام، ما خلق 250 وظيفة جديدة سنويًا، وهو ما أضاف إلى سوق “إسرائيل” الصغير قوة عظيمة في مجال التكنولوجيا.
ونتيجة لذلك، تعززت العلامة التجارية لإسرائيل كمكان جذاب للاستثمارات الأجنبية التي وفرت لاحقًا آلاف الوظائف الإضافية ومنصات التدريب في مراكز التطوير والبحث، مضيفةً المزيد من الأرباح لصالح الاقتصاد الإسرائيلي، والكثير من الخبرات التي طورت المنتجات التكنولوجية الجديدة في سوقها، وتدريجيًا أصبحت إنتل أكبر شركة توظيف في القطاع الخاص في “إسرائيل”.
قامت باستحواذات واستثمارات تراكمية بقيمة 38 مليار دولار ووظفت أكثر من 11 ألف و700 موظفًا في مصانعها، محققةً نحو 4 مليارات دولار في عام 2018 من صادرات إسرائيل التكنولوجية
وذلك من خلال إدارتها لعدة معاهد وشركات أبحاث أكاديمية، مثل معهد إنتل للبحوث التعاونية المتخصصة في دراسة الذكاء الحسابي، لاستكشاف التقنيات التي تحاكي عمل الدماغ البشري، والذي بلغت قيمة إنشائه محو 15 مليون دولار أمريكي. أما على الصعيد الابتدائي والثانوي، فتدير الشركة برامج تعليمية تهدف إلى جذب اهتمام الشباب الإسرائيليين إلى العلوم والتكنولوجيا. وقد وصل عدد المنضمين إليها حوالي 500 ألف شخصًا، بميزانية وصلت إلى 5.5 مليون دولار.
ونظرًا لهذا الشوط الطويل الذي قطعته “إسرائيل” برفقة إنتل، ضمنت دولة الاحتلال ولادة جيل جديد من المهندسين والمبرمجين والفنيين المهرة، لتثبت “إسرائيل” من خلالهم أنها دولة ذات تكنولوجيا عالية، ولا سيما أنه لم تنشئ أي شركة وجودًا ضخمًا ومتعدد الأوجه مثل إنتل التي تعملها مصانعها بكفاءة وفعالية مثل مراكزها التي توجد في وادي السيليكون.
بالنهاية، أصبحت إنتل المصدر الأكبر للتكنولوجيا، فلقد شكلت أكثر من 9% من صادرات التكنولوجيا الإسرائيلية، والتي تمثل نصف إجمالي الصادرات -باستثناء الألماس-، وقامت باستحواذات واستثمارات تراكمية بقيمة 38 مليار دولار ووظفت أكثر من 11 ألف و700 موظفًا في مصانعها ومراكز التطوير والبحث، محققةً نحو 4 مليارات دولار في عام 2018 من صادرات إسرائيل التكنولوجية.
ساحة جديدة للمنافسة بين بكين وواشنطن
مع إعلان وزير المالية الإسرائيلي، موشيه كحلون، في بداية العام الحالي، أن شركة التكنولوجيا العالمية إنتل قررت استثمار نحو 11 مليار دولار في “إسرائيل” لتوسيع عملياتها، لوحظ ارتفاع الصادرات الإسرائيلية من أشبه الموصلات الحاسوبية لشركات الصينية بنسبة 80% لتصل إلى 2.6 مليار دولار في عام 2018، ما جعل الصين ثاني أكبر سوق صادرات للبضائع الإسرائيلية بعد الولايات المتحدة، فهي تملك 80% من مبيعات الشركة.
ومع اتجاه العديد من المستهلكين إلى شراء الأجهزة الذكية التي تتطلب رقائق إلكترونية لتصنيعها، وجدت الصين نفسها شريكًا تجاريًا مع أحد أكبر حلفاء أمريكا، ومع ذلك لم تضع حدًا لطموحاتها مع “إسرائيل” في سوق التكنولوجيا، فلقد حاولت 6 شركات صينية منافسة واشنطن في ملعبها من خلال مناقشة فرص الاستثمار مع صانعي الرقائق الإسرائيليين، لكن الأمر لا يزال تحت الدراسة.
أصبحت واشنطن طرفًا أساسيًا في العلاقات الصينية الإسرائيلية التجارية وهذا مقابل مصالحها الأمنية السياسية.
ففي الوقت الذي يراها البعض شراكة عظيمة الفرص وتحديدًا بالنسبة إلى الصين التي تسعى لريادة العالم في قطاع التكنولوجيا، إلا أن البعض الآخر يعتقد أن هذه الخطة قد تسبب بعض التوتر للعلاقات الصينية والأمريكية، ولا سيما أن الأخيرة تحاول أن تحد من نهضة صناعة التكنولوجيا في الصين وتستهدف توسعاتها التجارية داخليًا وخارجيًا، خوفًا على أمنها القومي الاستراتيجي وحفاظًا على ثقلها الاقتصادي.
وبالرغم من أن التبادلات التكنولوجية بين “إسرائيل” والصين عنصرًا مركزيًا ومستمرًا في علاقتهما، إلا أنها أيضًا كانت مسؤولة أيضًا عن الأزمة الحادة التي اندلعت بين الدولتين في يناير 1992، بعد أن استسلمت “إسرائيل” لضغوط الولايات المتحدة وتراجعت عن التزامها بتزويد الصين بالتكنولوجيات العسكرية، فهذا لم يجبر “إسرائيل” على قطع علاقتها الدفاعية مع الصين فحسب، بل جعل واشنطن طرفًا أساسيًا في العلاقات الصينية الإسرائيلية أيضًا، وهذا مقابل المصالح الأمنية السياسية.
فتح الصين محفظتها بسخاء لمساعدة “إسرائيل” في تنمية قطاع التكنولوجيا لديها، قد يشجعها على فتح أبوابها للاستثمارات الصينية التي تدرس مشروع تأسيس شركة مصنعة وموردة للرقائق الإلكترونية
ونظرًا لخيارات “إسرائيل” السياسية المحدودة، حولت علاقتها بالصين إلى الصناعات التكنولوجية المدنية لتعزيز مصالح سياساتها الخارجية، ومن المحتمل أن تعيد “إسرائيل” النظر في هذه المسألة مرة أخرى، خاصةً أن مكانة الصين اختلفت الآن على المسرح العالمي وباتت تُعرف بثاني أكبر اقتصاد في العالم، عدا عن الأرباح التي تكسبها شركاتها الناشئة من المستثمرين الصينيين والتي بلغت 325 مليون دولار في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2018.
ما يعني بكلمات أخرى، أن فتح الصين محفظتها بسخاء لمساعدة “إسرائيل” في تنمية قطاع التكنولوجيا لديها، قد يشجعها أيضًا على فتح أبوابها للاستثمارات والخطط الصينية التي تدرس مشروع تأسيس شركة مصنعة وموردة للرقائق الإلكترونية، ولكن في الوقت نفسه، تدرك “إسرائيل” أن توثيق علاقتها مع عمالقة التكنولوجيا الصينيين في هذا المجال قد يزعج واشنطن ويزيد من القيود التجارية على تحركاتها ونشاطاتها.