إسطنبول، عاصمة الإمبراطوريات، موطن الفن والموسيقى الصوفية، تاريخ وآثار شهدت على قيام وسقوط دول عدة، مساجد وكنائس ما زالت محط أنظار العالم، جزر عائمة تروي حكايات أميراتها وتخلد ذكرى شعراء وهبوا قصائدهم لشوارع هذه المدينة.
مرّت إسطنبول بالكثير من التغيرات والانعطافات الكبيرة في تاريخها الحديث وصولاً ليومنا هذا، وفي التقرير التالي سنحاول استكشاف كيف تدار المدينة الساحرة الممتدة اليوم على مساحة 1.830.92 كيلومتر مربع وتضم على أرضها أكثر من 15 مليون نسمة، عدا السياح والمهاجرين، وكيف وصلت إلى هذا التألق في ظل مسيرة لم تكن سهلة مطلقًا.
الحقبة التأسيسية ما بعد الدولة العثمانية
بعد قيام الجمهورية التركية عام 1923 نقل الرئيس مصطفى كمال أتاتورك العاصمة من إسطنبول إلى أنقرة، ما أدى إلى ضعف الاهتمام بإسطنبول، وعانى سكان المدينة لسنين عدة من قلة الموارد وسوء الأحوال المعيشية، فانتشرت القمامة في الشوارع لعدم توافر محارق للنفايات ولم يتبقَ مياه كافية صالحة للشرب، لا منشآت عامة ولا طرقات رئيسية.
إسطنبول القديمة
لم تكن إسطنبول كذلك تحتوي على مديرية نقل ومديرية مياه أو مديرية صحة في ذلك الحين، لذا عرفت المدينة مجلس وكلاء يجتمع فيه رجال أساتذة وأطباء مؤثرين في محيطهم يتخذون القرارات لما يصب في صالح المدينة وسكانها، مع وجود مسؤول يدير الجلسة ويصدر القرارات النهائية ويوقع عليها.
كانت البلاد تشهد صراعات دموية بين القوى اليسارية والقوى اليمينية، فقد عاشت إسطنبول في تلك الأوقات مشاكل عديدة أكبرها مشكلة تلوث البيئة وعدم توافر المواد المحترقة كالنفط والبنزين
ساهم هذا المجلس في حل الكثير من مشاكل المدينة بطريقة بسيطة وفورية، وأدخل بعض التطورات الجديدة المأخوذة من أوروبا، استمر الوضع على هذا المنوال حتى عام 1960 حين استلم عدنان مندريس رئاسة مجلس الوزراء وبدأ بحملة تنمية شاملة في المدينة شملت تطوير الزراعة وبناء المصانع وتشييد الطرقات والجسور والجامعات مما أدى إلى ارتفاع هائل في نسبة الطلب على المساكن.
فتح مندريس أهم طرقات المدينة التي ما زالت تستخدم حتى الآن، كشارع وطن وميدان بي يزيد الذي وجدوا تحته آثارًا تعود للبيزنطيين والروم، وأسهمت إصلاحات مندريس في تطوير الحياة الاقتصادية وتسهيل التنقل، وأيضًا تقلصت البطالة وتحررت التجارة وعاش الناس فترة استقرار سياسي انتهت بانقلاب على مندريس ثم إعدامه عام 1961.
إسطنبول في حقبة الانقلابات
جاء الانقلاب الثاني في مارس/آذار 1971، وهذه المرة كانت البلاد تشهد صراعات دموية بين القوى اليسارية والقوى اليمينية، فقد عاشت إسطنبول في تلك الأوقات مشاكل عديدة أكبرها مشكلة تلوث البيئة وعدم توافر المواد المحترقة كالنفط والبنزين، وفي هذه الأثناء أيضًا برزت مشكلة التدفئة التي اعتمد فيها السكان على قطع الأشجار، مما أدى إلى اقتطاع جزء كبير من غابات المدينة.
إسطنبول كانت تعاني من تكدس النفايات في شوارعها
قام رئيس البلدية نور الدين سوزين مرشح حزب الشعب ما يعرف الآن باسم CHP عام 1989 بمحاولات كثيرة لتخليص المدينة من مشكلاتها، واحدة منها مشكلة الازدحام المروري وتطوير مواصلات النقل بصنع حافلات من طابقين لاحتواء عدد أكبر من المستخدمين، ولكن لم تدم رئاسة نور الدين طويلاً حتى ترشح للانتخابات الجديدة وفشل فيها فكان من أبرز ما تركه وراءه انفجار غاز الميثانول في منطقة العمرانية نتيجة تفاعل أكوام النفايات مع بعضها البعض.
إسطنبول في ظل أردوغان
انتُخِب رجب طيب أردوغان رئيسًا لبلدية إسطنبول المدينة الكبرى في الانتخابات المحلية التي أجريت في 27 من مالاس/آذار 1994، كمرشح عن حزب الرفاه الذي أُسس عام 1983، إذ أوجد حلولًا سريعة وناجحة بفضل خبرته السياسية ومعرفته بإدارة الموارد البشرية.
اتخذ أردوغان تدابير دقيقة للقضاء على الفساد، ومن بين أهم الأشياء التي قام بها تسديد جلّ ديون البلدية التي كانت تقترب من ملياري دولار أمريكي
فتمكّن من حل كثير من المشكلات، منها: مشكلة المياه بمدّ أنابيب المياه لمسافات طويلة بلغت مئات الكيلومترات، ومشكلة النفايات بنصب أحدث المنشآت لتدويرها، ومشكلة التلوث بمشروع الانتقال إلى استهلاك الغاز الطبيعي، حيث طبق خطة ذكية جدًا اعتمد فيها على أخذ مبلغ من المال من أغنى عائلات المدينة ثم أنشأ شركة IGDAŞ للغاز الطبيعي، التي ما زالت الشركة الأفضل حتى الآن، استمر العمل عليها سنة واحدة، وبنى كذلك أكثر من 50 جسرًا ونفقًا وطريقًا سريعًا لتجاوز معضلة المرور والتنقل في المدينة، وبادر بإنشاء مشاريع أخرى كثيرة فتحت آفاقًا مستقبلية للمدينة.
الخليج قبل وبعد إعادة تأهيله بفترة رئاسة الطيب أردوغان لبلدية إسطنبول
إضافة لذلك، اتخذ أردوغان تدابير دقيقة للقضاء على الفساد، ومن بين أهم الأشياء التي قام بها تسديد جلّ ديون البلدية التي كانت تقترب من ملياري دولار أمريكي، ثم نال ثقة السكان ليسجن عام 1998 بتهمة التحريض على الكراهية الدينية بسبب قصيدة ألقاها وحكم عليه بالسجن لمدة 10 أشهر.
إدارة البلدية في حكم حزب العدالة والتنمية
استلم حزب الحرية والعدالة رئاسة بلدية إسطنبول عام 2002 وكان أردوغان قد قدم خطة جاهزة لإدارة المدينة ونموذجًا جاهزًا للتطبيق، حيث تعد مدينة إسطنبول الآن من أهم مدن العالم، ولهذا فإن إدارتها وتنظيمها تتطلب جهدًا كبيرًا، إذ تعتبر البلدية الجهة المعنية بإدارة شؤون المدينة كافة، حيث إنها تحافظ على آلية سير الحياة اليومية، وتلبية جميع احتياجات أفراد المجتمع.
تنقسم هذه الإدارة تحت أكثر من مديرية يديرها رئيس البلدية (الباشكان)، تقوم الإدارة وفق خطة إستراتيجية، تعتمد على هيكل تنظيمي، كل فئة منها مسؤولة عن الفئة التي تليها، حيث يعقد الباشكان وأعضاء مجلس البلدية اجتماعًا في أول أسبوع من كل شهر، ثم يليه القائم مقام الذي يدير بدوره الوالي، ثم مخاتير الأحياء.
تعتمد بلدية إسطنبول الكبرى على ميزانية مختلفة كل عام متخصصة ضمن الميزانية العامة للدولة التركية
قامت بلدية إسطنبول بالكثير من المشاريع التي صبت في مصلحة المدينة وساعدتها في الوصول إلى مركز الوجهة السياحية الأولى في تركيا، فشرعت في بناء شبكة كبيرة من السكك الحديدية التي تربط المدينة ببعضها البعض مثل مترو الأنفاق الذي كان طوله 8.5 كيلومتر عام 2000، وأصبح 489 كيلومترًا حتى الآن، وحسب تقارير لبلدية إسطنبول الكبرى فإنهم يهدفون إلى 600 كيلومتر من طول سكة مترو الأنفاق خلال عام 2023.
ومن أهم مشاريع النقل العام نفق أوراسيا الذي افتتح في 20 من ديسمبر عام 2016 وهو سادس أطول نفق في العالم، ويمتد النفق على مسافة 14.6 كيلومتر، 3.4 كيلومتر منها تحت قاع مضيق البوسفور، ويذكر أن النفق مجهز بآلية مقاومة للزلازل مما يجعله أكثر أمانًا بالنسبة لمدينة تقع بين تلّتين مثل إسطنبول.
مترو مرمراي الذي يمر تحت مضيق البسفور
تنقسم البلديات الفرعية تحت بلدية إسطنبول إلى 39 بلدية، هذه البلديات الصغيرة معنية بإدارة مناطق محددة تقدم خدماتها للسكان، أكبر هذه البلديات بلدية منطقة Başakşehir وأقدمها بلدية Beyoğlu، بينما تقوم بلدية إسطنبول الكبرى بدور الوحدة الرئيسية في إدارة هذه البلديات واختيار رؤسائها، وإدارة وزارة الآثار ومديرية الصحة ومديرية المياه، الإطفائية، ومديرية الشرطة.
أظهرت معطيات رسمية، أن ميزانية بلدية إسطنبول لعام 2018 بلغت 42 مليار و600 مليون ليرة تركية (11.134 مليار دولار أمريكي)، بينما بلغت ميزانية مديرية الأمن 27.8 مليار ليرة تركية، وتعتمد بلدية إسطنبول الكبرى على ميزانية مختلفة كل عام متخصصة ضمن الميزانية العامة للدولة التركية.
تشرف بلدية إسطنبول حاليًّا على 39 بلدية منفصلة داخل محيط المدينة، حيث تشهد هذه البلديات أيضًا انتخابات محلية لاختيار رئيس يدير شؤونها، وبات التنافس بينها جزءًا كبيرًا لا يغيب عن الشارع التركي، إذ يحاول المرشح طوال فترة رئاسته كسب ثقة السكان وتوفير أفضل الخدمات لهم، كالرعاية الصحية ونظافة البيئة وتسخير التكنولوجيا والإنترنت لتسهيل المعاملات الحكومية، ومعرفة أوقات الازدحام المروري بسهولة، ومن الجدير بالذكر أن بلدية إسطنبول الكبرى ستقام بها الانتخابات المحلية لاختيار رئيس جديد لها في نهاية الشهر الحاليّ.