بدأت الأمومة في العقود القليلة الماضية بالتحوّل شيئًا فشيئًا عن الأفكار والتصوّرات المُسبقة التي لطالما ارتبطت والتصقت بها، ويرجع الأمر غالبًا لبدء خروج المرأة للعمل خارج المنزل وصعود الفكر النِّسوي وتغيير نُظم المجتمعات والأُسرة وفقًا لعوامل عدّة أهمها العولمة والرأسمالية والظروف الاقتصادية الأخرى.
وعلى الرغم من أنّ الأمومة كان يُنظر إليها على أنّها غريزة تحكمها البيولوجيا وتُعرّف المرأة بها، بدأ الكثيرون أو الكثيرات في العقود الأخيرة بالسعي نحو تغيير هذه الصورة النمطيّة القديمة. فباتت الكثير من الآراء ووجهات النظر ترى في عرض المرأة أو الفتاة كأمّ في مختلف السياقات هو أمر ضار للغاية ويؤدي إلى تنميط شخصيّتها وحرمانها من حرية اختيار هويتها وكينونتها.
غريزة فطريّة أمْ سلوك متعلّم؟
لفهم حقيقة الأمومة، علينا أنْ نعودَ إلى البداية، ولعلّ أكثر من يُفيدنا في هذا الجانب هم علماء الأنثروبولوجيا والبيولوجيا التطوّرية الذين عكفوا على دراسة المفاهيم المتعلّقة بالجنسين والأسرة. لكن في البداية علينا أنْ ننظر بعمق إلى مصطلح “غريزة” لنستطيع تحديدنا موقفنا فيما إذا كانت الأمومة غريزة فطريّة اختصّت بها الأنثى أم لا.
وبشكلٍ عام، ليكون السلوك غريزيًّا يجب أنْ يكون قبل كلّ شيء تلقائيًا ولا يمكن مقاومته أو مقاومة حدوثه، وأنْ ينشأ استجابةً لشيءٍ ما في البيئة ويحدث في مرحلةٍ معينة من مراحل التطوّر دون أنْ يحتاج إلى تدريبٍ أو أن يكون قابلًا للتعديل والتدخلّات الخارجية. وفي حال نظرنا إلى السلوكيات البشرية، لوجدنا أنّ عددًا قليلًا منها يمكن وصفها بالغرائز، حتى أنّ علماء النفس فضَلوا استبدال المصطلح بالدوافع. أيْ أنّ لدينا عددًا من الدوافع التي تدفع سلوكيّاتنا في اتجاهات محدّدة مسبقًا.
الأمومة ليست غريزة فطرية أو سلوكًا مكتسبًا، بل هي قرار تتخذه المرأة تبعًا لدافعٍ ما، والذي قد يكون ذاتيًا ناشئًا عن رغبتها الخالصة أو خارجيًا يتأثر بالعوامل المحيطة في المجتمع والإعلام والثقافات المختلفة
يمكن تطبيق هذا التعريف على الأمومة أيضًا. في مقال على موقع “سايكولوجي توداي”، تجادل الكاتبة أنّ الأمومة ليست غريزة فطرية أو سلوكًا مكتسبًا، بل هي قرار تتخذه المرأة تبعًا لدافعٍ ما، والذي قد يكون ذاتيًا ناشئًا عن رغبتها الخالصة في أنْ تكون أمًّا أو عن فضولها في ما معرفة ماذا يعني أنْ تكون أمًّا، أو قد يكون الدافع أيضًا خارجيًا يتأثر بالعوامل المحيطة في المجتمع والإعلام والسينما والثقافات التي تروّج للمرأة أنّ وظيفتها الأساسية والسامية في الحياة هي الإنجاب وتربية الأطفال.
من وجهة نظر بيولوجية بحتة، فإنّ المرأة أكثر ميلًا لتطوير الرغبة بالأطفال ورعايتهم من الرجل، هذا ما تخبرنا به كيمياء الدماغ حينما تبدأ مستويات هرمونات الأمومة بالارتفاع بمجرّد رؤية الأطفال الصغار أو الاتصال بهم. وبطبيعة الحال، تتغير المستويات عند كلا الجنسين لكن بشكلٍ أكبر عند الفتيات. ومع ذلك، لا يعني هذا أنّ الظروف الخارجية والاجتماعية لا تتحكّم في رغبة المرأة بأنْ تصبح أمًّا. إذ تخلص كاتبة المقال إلى أنّ السلوك الأكثر أهمية للأمهات يأتي بعد ولادة الطفل. إذ تبدأ المرأة بتطوير حسّ الأمومة وحبّ طفلها والعناية به، سواء كان مخطّطًا له أم لا. نجد الفرق بين الجنسين أيضًا في حالات التبنّي، فالمرأة أكثر تفاعلًا وتعاطفًا مع الطفل المتبنّى من الرجل.
كان الدعم الاجتماعي للأمّ حاسمًا للنجاح البشري في البقاء والاستمرار والتعاون الدقيق في رعاية الطفل هو الذي أدى إلى تطوّر الإنسان العاقل
وقد عكفت عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية سارة هردي على مدى ثلاثين عامًا تقريبًا على دراسة السلوك الأنثوي للبشر وغيرهم من الثدييات. ففي كتابها “الطبيعة الأم: غريزة الأمومة وكيف تشكّل الأنواع البشرية“، تعمل هاردي على تكوين وتشكيل وجهات نظر مختلفة حول الترابط بين الأم والرضيع من وجهة نظر اجتماعية وبيولوجية، لتستنج في صفحات كتابها أنّه لا يوجد ما يُسمّى “غريزة الأمومة”، فهي تعتمد على عددٍ من المتغيرات البيئية والاجتماعية. ما يعني أنّ الأمومة ليست غريزةً فطرية تتميّز بها النساء كما كان يُعتقد من قبل، بل هو سلوكٌ تتعلّمه الأنثى بمرور الزمن.
عام 2009، كتبت هردي كتابها المثير للجدل “الأم والآخرون” والذي سعت من خلاله أكثر وأكثر إلى تفنيد الصور النمطيّة الثقافية والمجتمعية عن الأمومة. فتجادل بأنّ الدعم الاجتماعيّ كان حاسمًا للنجاح البشري في البقاء والاستمرار، وأنّ التعاون الدقيق في رعاية الطفل هو الذي أدى إلى تطوّر الإنسان العاقل الذي لم يكن قابلًا للحدوث لولا استثمار كلٍّ من الذكر والأنثى في رعاية الطفل وتطوير مهاراته الشخصية والاجتماعية.
وهي بذلك تؤكّد على ما قدّمته في كتبها وأطروحاتها السابقة بأنّ رعاية الطفل والعناية به لم تكن يومًا حكرًا على المرأة أو الأنثى التي لطالما كانت لها شخصيتها المنفردة وحاجاتها المميزة، بل هي حصيلة تعاون جمع من الأشخاص بما في ذلك الأب والأقارب والقبيلة والجماعة ككلّ. تمامًا كما تنفي الصورة النمطية التي يروّج لها العديد من الباحثين والأكاديميّين بأنّ الرجل كان مشغولًا في رحلات الصيد وجمع الغذاء فيما كانت المرأة جليسة كهفها ترعى أطفالها وتهتمّ بهم.
هوية متناقضة.. امرأة أم أمّ؟
منذ بدء الموجة الثانية للحركة النسوية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كان موضوع الأمومة حاضرًا ومحوريًا في الحجة التأسيسية للحركة. فطالبت النساء بأجور متساوية في العمل للأمهات، وتخفيف العبء عنهنّ وبإجازات الأمومة ورعاية أطفالهنّ وجداول العمل المرنة، وغيرها من النداءات التي تصدّرت الخطاب النسوي في تلك الفترة. لكنّها في الوقت نفسه ركّزت أيضًا على هوية المرأة المتناقضة والتائهة من تقويضها في نطاق الأسرة ورعاية العائلة والأطفال.
إذ تصرّ النقاشات النسوية منذ ذلك الوقت على التفريق بين مفهوميْ المرأة والأم بصفتهما مفهومين متناقضين، وهي بذلك تدعو المرأة إلى عدم تعريف نفسها كأم وإنما كوجود شخصي فردي تُثبت من خلاله هويّته الخاصة وكينونتها المنفردة. تعبّر الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار عن ذلك قائلةً بأنّ المرأة “ستظل مستعبدة حتى يتم القضاء على خرافة الأسرة، وخرافة الأمومة، والغريزة الأبوية”.
تصرّ النقاشات النسوية منذ ذلك الوقت على التفريق بين مفهوميْ المرأة والأم بصفتهما مفهومين متناقضين، وهي بذلك تدعو المرأة إلى عدم تعريف نفسها كأم وإنما كوجود شخصي فردي تُثبت من خلاله هويّته الخاصة وكينونتها المنفردة
وبذلك يمكننا أنْ نرى أنّ النسوية تنظر للأمومة بطريقةٍ راديكالية نوعًا ما. فإلى جانب دي بوفوار، كانت النسوية الأمريكية شولاميث فايرستون ترى أيضًا بأنّ المرأة لن تتحرر من النظام الأبوي حتى يتمّ تحريرها من عبودية الإنجاب، ما يعني تحرير خضوعها الجسديّ للولادة والأمومة والنظام الذكوري الذي يحكم المجتمعات. على النقيض من ذلك الرأي المتشدد، ثمّة الكثير من الآراء النسوية التي ترى أنْ المشكلة تكمن في الفكرة الأبوية عن الأمومة وليس في التجربة الفعلية للأمومة نفسها.
بالمحصلة، الكثير من الآراء النسوية والأنثروبولوجية الحديثة قد لا تتفق مع رؤية المجتمعات العربية والإسلامية للإنجاب والأمومة والأسرة التي هي لبنة المجتمع الأساسية والتي تحمل أهمية كبيرة في الخطاب الإسلاميّ. ما يجعل من تلك الآراء ووجهات النظر غير صالحة للتطبيق على واقعنا. لكن مما لا شك فيه أنّنا سنكون دومًا في حاجةٍ إلى إعادة تفكير في مفهوم الأمومة ووظيفة المرأة كأم وكيف يتداخل ذلك أو يتعارض مع هويّتها الشخصية والفردية المميزة. وممّا لا شكّ فيه أيضًا أنّ الأمومة مثلها مثل الكثير من الجوانب الخاصة في حياة المرأة هي مسألة خاضعة لقرارها الشخصي الذي لا يستطيع المجتمع فرضه عليها طالما وعيت هي بانعدام رغبتها أو برغبتها بتأجيل القرار وتأخيره إلى مرحلة متقدّمة جدًا. عندها قد تصبح المرأة متصالحة أكثر مع ذاتها كفردٍ له كينونته الخاصة ومع دورها كأمٍّ بقرارها الذي اتخذته هي دون أيّ تأثيرٍ خارجيّ.