جدّد الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، دعوته إلى تعديل دستور البلاد الذي لم يمض على صياغته سوى خمس سنوات فقط، خاصة في الفصول المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية مقابل تقليص صلاحيات رئيس الحكومة، وهو ما يؤكّد إصراره على تغيير النظام السياسي في البلاد، في ضلّ “تمرّد” رئيس الحكومة يوسف الشاهد وخروجه عن طاعته.
صلاحيات قليلة
السبسي أكّد في خطاب ألقاه بمناسبة ذكرى الاستقلال في تونس، أمس الأربعاء، أن مؤسسة الرئاسة أعدت مقترحات لتعديل الدستور، وأشار إلى قبول كل القراءات والمقترحات من جميع الأحزاب التونسية. ويعتبر الرئيس التونسي أن السلطة التنفيذية أصبحت مجمعة بأيدي رئيس الحكومة.
وتأكيدا لذلك قال السبسي في خطابه بمناسبة عيد الاستقلال “سيكون من الأحسن التفكير في تعديل بعض فصول الدستور”، مضيفا أن رئيس الجمهورية ليست له مهام كبيرة، وأن السلطة التنفيذية هي برأس واحد يسيطر عليها رئيس الحكومة.
وشهدت تونس خلال صياغة الدستور الجديد، نقاشات معمقة واستشارات داخل لجنة النظام السياسي في المجلس الوطني التأسيسي بشأن طبيعة النظام السياسي، انتهت باعتماد النظام البرلماني المعدل الذي منح البرلمان صلاحيات التشريع والرقابة ومنح الثقة للحكومة وسحبها منها والرقابة على عملها، وأسند لرئاسة الحكومة أغلب الصلاحيات التنفيذية، في حين بقي رئيس الجمهورية ذو صلاحيات محدودة في مجالي الدفاع والسياسة الخارجية.
يعتقد الرئيس التونسي، أن بلاده في هذه المرحلة الانتقالية بحاجة إلى نظام سياسي مركزي، وتكون فيه السلطات مركّزة لدى الرئيس
تتكون السلطة التنفيذية في تونس من رأسين: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، الأول منتخب مباشرة من الشعب، لكنه لا يتمتع بصلاحيات واسعة، وتقتصر على تعيين مفتي الجمهورية وإعفائه، والتعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا برئاسة الجمهورية والمؤسسات التابعة لها، وتعيين محافظ البنك المركزي باقتراح من رئيس الحكومة، وبعد مصادقة الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس نواب الشعب، والثاني منتخب من الأغلبية داخل البرلمان وله كل الصلاحيات.
لم يتوقف الرئيس التونسي، منذ تولى السلطة في ديسمبر سنة 2014، إثر فوزه على الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي، عن التذمر من محدودية الصلاحيات التي يخولها له الدستور، منتقدا النظام السياسي الذي أفرزه دستور البلاد وأقره المجلس الوطني التأسيسي بعد الثورة.
وفي سبتمبر/أيلول 2017 اعتبر الرئيس السبسي، أن النظام السياسي المنبثق عن الدستور الحاليّ يشكو هنات عدة، وهو نظام شل العمل الحكومي أو يكاد، وطابعه الهجين لا يساعد الحكومة ـ أي حكومة ـ والسلطة التنفيذية عمومًا على القيام بواجباتها في تسيير الدولة وتحقيق التنمية في إطار مجتمع ديمقراطي تتحقق فيه قيم الحرية والكرامة، حسب قوله.
إضعاف مؤسسات الحكم
يرى الباجي قائد السبسي وجماعته في قصر قرطاج أن نظام الحكم الحاليّ “برلماني معدل”، قاد إلى إضعاف أداء مؤسسات الدولة وسلطة القرار نتيجة اختلال التوازن بين صلاحيات رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان في وقت تحتاج فيه تونس إلى دولة قوية تنأى بنفسها عن سياسات الأيادي المرتعشة، في معالجة الأوضاع العامة.
وما فتئ الجماعة يروجون أن البطء الحاصل في تركيز مؤسسات الدولة والهيئات الدستورية التي نص عليها الدستور، مردّه النظام السياسي الحالي التي أقره دستور فبراير/شباط 2014، الذي ساهم نواب نداء تونس في صياغته.
ويحمّل السبسي وأنصاره النظام السياسي القائم المسؤولية عن تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، مؤكدين أن السبب وراء الأزمات التي تعيشها البلاد بعد الثورة تعود في أغلبها إلى النظام السياسي الذي يفقد الرئيس صلاحيات التدخل في الشأن العام للبلاد، وفق قولهم.
يعرف الاقتصاد التونسي أزمة حادة رغم الإصلاحات القاسية وسياسة التقشف التي اعتمدتها الحكومات المتتالية، حيث تراجعت نسب النمو وازداد العجز التجاري في البلاد وتراجع احتياطي العملة الصعبة وارتفع التضخم، فضلاً عن ارتفاع حجم الدين وتوقف الإنتاج في العديد من القطاعات.
أما اجتماعيًا، فمعظم التونسيين يعيشون في توتر متواصل نتيجة خشيتهم من تواصل هذا الانهيار الاقتصادي الذي أثر سلبًا على مقدرتهم المعيشية، ووفقًا لإحصاءات رسمية تراجعت المقدرة الشرائية للمواطن التونسي في السنوات الأخيرة بأكثر من 42%، نتيجة انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وهو ما يُجبر الأسر التونسية على اللجوء إلى التداين بمختلف أنواعه لسد نفقات الحياة الضرورية.
ويعتقد الرئيس التونسي، أن بلاده في هذه المرحلة الانتقالية بحاجة إلى نظام سياسي مركزي، وتكون فيه السلطات مركّزة لدى الرئيس، حتى يكون قادر على إدارة صعوبات الانتقال السياسي والديمقراطي الذي عادة ما يصاحب بضعف مؤسسات الدولة، وفق رؤيته.
سعي لمجد ضائع
تغيير النظام السياسي لتونس، من برلماني معدّل إلى نظام رئاسي، يسعى من خلاله الباجي قائد السبسي، إلى تعزيز صلاحيات الرئيس الذي لا يقبل معارضة أحد في بلد عانى لعقود من حكم رئاسي استبدادي، وتدعيم نفوذه وهيمنته على السلطة التنفيذية في البلاد.
ويرغب السبسي الذي عمل مع الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي في العودة إلى نظام حكم الشخص الواحد الذي وضعه الأول ورسّخه الثاني، نظام يكون فيه رئيس الجمهورية المتحكم الأول والوحيد بزمام الأمور في البلاد.
يحاول الباجي قائد السبسي تعزيز صلاحياته، حتى لا يتكرّر سيناريو يوسف الشاهد مع أي رئيس حكومة قادم يعمل معه
يسعى السبسي إلى تعديل دستور 2014، وتغيير النظام السياسي في تونس بما يسمح له بالحكم بمفرده أسوة بالحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، فقد تربى في ظل حكمهما ويسعى لإعادة طريق الحكم الفردي في البلاد.
وازداد إصرار السبسي على تغيير النظام السياسي، مع “تمرّد” رئيس الحكومة يوسف الشاهد وخروجه عن طوعه، ويرى السبسي أن الشاهد أخذ منه سلطات القرار التي كان يحلم بها، ولا بدّ له من أن يرجعها إلى قصر قرطاج مهما كلّفه الأمر.
تعزيز الصلاحيات قبل الولاية الثانية؟
حديث السبسي عن ضرورة تعديل الدستور، يأتي قبل أشهر قليلة عن استحقاق انتخابي كبير وهو الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وهو ما يمكن أن يفهم منه وجود رغبة لدى السبسي في الترشح لولاية رئاسية ثانية مع صلاحيات أوسع.
ويعمل الرئيس السبسي، منذ أشهر على تجميع فرقاء الماضي، تحت الشعار نفسه، وهو محاصرة حزب النهضة وقطع الطريق عليه، غير أن الجديد هذه المرة، ما شهده المشهد السياسي في البلاد من تغير للمواقع والتحالفات، ما جعل مسعى السبسي يبوء بالفشل أكثر من مرة.
وإلى الآن، لم يتبين هل يترشح الرئيس الحاليّ الباجي قائد السبسي لمنصب الرئاسة مرة أخرى أم لا، إلا أن بعض الأصوات من نداء تونس أكّدت ترشّحه، ويحق له دستوريًا الترشح لولاية ثانية، وكان قد وصل إلى منصب الرئاسة عقب فوزه في انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2014 على حساب منافسه الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي.
يسعى السبسي إلى جمع كلّ الصلاحيات لديه
يرى بعض المتابعين للشأن العام في البلاد، أن الباجي قائد السبسي يحاول تعزيز صلاحياته، حتى لا يتكرّر سيناريو يوسف الشاهد مع أي رئيس حكومة قادم يعمل معه، في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية القادمة.
واستطاع رئيس الوزراء التونسي الشاب يوسف الشاهد، منذ توليه منصبه في قصر القصبة في أغسطس/أب 2016، أن يقوي مكانه بعد أن كان سياسيًا مغمورًا، حتى إنه استطاع استمالة الكتلة الأساسية لنواب حزب نداء تونس، ووراثة الحلف القائم مع “النهضة”، ما أفقد الرئيس السبسي كل أوراقه السلطوية.
يرغب الباجي قائد السبسي في تواصل فترة حكمه في قصر الرئاسة بقرطاج، لأطول فترة ممكنة رغم عامل السنّ، فهو يرى نفسه الأجدر والأكفأ لإدارة البلاد التونسية في الفترة المقبلة، حتى يحكم سيطرته على الدولة ويورثها لعائلته كما حصل لحزب نداء تونس.