لا تزال أصداء مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية، الخميس الماضي، بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، تلقي بظلالها على المشهد العالمي، وسط تباين المواقف وردود الفعل بشأنها بين مرحب ومتردد ومهدد بالتصعيد ضد المحكمة لتجرؤها على اتخاذ مثل هذه الخطوة رغم التحذيرات التي تعرضت لها على مدار أكثر من 6 أشهر كاملة.
المحكمة قالت في بيانها لهذا القرار إن هناك “أسبابًا منطقية” للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، وهو الاعتقاد الموثق بالأدلة الدامغة، بالصوت والصورة، في عشرات التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية، المحلية والإقليمية والدولية، بشأن الجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحق أطفال ونساء وشيوخ غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ولا تزال حتى اليوم.
القرار – رغم رمزيته في المقام الأول – أصاب رئيس وزراء الاحتلال بحالة من الصدمة وفقدان التوازن بعيدًا عن مزاعم التماسك والثبات، فيما أحدث ارتباكًا واضحًا لدى الوسط الإسرائيلي وحليفه الأمريكي، وهو ما تترجمه التصريحات الحادة والتحذيرات المتطرفة والتهديدات العنصرية التي تتوعد المحكمة ومدعيها العام، والتي لم تتوقف منذ صدور القرار وحتى كتابة هذا التقرير ويتوقع أن تستمر لفترة ليست بالقصيرة.
وكانت حكومة الاحتلال قد سبق وأشارت إلى أن قرارات الجنائية الدولية ليست مُلزمة لـ”إسرائيل”، كونها ليست عضوًا بها، وبالتالي ليس من اختصاصها إصدار مثل تلك القرارات بحق الدولة المحتلة، وهي المسألة الجدلية التي حسمتها المحكمة حين أكدت على ولايتها على أراضي دولة فلسطين المحتلة، الدولة العضو بها، وأن قراراتها تشمل كل من يرتكب جرائم إبادة ضد الإنسانية فوق تلك الأراضي، ما يمنحها الحق في محاكمة أي مسؤول أيا كانت هويته، إسرائيلي أو غير إسرائيلي، إذا أقدم على ارتكاب انتهاكات ترتقي لجرائم حرب داخل فلسطين.
منذ اليوم الأول لدراسة طلب المدعي العام للمحكمة كريم خان، بصدور مذكرة اعتقال بحق قيادات إسرائيلية – بجانب أخرى من حماس – واجهت الجنائية الدولية شكوكًا قوية في قدرتها على اتخاذ مثل هذا القرار الصعب، في ظل ما تتعرض له من تحذيرات وتهديدات من أعضاء في الكونغرس الأمريكي، لكن يبدو أن المحكمة نجحت بالفعل في المرحلة الأولى من هذا الاختبار.. فكيف وصلت إلى تلك المحطة؟ وما ردود الفعل والتداعيات المحتملة؟
الطريق إلى مذكرة الاعتقال
كشفت دولة الاحتلال منذ بداية الحرب في غزة عن وجهها العنصري القبيح في استهدافاتها العسكرية والتي ركزت على الأطفال والنساء وكبار السن، فضلًا عن التدمير الممنهج لكل مقومات الحياة، والتخطيط لتركيع الفلسطينيين عبر استراتيجية الحصار والتجويع، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة ومنددة، تصاعدت معها مطالب باتخاذ مواقف دولية لوقف تلك الانتهاكات والجرائم التي وصلت إلى مستوى جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية.
في يناير/كانون الثاني 2024 فوجئ العالم بدعوى رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها “إسرائيل” بارتكاب جرائم إبادة جماعية، بما يخل بالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية، وبعد الاطلاع على الأدلة والوثائق والتقارير الحقوقية الموثقة بالصوت والصورة، طالبت المحكمة في 24 مايو/أيار الماضي بالوقف الفوري للعمليات العسكرية الإسرائيلية في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة وانسحاب قواتها، دون أن تأمرها بوقف كامل لإطلاق النار.
الدعوى تعاملت معها حكومة نتنياهو بنوع من الصلف وتوجيه الانتقادات للمحكمة وتهميش دورها وقراراتها، لكن الأمر أصبح أكثر زخمًا بعد انضمام دول أخرى – بينها نيكاراغوا وإسبانيا – إلى الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا، تزامن هذا الحراك مع إعلان بعض الدول اعترافها بفلسطين كدولة مستقلة، وتجميد دول أخرى علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب، وسط تصاعد المخاوف في الداخل الإسرائيلي من شبح العزلة الدولية.
في 20 مايو/أيار الماضي – وقبل إصدار العدل الدولية توصياتها للاحتلال بأربعة أيام فقط – باغتت الجنائية الدولية العالم بطلب مدعيها العام كريم خان إصدار مذكرات توقيف بحق قادة من حركة حماس (يحيى السنوار ومحمد الضيف) ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه – آنذاك – يواف غالانت، على خلفية عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وما تلاها من الحرب على غزة.
وكعادة نتنياهو المغرور الموبوء بالعنجهية المزيفة وصف هذا الطلب حينها بأنه “سخيف”، فيما سلط سهام نقده وهجومه ضد المدعي العام للمحكمة كريم خان، ناعتًا إياه بأنه أحد “أبرز المعادين للسامية في العصر الحديث”، وبالفعل شاركه في ذلك الهجوم رواد الصهيونية العالمية من حلفاء تل أبيب في الداخل الأمريكي.
لكن رغم كل ما تعرضت له الجنائية الدولية من ضغوط وتهديدات، أمريكية وإسرائيلية، لم يحل ذلك دون صدور مذكرة الاعتقال التي كان يستبعدها الكثيرون لأسباب ومقاربات كثيرة، وهو الخطوة التي من المتوقع أن يكون لها صداها على مستقبل المحكمة والمدعي العام على وجه التحديد.
المحكمة في حيثيات قرارها قالت إن نتنياهو وغالانت متهمان بـ”جريمة الحرب المتمثلة في استخدام التجويع وسيلة للحرب، والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد وغيرها من الأعمال اللاإنسانية”، ورأت أن “ثمة أسباب معقولة للاعتقاد بأن المتهمين حرما عمدًا وعن علم السكان المدنيين في غزة من الأشياء التي لا غنى عنها لبقائهم – بما في ذلك الطعام والماء والأدوية والإمدادات الطبية، وكذلك الوقود والكهرباء – منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على الأقل إلى 20 مايو/أيار 2024”.
وأضافت في بيانها المنشور على موقعها: “من خلال تقييد أو منع وصول الإمدادات الطبية والأدوية إلى غزة – لا سيما مواد وآلات التخدير – فإن الرجلين مسؤولان أيضًا عن إلحاق معاناة كبيرة عن طريق أعمال غير إنسانية بالأشخاص الذين يحتاجون إلى العلاج”، محملة المجرمين الإسرائيليين المسؤولية عن الأعمال التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية تحت قيادتهما، بما في ذلك حالات التعذيب والعنف الوحشي والقتل والاغتصاب وتدمير الممتلكات.
وأوضحت المحكمة أنها رفضت طلبين كانت قد تقدمت بهما “إسرائيل” في 26 سبتمبر/أيلول 2024، الأول يتعلق بالطعن في اختصاص المحكمة بشأن الوضع في دولة فلسطين بشكل عام، وعلى المواطنين الإسرائيليين بشكل أكثر تحديدًا، على أساس المادة (2/19) من النظام الأساسي، أما الثاني فيتعلق بطلب الاحتلال من المحكمة أن تأمر الادعاء بتقديم إخطار جديد بشأن بدء التحقيق إلى سلطاتها بموجب المادة (1/18) من النظام الأساسي، كذلك طلب وقف أي إجراءات أمام المحكمة في الحالة ذات الصلة، بما في ذلك النظر في طلبات إصدار أوامر اعتقال لنتنياهو وغالانت، التي قدمتها النيابة العامة في 20 مايو/أيار 2024.
قرار استثنائي
يعتبر قرار الخميس استثنائيًا بكل المقاييس وذلك لأمرين أساسيين:
الأول: أن كل مذكرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة منذ تأسيسها عام 2002 اقتصرت على القادة والزعماء في إفريقيا وآسيا وخصوم الولايات المتحدة والغرب بصفة عامة، وكان من أبرزهم: الرئيس السوداني السابق عمر البشير عام 2008، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين 2023، الزعيم الصربي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش 1999، هذا بخلاف عدد من القادة الآخرين منهم: الرئيس السابق لساحل العاج لوران غباغبو 2001، الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور 2006، الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا 2014، كذلك سيف الإسلام القذافي، نجل الرئيس الليبي السابق معمر القذافي 2011.
الثاني: الشكوك التي رافقت المحكمة بشأن موضوعيتها ومهنيتها واستقلاليتها ودرجة الشفافية التي تتمتع بها، وهو ما أفقدها ثقة الكثيرين بعدما تحولت إلى سلاح وأداة بأيدي المعسكر الغربي في استهداف خصومه.
وعليه فإن إصدار مذكرة بحق مسؤولين بحجم رئيس حكومة “إسرائيل”، الحليف الأبرز للولايات المتحدة والابن المدلل للمعسكر الغربي، ووزير دفاعها، هو سير عكس الاتجاه، وتغريد غير متوقع خارج السرب، ويمثل تغييرًا جذريًا في قواعد اللعبة بالنسبة للعدالة الدولية، التي كانت حتى الآن تركز على “المهزومين أو المنبوذين أو أعداء الغرب”، بحسب وصفة صحيفة “لوموند” الفرنسية، ومن ثم كانت الصدمة والمفاجأة التي أحدثها هذا القرار الذي قد لا يكون الأخير من نوعه، إذ هناك تخوفات لدى الجانب الإسرائيلي من استهداف شخصيات سياسية وعسكرية أخرى على رأسها رئيس الأركان هرتسي هاليفي.
ماذا يُفترض أن يترتب على هذا القرار؟
يُفترض قانونًا أنه بعد صدور هذه المذكرة بشكل رسمي أن تلتزم الدول الأعضاء في المحكمة، والموقعة على ميثاق روما، والبالغ عددها 124 دولة بما جاء فيها، ومن ثم توقيف كل من نتنياهو وغالانت في حال وجودهما فوق تراب تلك الدول، ما يعني أن كلا المجرمين ممنوعان بشكل قانوني من زيارة كل تلك الدول الأعضاء وإلا فالاعتقال هو البديل بحسب المذكرة.
من هنا فإن نتنياهو وغالانت لا يمكنهما زيارة كل من البلدان الإفريقية التالية: بنين، بوتسوانا، بوركينافاسو، جمهورية إفريقيا الوسطى، جزر القمر، الكونغو (برازافيل)، جمهورية الكونغو الديمقراطية، جيبوتي، الغابون، غامبيا، غانا، غينيا، كينيا، ليسوتو، ليبيريا، مدغشقر، ملاوي، مالي، موريتانيا، موريشيوس، ناميبيا، النيجر، نيجيريا، رواندا، السنغال، سيراليون، جنوب أفريقيا، تنزانيا، تونس، أوغندا، زامبيا.
كذلك بلدان أوروبا الشرقية والغربية: أرمينيا، أذربيجان، بلغاريا، البوسنة والهرسك، كرواتيا، جورجيا، المجر، مقدونيا الشمالية، بولندا، رومانيا، صربيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، أوكرانيا، ألبانيا، أندورا، النمسا، بلجيكا، قبرص، جمهورية التشيك، الدنمارك، إستونيا، فنلندا، فرنسا، ألمانيا، اليونان، أيرلندا، إيطاليا، لاتفيا، ليختنشتاين، ليتوانيا، لوكسمبورغ، مالطا، هولندا، النرويج، البرتغال، السويد، سويسرا، المملكة المتحدة.
هذا بجانب دول أمريكا الجنوبية واللاتينية: الأرجنتين، بربادوس، بليز، بوليفيا، البرازيل، كندا، تشيلي، كولومبيا، كوستاريكا، دومينيكا، جمهورية الدومينيكان، الإكوادور، غيانا، هندوراس، المكسيك، بنما، باراغواي، بيرو، سانت كيتس ونيفيس، سانت لوسيا، سانت فنسنت والغرينادين، سورينام، ترينيداد وتوباغو، أوروغواي، غواتيمالا، ما عدا السلفادور وهاييتي (وقعتا فقط على الميثاق لكنها ليست عضوًا)، ومن دول آسيا والمحيط الهادئ هناك: أفغانستان، أستراليا، بنغلاديش، كمبوديا، الأردن، جزر كوك، فيجي، اليابان، جزر مارشال، منغوليا، ناورو، نيوزيلندا، ساموا، كوريا الجنوبية، طاجيكستان، تيمور الشرقية، توفالو، فانواتو.
وهنا لابد من التفرقة بين نوعين من الدول:
الأول يتعلق بالدول الموقعة على ميثاق روما والمنضوية تحت لواء الجنائية الدولية كعضو أساسي ملتزم بكل ما جاء في الميثاق والالتزام بقرارات المحكمة، ويقصد بها هناك الدول الـ124 سالفة الذكر.
أما النوع الثاني فهي البلدان التي وقعت فقط ميثاق روما الأساسي، كنوع من إبداء النية للالتزام به في المستقبل، لكنها لم تُكمل عملية المصادقة، ومن ثم فهي غير مُلزمة قانونيًا بتطبيق أحكام المعاهدة، ومن بين تلك الدول الولايات المتحدة التي وقعت عام 2000 لكنها لم تُصادق وأعلنت انسحابها لاحقًا، وهو ما فعلته روسيا أيضًا.
أبرز ردود الفعل
انقسمت ردود فعل الدول الأعضاء في الجنائية الدولية والمُلزمة بتنفيذ المذكرة إلى 3 أقسام:
الأول: الدول التي أعلنت استعدادها الالتزام بتنفيذ القرار وأبرزها:
أيرلندا.. صرح رئيس الوزراء، سايمون هاريس، بأن دبلن مستعدة لاعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي إذا جاء إلى أيرلندا، وفي رده على سؤال عن احتمالية اعتقال بلاده لنتنياهو إذا حل ضيفًا على أراضيها لأي سبب من الأسباب أجاب: “نعم بالتأكيد. نحن ندعم المحاكم الدولية ونمتثل لمذكرات الاعتقال التي تصدرها”.
سلوفينيا.. نقلت وكالة الأنباء السلوفينية (إس تي إيه) عن رئيس الوزراء روبرت غولوب قوله إن سلوفينيا ستمتثل لمذكرات الاعتقال التي أصدرتها الجنائية الدولية “بشكل كامل”.
إيطاليا: أكد وزير الدفاع، غويدو كروسيتو، أن بلاده ستضطر إلى اعتقال نتنياهو إذا زارها، رغم اعتباره أن “المحكمة مخطئة، ولكن سنضطر إلى توقيف رئيس الوزراء الإسرائيلي إذا زارنا”، فيما أكدت رئيسة الوزراء، جورجيا ميلوني، عرض الأمر على اجتماع مجموعة الدول السبع المقرر الأسبوع المقبل.
كندا.. أكد رئيس الوزراء، جاستن ترودو، التزام بلاده بكل لوائح المحاكم الدولية وأحكامها.
هولندا.. ألغى وزير الخارجية، كاسبر فيلدكامب، – بعد صدور مذكرة التوقيف – زيارة له كانت مقررة إلى “إسرائيل”، فيما نقلت وكالة رويترز عنه قوله إن بلاده مستعدة لتنفيذ قرار المحكمة.
سويسرا.. قالت المتحدثة باسم وزارة العدل والشرطة الفدرالية لوكالة الأناضول إن السلطات ملزمة باعتقال نتنياهو وغالانت حال مجيئهما إلى سويسرا، فيما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الفدرالية إن “سويسرا تحترم استقلال المحكمة الجنائية الدولية، ولا تعلق على هذه القرارات”.
الثاني: دول أعلنت رفضها الامتثال لتنفيذ المذكرة
المجر.. كان الموقف المجري الأكثر تطرفًا بين كل ردود فعل الدول المنضوية تحت لواء المحكمة، فلم يكتف بالرفض فقط، بل واصل التحدي لمذكرة الاعتقال حين أعلن رئيس الوزراء، فيكتور أوربان، – الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي – أنه سيدعو نتنياهو لزيارة المجر، مضيفًا في مقابلة مع الإذاعة الرسمية “لا خيار أمامنا سوى تحدي هذا القرار. سأدعو في وقت لاحق اليوم نتنياهو للمجيء إلى المجر حيث يمكنني أن أضمن له أن قرار المحكمة الجنائية الدولية لن يكون له أي تأثير”.
الثالث: دول تدرس القرار
بين الداعمين له والرافضين، هناك قسم ثالث لم يكشف عن موقفه الرسمي النهائي بشكل مطلق، مانحًا نفسه الوقت الكافي لدراسة القرار وتقييمه بشكل أو بآخر.
ألمانيا.. قال المتحدث باسم الحكومة إن برلين “ستدرس خطواتها بعناية”، مبينًا أنه “لن تتوافر تفاصيل إلا عندما تكون زيارة نتنياهو وغالانت إلى ألمانيا متوقعة”، مضيفًا أن “ألمانيا من أكبر الداعمين للمحكمة الجنائية الدولية”، لكنه شدد في الوقت نفسه أنه “نتيجة التاريخ الألماني، لدينا روابط فريدة ومسؤولية كبيرة تجاه إسرائيل”.
فرنسا.. أكدت وزارة الخارجية التزامها بضمان “العمل المستقل للمحكمة الجنائية الدولية وفقًا لنظام روما”، لكن في الوقت ذاته قالت إن مذكرتي الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت “ليستا حكمًا، بل إضفاء طابع رسمي على الاتهام”.
بريطانيا.. قال متحدث باسم رئيس الوزراء إن لندن تحترم استقلال المحكمة الجنائية الدولية، دون إبداء الرأي النهائي بشأن الموقف من الالتزام بما جاء في المذكرة من عدمه، رغم الضغوط التي تمارس على الحكومة لتنفيذ القرار.
قبرص.. حاولت قبرص التي تتمتع بعلاقات جيدة ووثيقة مع “إسرائيل” مسك العصا من المنتصف، فرغم إعلانها احترام قرارات المحكمة الجنائية الدولية والتي وصفتها بالملزمة، فإنها قالت إن القرار قيد الدراسة وليس هناك تعليق نهائي رسمي بشأنه.
السويد.. قالت وزيرة الخارجية السويدية، ماريا مالمر ستينرغارد، إن ستوكهولم والاتحاد الأوروبي يدعمان عمل المحكمة المهم ويحميان استقلالها ونزاهتها، لكنه في الوقت ذاته أشار إلى أن سلطات إنفاذ القانون السويدية هي التي تبت في أمر اعتقال الأشخاص الذين أصدرت المحكمة بحقهم مذكرات اعتقال على أراض سويدية.
ماذا يعني القرار بالنسبة للقضية الفلسطينية؟
تخدم هذه الخطوة حتى وإن كانت رمزية القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني بشكل لافت، فهي انتصار سياسي على المستويات كافة، فلأول مرة تُصدر أوامر اعتقال من كيانات أممية بحق شخصيات ذات ثقل سياسي وعسكري في الداخل الإسرائيلي، رغم الجهود التي بذلها الحليف الأمريكي للحيلولة دون ذلك.
يتناغم هذا القرار مع حالة الزخم التي باتت عليها القضية الفلسطينية منذ عملية طوفان الأقصى وما حققته من مكاسب سياسية لم تحققها منذ بداية الصراع مع الكيان الإسرائيلي:
على المستوى السياسي.. حيث موجة الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة مستقلة، وانضمام إسبانيا وأيرلندا والنرويج لقائمة الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية، ليصبح قرابة نصف بلدان الاتحاد الأوروبي يعترفون بدولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة (13 دولة من أصل 27 دولة ضمن الاتحاد)، وهو ما سيكون له ارتداداته المستقبلية على الموقف الأوروبي العام من القضية وخلخلة جدار الدعم المطلق للكيان.
وفي ذات السياق فإن ما يتعرض له الكيان المحتل داخل أروقة الكيانات الدولية والأممية من إدانات وانتقادات وأحكام وضعته في قفص المجرم المطالب بالدفاع عن نفسه أمام العالم، بعدما اُفتضحت جرائمه على مرأى ومسمع من الجميع، يصب في صالح القضية الفلسطينية ويخدم عدالتها الدولية ويضعها – بعد سنوات من التهميش – تحت مجهر الاهتمام العالمي.
على المستوى الشعبي.. تعرض المزاج العالمي إزاء القضية الفلسطينية لتغيرات جذرية منذ السابع من أكتوبر، فما قبل هذا التاريخ ليس بأي حال من الأحوال كما بعده، حيث شهد تعاطفًا كبيرًا مع الفلسطينيين ودعمًا قويًا لحقوقهم، وانكشافًا جليًا لجرائم الاحتلال وانتهاكاته العنصرية، وهو المزاج الذي كان مُحتكرًا لعقود طويلة بمعتقدات خاطئة ومضللة عن ديمقراطية الكيان المحتل المشروخة، وحضارته المزيفة، وحقوقه غير المشروعة في الأراضي الفلسطينية.
وفي المقابل.. ما تأثير القرار على الكيان المحتل؟
حالة من الارتباك تخيم على المشهد الإسرائيلي منذ صدور القرار، حيث أوعزت الخارجية الإسرائيلية لسفرائها في العالم بالاستنفار، وبذل كل الجهود الدبلوماسية للدفاع عن جيش الاحتلال وقياداته الكيان السياسية والعسكرية في حرب غزة، وحشد المجتمع الدولي للتصدي لتلك المذكرة الاستثنائية وممارسة كل الضغوط المحتملة للتراجع عنها.
ثمة مؤشرات تزيد من قلق الإسرائيليين إزاء هذا التطور أهمها:
– تكريس عزلة “إسرائيل” الدولية، فبعدما كان الأمر متعلقًا بتجميد بعض الدول علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب، واعتراف أخرى بالدولة الفلسطينية، وتصاعد الزخم الشعبي العالمي الداعم للفلسطينيين، بات الأمر اليوم متعلقًا بعدم قدرة رموز الكيان، ممثلة في رئيس الحكومة وقائد الجيش، على مغادرة الأراضي الفلسطينية المحتلة، خوفًا من التعرض للتوقيف والاعتقال.
– افتضاح أمر “إسرائيل” ككيان لا يحترم القرارات الدولية، فللمرة الثانية ستقف في قفص الاتهام، كمجرم حرب، في غضون أقل من ستة أشهر، بعد محكمة العدل الدولية، وهو ما يعني نسف الصورة البراقة التي تحاول تسويقها على مدار سنوات طويلة كدولة ديمقراطية حضارية تخضع للقانون الدولي وتلتزم بقراراته.
وعليه ورغم الكلفة الباهظة والثمن المرعب لعملية “طوفان الأقصى”، فإن من مكرماتها التي لا يمكن تجاهلها أن مثُل الكيان المحتل ولأول مرة في تاريخه المشوّه في قفص الاتهام الدولي، بصفته مجرم حرب ملاحق قضائيًا أمام المحاكم الدولية، تارة أمام محكمة العدل الدولية وأخرى أمام الجنايات.
– التأثيرات الاقتصادية والعسكرية المحتملة على “إسرائيل” بشأن هذه المذكرة، خاصة ما يتعلق بالطيران والسياحة والاستثمارات الخارجية، فضلًا عن احتمالية أن يكون لتلك الخطوة ارتدادات عكسية على تسليح الجيش الإسرائيلي من جانب، وعلى عوائد تجارة السلاح والتكنولوجيا الإسرائيلية من جانب آخر.
هل تملك المحكمة سلطة تنفيذ قراراتها؟
رغم أن المحكمة تتمتع بالصفة الدولية والأممية، فإنها في الغالب تفتقد لأدوات الضغط لترجمة ما يصدر عنها من أحكام وقرارات إلى إجراءات ملموسة، والتي في الغالب يكون تنفيذها خاضعًا للتنسيق والتناغم والتعاون بين الدول الأعضاء والقوى الكبرى الأخرى غير المنضوية تحت لوائها والتي لم توقع على ميثاق روما كالولايات المتحدة وروسيا والصين والهند وغيرها، هذا بخلاف غياب أي التزامات أو أعباء قانونية ضد الدول التي ترفض الالتزام بقرارات المحكمة، ومن ثم تكون الاستجابة من عدمها خاضعة للمقاربات والحسابات السياسية والاقتصادية والعسكرية، والتي تحدد بوصلة توجهات الدول الأعضاء.
وفي الحالة الإسرائيلية فإنه وفي ظل الموقف الأمريكي الرافض لتلك المذكرة والضغوط المتوقع أن تُمارس على دائرة المحكمة من جانب، والدول الأعضاء – لاسيما الأوروبيين – من جانب آخر، فقد يفقد القرار بعضًا من سلطة إنفاذه، لكن هذا لا يعني تجريده من فحواه، فهو انتصار رمزي في المقام الأول، ووصمة عار ستظل تلاحق قادة الاحتلال أينما ذهبوا، مهما كانت سيناريوهات التعامل معه مستقبلًا.
وبعيدًا عن تأثير تلك المذكرة عمليًا، فإنها ستشكل ضغطًا كبيرًا على نتنياهو وغالانت، وتقيد كثيرًا من تحركاتهما في الخارج، هذا بخلاف اللقب الممنوح لهما بوصفهما “مجرما حرب ملاحقين دوليًا”، وما يمكن أن يزيد ذلك من تشويه صورة “إسرائيل” الملطخة على المستوى الدولي ككيان مجرم مارق لا يحترم القانون ولا يلتزم بالمواثيق، لينقلب السحر على الساحر، ففي الوقت الذي يهرول فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية لعزل قادة المقاومة وحصار الفلسطينيين داخل القطاع، إذ به المعزول والمرعوب من التحرك والانتقال خشية الاعتقال والتوقيف.