تزامن ربما يكون عادلا، وذو دلالة رمزية قوية، وإن غاب عنه القصد، فبعد أيام قليلة من واقعة مسجدي نيوزيلندا الجمعة الماضية، تلك المذبحة التي مارس خلالها منفذها (برنتون تارانت) بعض الطقوس العنصرية على رأسها ارتكاب جريمته على أنغام الأغنية الصربية التي تمجد السياسي رادوفان كاراديتش، الملقب بـ”سفاح البوسنة”، هاهو الأخير يواجه حكما بالحبس مدى الحياة.
بالأمس أٌسدل الستار على الفصل الأخيرة من قصة حياة جزار صربيا بعد ربع قرن من مذبحة ” سربرنيتسا” التي تعد واحدة من أبشع المذابح ضد الإنسانية في العصر الحديث، وذلك بعدما بعدما أصدرت محكمة الجنايات الدولية بمدينة لاهاي الهولندية حكمًا نهائيًا بالسجن المؤبد ضد “كاراديتش” بعد إدانته بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال حرب البوسنة (1992-1995)، التي قتل فيها أكثر من 200 ألف مسلم.
وكان قد ألقي القبض على “سفاح البوسنة” في صربيا يوم الإثنين 21 يوليو 2008 وهو على متن حافلة في العاصمة الصربية، حيث كان يحمل أوراقاً وبطاقة هوية مزيفة، بعد 13 عاما قضاها هاربًا، ليغلق التاريخ واحدة من أسود صفحات العنصرية ضد المسلمين في العصر الحديث.
شاعر وطبيب نفسي
ولد رادوفان كاراديتش في 19 يونيو 1945 في بيتنجيكا بالجبل الأسود في يوغوسلافيا السابقة، كان يعمل والده بالجيش الملكي اليوغسلافي وقضى جزءًا كبيرًا من حياته في السجن، وفي سن الخامسة عشر انتقل إلى سراييفو حيث التحق بكلية الطب جامعة سراييفو في 1960 ليتخرج من قسم الطب النفسي بها.
عمل طبيبا في جامعة كولومبيا في نيويورك لمدة عام وذلك في 1975 ليعود بعدها إلى يوغسلافيا حيث عمل بمستشفى كوسوفو كطبيب نفسي، إلا أنه كان مولع بالأديب الصربي دوبريتسا تشوسيتش الذي كان له تأثير قوي في خوضه غمار السياسة وترك مجال الطب بصورة شبه نهائية.
في عام 1989 شارك في تأسيس الحزب الديمقراطى الصربى (Srpska Demokratska Stranka) في البوسنة والهرسك الذي كان على قائمة أهدافه جمع الجمهورية الصربية البوسنية، وتطهير البلاد من المسلمين البوسنيين والمعروفين باسم “البوشنياق”، ليصبح الرجل ذو الأفكار العنصرية فيما بعد زعيما سياسيا للصرب.
أثناء مثوله للمحاكمة
مذبحة سربرنيتسا
في يوليو 1995، شهدت البوسنة واحدة من أسوأ الجرائم الإنسانية المرتكبة منذ الحرب العالمية، والتي حملت اسم “سربرنيتسا” تلك المجزرة التي راح ضحيتها ما يقرب من 8 ألاف مسلم في أيام معدودة، حين قامت القوات الصربية وباوامر مباشرة من أعضاء هيئة الأركان الرئيسية لجيش جمهورية صربيا القادة-العسكريين والسياسيين- بالقيام بعمليات تطهير عرقي ممنهجة ضد المسلمين، على مرأى من الفرقة الهولندية التابعة لقوات حفظ السلام الاممية دون أن تقوم بأي شيء لإنقاذ المدنيين.
القوات الصربية كانت قد طلبت من المسلمين في البوسنة تسليم أسلحتهم والاستسلام وتسليم بلدتهم ، الأمر الذي قوبل بالرفض، لتدخل العناصر المسلحة من قوات صربيا، لتقوم بعدها بتصفية الذكور بين 14 و 50 عاماً، ثم تغتصب النساء في عمليات ممنهجة تم توثيقها فيما بعد.
حُمل كاراديتش والجنرال راتكو ملاديتش الذي قاد المليشيا الصربية بالإضافة للعديد من القادة السياسيين والعسكريين وشبه العسكريين المسؤولية عن عملية الإبادة تلك، الأمر الذي تفاعلت معه معظم الهيئات الحقوقية الدولية والمنظمات الأممية، ليقدموا إلى محاكمات عاجلة لكن سرعان ما فر المتهمون هاربين.
في تسجيل صوتي استمعت إليه محكمة لاهاي توعد السفاح مسلمي البوسنة قائلا “عليهم أن يدركوا أن هنالك عشرين ألف صربي مسلح بأنحاء سراييفو… سيكون موقفا أشبه بمرجل أسود يموت فيه ثلاثمائة ألف مسلم”. وأضاف “هؤلاء الناس سيختفون من على وجه البسيطة”.
المسئولية حينها تجاوزت الجزار ومعاونيه، ففي عام 2005، أشار الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي عنان في رسالة الاحتفال بالذكرى السنوية العاشرة للإبادة الجماعية،إلى أن اللوم يقع بالدرجة الأولى على أولئك الذين خططوا ونفذوا المذبحة والذين ساعدوهم ،ولكنه يقع أيضا على الدول الكبرى والامم المتحدة كون الاولى فشلت في إتخاذ إجراءات كافية ، والثانية – أي الأمم المتحدة- ارتكبت أخطاء جسيمة قبل وأثناء وقوع المجزرة ، ولذلك ستبقى مأساة سربرنيتشا نقطة سوداء في تاريخ الأمم المتحدة إلى الأبد.
تعذ مذبحة سربرنيتسا واحدة من أسوأ الجرائم ضد الإنسانية في العصر الحديث
13 عاما من الهروب
ظل سفاح البوسنة هارباً من وجه العدالة لوقت طويل بلغ 13 عاما منذ ارتكاب مذبحته في عام 1995، وكانت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية قد عرضت مبلغ خمسة ملايين دولار أمريكي جائزة لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه ومعاونه راتكو ملاديتش.
ألقي القبض عليه 21 يوليو 2008، وهو على متن حافلة في العاصمة الصربية؛ حيث كان يحمل أوراقا وبطاقة هوية مزيفة، وقد تبين فيما بعد أن كاراديتش كان يعمل في عيادة خاصة متخفياً تحت شعر أبيض ولحية بيضاء كثيفة وطويلة، ويحمل أوراقاً ثبوتية مزورة ويعيش حياة شبه طبيعية مدعياً أنه رجل غير صربي ويعمل في مجال الطب البديل مستفيداً من خلفيتة الطبية ويتنقل تحت اسم دراجان بابيتش.
وفي بدايات 2009 خضع الطبيب السفاح للتحقيق على يد قاض صربي، لتستمر محاكمته قرابة 3 سنوات، لكن ساحة المحاكمة انتقلت فيما بعد إلى المحكمة الدولية لجرائم الحرب في لاهاي عام 2012، حيث كان مدرجا على قوائمها متهما بارتكاب جرائم حرب إبان الحرب الأهلية اليوغوسلافية التي نشبت عقب سقوط الاتحاد السوفيتي
ألقي القبض عليه في 2008
المؤبد.. حكما نهائيًا
لم تكن مذبحة”سربرينيتشا” هي التهمة الوحيدة التي يحاكم بها كاراتيتش، فخلال الأعوام السبعة التي خضع فيها للتحقيق في لاهاي، وجهت له المحكمة أربعة عشر اتهاما بجرائم ارتكبت ضد الإنسانية خلال الحرب البوسنية، وفي 24 مارس 2016 تم الحكم عليه بالسجن لمدة 40 عاماً.
ورغم الجرائم التي ارتكبها إلا أنه بدا واثقاً من نفسه خلال المحاكمات، وتوقع تبرئته من تهمة الإبادة الجماعية وجميع التهم الأخرى، بينما كانت تختتم محاكمته الخاصة بجرائم الحرب والتي استمرت خمس سنوات، وتوقف القضاة لإعادة النظر في أحكامهم.
وبعد عشرات الجلسات القضائية ما بين المحاكم الصربية والدولية، تلقى الجزار أمس صفعته الأقوى ليسدل الستار على الفصل الأخير من المسرحية الدموية، بعدما أصدرت محكمة الجنايات الدولية حكمًا نهائيًا بالسجن المؤبد، بعد تأكيدها إدانته بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية خلال حرب البوسنة (1992-1995)، التي قتل فيها أكثر من 200 ألف مسلم.
صفحات سوداء سطرها السفاح( المسيحي) بدماء الآلآف من ضحاياه مسجلا بها تاريخا مشينا من العنصرية ضد المسلمين، تلك التي يبدوا أنه ما آن ألاوان لأن تتوقف في ظل استمرار معين الحقد والكراهية الذي يغذي الكثير من مناطق العالم