تضجّ غرف الأخبار يومياً بالتصريحات والآراء التي يطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عبر حسابه الرسمي أو الشخصي في تويتر مكتفياً في ذلك بنشر جمل قصيرة تغيّر الشأن والاهتمام الدولي، كما تمتلك أغلب الدول حسابات وصفحات رسمية لمؤسساتها وقادتها وللمسؤولين فيها، تقوم بمهام تمثيل الدولة والتصريح عنها، وكثيراً ما شاهدنا قيام السفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي بالتصريح بآرائهم والرد حول تساؤلات تتعلق بمواقف دولهم تجاه أحداث جارية، لتتحول الأدوات الرقمية كوسائل للتواصل مع جماهير أجنبية يقدمون لها السياسات الخارجية لبلدهم ويبدون صورة أكثر قرباً معهم.
لكن من جهة أخرى ينظر إلى هذه المساحة الدخيلة إلى الدبلوماسية بنظرات قلق وتخوّف من قبل بعض السياسيين والدبلوماسيين بوصفها بيئة نشطة لضخ الأخبار المزيفة ونشر الشائعات والمعلومات المغلوطة؛ بهدف التأثير سلباً على المجال العام وشحنه عاطفياً وتضليله لتأجيج الجمهور الرقمي تجاه قضايا أو شخصيات ما.
مع وجود الدبلوماسية الرقمية أصبح بالإمكان أن تكون طرفاً مساعداً للدبلوماسية التقليدية
لسنوات طويلة اعتمدت الدبلوماسية في مفهومها التقليدي على التفاعلات بين المسؤولين الحكوميين، وعلى الرغم من تبني الدبلوماسية العامة لاتجاهات أكثر سعة، إلا أن التواصل والاتصال فيها كان عادة أحادي الجانب، ومع تطور وسائل التواصل وظهور منصات مثل تويتر وفيسبوك أصبح للمسؤولين الحكوميين القدرة على الحديث مباشرة مع الجمهور والتأثير المتبادل بين الطرفين.
في مقال نشر في وقت سابق في مدونة تطبيق اسطرلاب، تحدثنا حول مفهوم الدبلوماسية الرقمية واختلافها عن التقليدية، ونتمم اليوم الحديث حول المنافع والتحديات التي تنطوي عليها، مستفيدين في ذلك من مقالين بحثيين تناولا الموضوع وأدرجناهما في نهاية التدوينة كمصدرين ينبغي الرجوع إليهما إلى من يريد المزيد من التفصيل.
منافع الدبلوماسية الرقمية
توسع مساحات وصول الجهد الدبلوماسي
لا تنحصر جهود تعزيز وتقوية العلاقات الدولية بأنها بين طرفين رسميين، سواء أكان ذلك بين الروؤساء أو الوزراء أو السفارات أو الهيئات والمنظمات، ومع وجود الدبلوماسية الرقمية أصبح بالإمكان أن تكون طرفاً مساعداً للدبلوماسية التقليدية.
أضحت المسافات البعيدة بين الدبلوماسيين والجماهير المستهدفة أقل أهمية مع تفشي استخدام التقنية في التواصل وإمكانية فرز الجماهير وفقاً للاهتمامات والمواقع الجغرافية والفئات العمرية وتقسيمات أخرى
فهي تعزز عمل الدولة في تحقيق السياسات الخارجية بشكل سريع ومباشر، وتوسيع التواصل الدولي والتأثير على الأشخاص والجهات التي لا تصلها جهود الدبلوماسية التقليدية، والتخاطب مباشرة مع الهيئات المدنية الفعالة وقادة الرأي العام في الدول التي تدخل في نطاق استهداف وعمل الجهاز الخارجي للدولة.
رسائل متعددة بمغزى واحد
لقد أضحت المسافات البعيدة بين الدبلوماسيين والجماهير المستهدفة أقل أهمية مع تفشي استخدام التقنية في التواصل وإمكانية فرز الجماهير وفقاً للاهتمامات والمواقع الجغرافية والفئات العمرية وتقسيمات أخرى، إذ يمكن الآن توجيه رسائل متعددة ذات مغزى واحد لفئات مختلفة من الفئات المستهدفة بغرض تحقيق تواصل نافع أكبر معهم، ثم مراقبة ردود الأفعال وتحديد وتصنيف المتفاعلين مع الرسائل وفقاً لنوع التفاعل الذي أظهروه تجاه الرسالة، كما أن ذلك يساعد في فهم رغبات الجماهير وتقييم وتقويم السياسات المعمول به وتبادل الأفكار مع الجماهير المستهدفة بشكل أكبر من أجل تحقيق فهم أعمق لأفكارهم المتعلقة بالشأن العام.
بيئة سريعة التحرك والاستجابة
يتم ذلك كله من خلال تبادل سريع وفعّال للمعلومات ومعرفة بالأحداث الجارية، والتي يمكن أن تكون ميزة للمصلحة العامة، ففضلاً على أنها توفر معلومات مفيدة للغاية يمكن جمعها وتحليلها وتهيئة مسارات للاستجابة لها والتفاعل معها، فهي توفر أيضاً مساحة للتصدر وإجراء تحركات عاجلة تحقق عواقب إيجابية للبلد.
هذه العملية كلها لا تتطلب ميزانيات مالية ضخمة لتحقيقها، إذ يؤدي الاستخدام الصحيح للأدوات المتعددة مجانية الاستخدام إلى خفض التكاليف المالية بشكل كبير
و عند أوقات الأزمات، تبرز الحاجة إلى تهيئة الأرضية للتداول الصحيح للمعلومات وإدارتها ثم اتخاذ خطوات ناجعة بالاعتماد عليها، وبواسطة أدوات الدبلوماسية الرقمية، فإن ذلك يتيح قدراً عالياً من المساحات للاجتماع بين أصحاب العلاقة دون ضرورة وجودهم في مكان فيزيائي واحد.
تكلفة ضئيلة وعوائد مرتفعة
هذه العملية كلها لا تتطلب ميزانيات مالية ضخمة لتحقيقها، إذ يؤدي الاستخدام الصحيح للأدوات المتعددة مجانية الاستخدام إلى خفض التكاليف المالية بشكل كبير، فلا تتطلب تخصيص استثمار مالي ضخم لذلك، بل إن الأرباح التي يمكن جنيها مرتفعة إذا ما كان هناك استخدام كفء للأدوات.
مخاطر الدبلوماسية الرقمية
على الرغم من أن هذه التكنولوجيا الحديثة تأتي مع العديد من الفوائد، إلا أنها تقدم أيضاً مجموعة من التحديات، منها:
– الاستخدام غير الصحيح من قبل الدبلوماسيين
ليس كل المسؤولين قادرين على استخدام مساحات الدبلوماسية الرقمية والاستفادة من أدواتها، فالأداء الذي يظهر به بعضهم مخيب للآمال، كما أن بعضهم وبدلاً من أن يتجه لتوسيع نطاق تفاعله ينكفئ على نفسه بالتفاعل مع زملائه من نفس المؤسسة.
ساهمت المنالية الكبيرة التي وفرها الإنترنت على القضاء على عنصر “السرية” في الدبلوماسية
ومن الناحية العملية، لم يعد للأسرار مكان في الفضاء الرقمي، فما يرسل أو ينشر عبر الإنترنت من الاستحالة بمكان التراجع عنه أو حجبه أحياناً. لقد غيّرت وسائل الاعلام الاجتماعي الطريقة التي يرى الناس بها العالم، وكيف يتواصلون. فليس من السهل فقط أن تصل الحكومات والسفراء إلى جمهورهم مباشرة فقط، بل جعل الجميع أكثر قدرة على التعرف على التأثيرات الإيجابية والسلبية للقرارات على حد سواء، فالتغريدة والصورة والمقطع الفيديوي والتعليق يمكن أن يكون له أثرٌ سريع، ونقص المعرفة حول استخدام تقنيات الاتصال الحديث يؤدي إلى عواقب وخيمة وصراعات حادة ربما لا تكفيها إقالة مسؤول أو تقديم اعتذار رسمي، لذا يترتب على الأجهزة الخارجية تدريب طواقمها للتعامل الأمثل مع الأدوات الرقمية الجديد لتجنب أكبر قدر ممكن من المخاطر والأضرار، كما تحتاج أن يكون لديها موظفين دائمين متخصصين في التعامل هذه الملفات.
– استخدامات بأهداف مضرة
يشجع تدفق المعلومات الحر ومقارنة السياسات على تقييم الإجراءات والأعمال الحكومية، ومع ذلك تساعد تكنولوجيا الاتصال الحر والسهل في إحداث تأثير سلبي عميق في بعض الأحيان. إذ استخدم ذلك من قبل الجماعات الإرهابية في أعمال التجنيد والتعبئة والتواصل بين الأعضاء والمؤيدين، وبهذه الحالة تتحول هذه المساحات الحرة إلى قنوات لانتشار التطرف وفرض أجندات معادية، فهي متاحة لأي منظمة أو جهة لكي يكون لها دور مؤثر في تحقيق أهدافها مهما كانت.
تواجه الدبلوماسية الرقمية تحدياً يتمثل بثقافة عدم الكشف عن الهوية، إذ يمكن لأي شخص في أي مكان أن يتظاهر بأنه شخص آخر بمكان مختلف
كما ساهمت المنالية الكبيرة التي وفرها الإنترنت على القضاء على عنصر “السرية” في الدبلوماسية، فما كان محصوراً تداوله بين أعضاء المسالك الرسمية أضحى سهل الوصول إليه وكشفه للرأي العام، ويرى البعض أن التداولية السهلة للمعلومات والآراء حول الأحداث الجارية قد تكون له مخاطر أعلى من فوائده، إذ يقضي الكثير من المواطنين أوقاتهم وهم يراجعون ويتابعون أعمال الحكومة، ونشر آرائهم حولها عبر الإنترنت مباشرة، مما يعرض الكثير من صنّاع السياسات وقادة المنظمات والسياسيين إلى جملة من ردات الفعل التي تكون أحياناً سلبية بدرجة كبيرة، ينطوي بعضها على الإهانات ورسائل التهديد والاستفزاز إذا ما استندت على معلومات غير صحيحة تمتاز بالكثير من الأكاذيب المثيرة والمحرضة على الكراهية والعنف والمشجعة على التصرفات غير السوية، الأمر الذي يضع على عاتق الحكومة والمنظمات والمجتمع على إجراء مناقشات ومداولات بشأن ما يمكن اعتباره حرية تعبير وما هي أخلاقيات التعامل الرقمي والقوانين الراعية لذلك.
– الاستهداف الرقمي
تواجه الدبلوماسية الرقمية أيضاً تحدياً يتمثل بثقافة عدم الكشف عن الهوية، إذ يمكن لأي شخص في أي مكان أن يتظاهر بأنه شخص آخر بمكان مختلف، ويتسبب بتأثير وأضرار لجهات معينة، كما يحفز عدم الكشف عن الهوية إلى وقوع أزمات معقدة إذا ما نشر معلومات متضاربة أو مزيفة تجاه جمهور يعتمد على السوشيل ميديا كمصدر رئيسي للمعلومات عن حكوماتهم، لذا يتعين على المعنيين الظهور أمام الجمهور بمظهر المصدر الموثوق به.
الدبلوماسية الرقمية تمثل أداة بالغة القوة لمن يتقن استخدامها بالطريقة الصحيحة، وهي مسار مكمّل للدبلوماسية التقليدية ومساند لها
– القرصنة
ومع تزايد المستخدمين في العالم الرقمي، ارتفعت درجات الخوف من هجمات القرصنة التي تهدف إلى الاستيلاء على الحسابات والمعلومات الحساسة، ويتمثل الخطر في ذلك في الوصول إلى حسابات الرؤوساء والمسؤولين والسيطرة عليها واستخدامها في تحقيق أغراض معينة، فما يمكن أن يكون معلومات سرية يمكن أن تنشر علانية ليكون لها تأثير سريع وعميق على الشؤون العالمية والدولية وتهديد سمعة الدول وقادتها.
أخيراً، فإن الدبلوماسية الرقمية تمثل أداة بالغة القوة لمن يتقن استخدامها بالطريقة الصحيحة، وهي مسار مكمّل للدبلوماسية التقليدية ومساند لها، وعدم الانخراط فيها يفسح المجال للمنافسين للتقدم وكسب مساحات متقدمة بجهود وتكاليف قليلة.
المصدر: أسطرلاب