لازال الجزائريون يتذكرون رئيسهم اليامن زروال، الذي قاد الجزائر للخروج من أخطر نفق عرفته البلاد عقبَ ثورة التحرير الجزائرية، بعد تبوئه رئاسة الجزائر بأنتخابات1995 قاد بنفسه البلاد نحو انتخابات وُصفت بالمُبكرة رافضاً ترشيح نفسه مُجدداً. حيث عاد بعد نهاية عهدته إلى منزله المتواضع في مسقط رأسه باتنة وهو تقليد لا نجده إلا في الديمقراطيات العريقة، مشهدٌ لم يألفه الجزائريون كسيناريو مُكرر لنمطية الحياة السياسية، بعد وصول الرئيس الحالي لسدة الحكم سنة1998، وانسحاب جميع المرشحين حسين آيت أحمد، مولود حمروش، مقداد سيفي، أحمد طالب الإبراهيمي، عبد الله جاب الله، يوسف الخطيب، بتهمة عمليات التزوير لصالح بوتفليقة بعد حصوله على تأييد مؤسسة الجيش.
لا يتعظ الحكام العرب لا من تاريخهم ولا تاريخ أقرانهم، كما إنهم لا يستفيدون من تجاربهم ولا تجارب غيرهم، وحدها نزعة البقاء وقهر إرادة الشعوب هي الهوية الخاصة لهم، وسعيهم الدءوب نحو السؤد والبقاء على جماجم الجياع والمشردين تُعتبر طفرة في الذكاء، ونقيصة لو تم التراجع والاعتراف.
رغبة الجزائريين والرد السلطوي والحكومي الرسمي، لا تتشابه في المضامين مع باقي الدول التي شهدت موجات الربيع العربي
يتشابه حال الجزائريون مع أقرانهم من السوريين، فالثانية مُيعت حركتهم وقوضت بمفاعيل دولية بغية أتمام مشاريعهم المُنسفة لترويجاتهم حول قضايا حقوق الإنسان والقوميات والشعوب في تقرير مصيرها، والأولى تتجه صوب أن تكون قضية الشعب، قضية أمنية تخص الرؤية الدولية والإقليمية، عوضاً عن قضية شعب نفذ صبره والمخزون الاحتياطي للصبر. يُخال للكثيرين من الجزائريين، رغبة دولية في منع أيَّ صدامً أو نزاع مسلح، مردودٌ لثلاث أسباب مُركبة، أولها: إعادة أحياء ثورة الياسمين التونسية في الجزائر والانتقال السلس مع الحفاظ على المؤسسات الرسمية، وعدم تكرار سيناريوهات الربيع العربي في مصر وليبيا، وبشكل خاص في سوريا، منعاً لسورنا الجزائر. وثانيتهما: قدّ يشهد العالم العربي ودول الجوار الإقليمي تتمة للربيع العربي في دول أخرى تجد في التجربة الجزائرية نبراساً للإقتداء به، كما حصل في تونس وباقي الدول، وثالثتهما: الوضع الإقليمي الحدودي للجزائر مع اسبانيا والبرتغال وإمكانية هجرة الجزائريين إليهما ومنها صوب أوربا وما قد يفتح باب هجرة مئات الآلاف من الأفارقة غير العرب أيضاً.
رغبة الجزائريين والرد السلطوي والحكومي الرسمي، لا تتشابه في المضامين مع باقي الدول التي شهدت موجات الربيع العربي، بوتفليقة يسعى نحو أكبر نُكتة في التاريخ العربي الحديث “لا ترشح، لا انتخابات، تمديد، ثم ترشيح قيادات شابة” من جهة تالية وجه الاختلاف الثاني أن دوائر السلطة واتخاذ القرار ورجالات الحكم وجدت نفسها في موقف صعب جداً، أيضا لسببين مركبين، الأول من اللامعقول أن يكون دوائر الحكم كُلها متجانسة لحماية بوتفليقة أو تطابق وتوحد مصالح الطبقة السياسية الحاكمة أو أن تكون متجانس بعد أعوام من توزع مراكز النفوذ والقوة واتخاذ القرار بعد شبه انعدام قدرة بوتفليقة الجسدية والعقلية، والثانية: الجزائريون لن يعودوا إلى منازلهم ما قد يهدد وجودهم ومصالحهم، إضافة إلى التأهب النفسي للشارع الجزائري للبقاء في حالة التظاهر والاستعداد للتصادم أيضا. وكمخرج رُبما يسعى لطرح مرحلة انتقالية حتى التوافق على شخصية تحمي مصالح حزب بوتفليقة وباقي الأحزاب والأطراف المشاركة في العلمية السياسية في الجزائر.
يجد الجزائريون أنفسهم، شأنهم شأن جميع الشعوب العربية، أمام خيارات مصطنعة تهدف لإفشال حركتهم ووضعهم أمام جدلية
ولن تكون مُخيلة دكتاتور وذاكرته مثقوبة ومهترئة لدرجة أن ينسى إبعاده عن دائرة القرار والسلطة إبان تسلمه وزارة الخارجية سنة1978، ما قدّ يدفعه في نهاية المطاف بعد تأكده من عقد الجزائريين للعزم النهائي على طرده من السلطة مُجدداً، التفكير بممر شرفي تاريخي له، ولن تكون تظاهرات مناصريه حينها مُدهشة، والأكثر لا دهشة إن رفض الترشح أو التمديد، تحت حجة حماية السلطة، إلى حين أتفاق الطبقة السياسية الحاكمة والأمنية والعسكرية على مرشح توافقي، سعياً لكسب أنجاز سياسي له، مُغادرً دون دماء. ولعل إقحام الأخضر الإبراهيمي الفاقد لأي صفة جزائرية رسمية، وترأسه للندوة الوطنية حول المستقبل السياسي للبلاد، والتي ستضم ممثلين عن المتظاهرين، قدّ ينقل الإبراهيمي إلى نوع جديد من الوساطة بين أبناء البلد الواحد، وهو المقرب من بوتفليقة، ما يجعل الشارع الجزائري في حالة شك وريبة من الوسيط، خاصة بعد فشله في سوريا.
يجد الجزائريون أنفسهم، شأنهم شأن جميع الشعوب العربية، أمام خيارات مصطنعة تهدف لإفشال حركتهم ووضعهم أمام جدلية، مع أو ضد الجزائر بغية استمرارها كمزرعة خاصة بالنخب الناهبة والحاكمة مع استمرارية غياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات وإضعاف الحقوق الطبيعية والحياة الدستورية. أو مهزلة نقاشات ومفاوضات بعيدة عن السياسة الواقعية واقرب منها إلى التمييع بحجة نشوب حرب أهلية أو الذهاب إلى انتخابات شكلية مزّورة للابتعاد عن دكتاتورية عسكرية أو ربما كانت دعاية سورنا الجزائر في طريقها للإعلان ولن يكون غريبا أن نجد داعش قد ظهر في الجزائر، مع ذلك لن تنتكس إرادة الجزائريين ما حصل للسوريين من مؤامرات على مطاليبهم.
بعد عقود من اندثار أحلام الجزائريين للعودة إلى الحياة السياسية عقبَ الإبداع والابتكار في الإبعاد والاحتكار، يحلم الشباب الجزائري أن يكون جزء من المجتمع السياسي نفسه
يعتقد بوتفليقة أن المساس به هو مساس بهيبة الدولة وسيادتها الوطنية، لكن رئيساً لم يخطب سوى بضع مرات قليلة خلال سبع سنوات، ويعجز عن استقبال الوفود والرؤساء وحضور المؤتمرات الخارجية كباقي الرؤساء، وعاجز عن الذهاب إلى الحمام بمفرده، لا يعتبر بقائه رئيساً مسً بسيادة الدولة الوطنية ووطنية الجزائريين، هذه هي الجزائر بعهدة بوتفليقة، بختصار.
ثمة تشابهاً بين الشعب في كُردستان العراق، والشعب الجزائري. كلاهما عانى من جور رأس النظام. فالكُرد دفعوا القرابين والثمن باهظاً بعد اتفاقية الجزائر بين الشاه الإيراني وصدم حسين، بإشراف الرئيس الجزائري حين ذاك، هواري بومدين، بموجبه تخلت إيران عن دعم الثورة الكُردية بقيادة الجنرال مصطفى البارزاني في وجه النظام العراق الذي أذاق جميع شرائح العراقيين الذل والظلم والجور، وهاهم أبناء الجزائر ينتفضون لإنهاء سنوات الظلام.
بعد عقود من اندثار أحلام الجزائريين للعودة إلى الحياة السياسية عقبَ الإبداع والابتكار في الإبعاد والاحتكار، يحلم الشباب الجزائري أن يكون جزء من المجتمع السياسي نفسه، ولسان حالهم اليوم: ولاية خامسة ليست سوى استمرار خضوعهم لفساد والنهب الافتراسي في جسدهم.