من يتابع التغطية الإعلامية العبرية لعملية اغتيال المقاوم الفلسطيني عمر أبو ليلى وحفاوة الشارع الصهيوني بالعملية يظن من الوهلة الأولى أن دولة الكيان كانت في معركة مع كتيبة عسكرية أو فرقة مسلحة واستطاعت عبر مواجهات ساخنة أن تنتصر عليها.
فمشاهد تبادل التهاني بين المسئولين وقادة الجيش والمستوطنين اليهود في شوارع تل أبيب تعكس وبصورة كبيرة حجم القلق الذي كان يخيم عليهم جرًاء ما فعله الشهيد الشاب ابن الأعوام الـ 19، تلك العملية التي بثت الذعر في نفوس الصهاينة.
تل أبيب لم تجد حرجا في عدم إخفاء خشيتها من أن يتحول أبو ليلى إلى أيقونة للشباب الفلسطيني خاصة بعدما نجح في إحداث هزة عنيفة في المفاهيم التي سعى الكيان العبري للترويج لها عن قوة آلته العسكرية وصعوبة اختراقها، وهو ما نفسه الشهيد في دقائق معدودة.
قنبلة “سفليت”
في الوقت الذي استيقظ فيه الفلسطينيون صبيحة السابع عشر من مارس الجاري على أخبار تفيد باعتداءات قام بها مستوطنون على المسجد الأقصى بينما مجلس الوزراء المصغر”الكابينيت” يصدق على خطة لإعادة احتلال غزة في أي وقت ممكن إذ بالأوضاع تتغير مع العاشرة من صباح نفس اليوم.
ففي العاشرة إلا الربع تقريبا تسرب خبير يتحدث عن عملية قام بها احد عناصر المقاومة الفلسطينية بالقرب من مدينة سلفيت في الضفة الغربية، العملية تفيد بأن شابًا فلسطينيًا خرج من مكان قرب دوار مدخل بلدة كفل حارس الذي أصبح بفعل وجود مستوطنة إسرائيلية يحمل اسم «دوار أريئيل»٬ وانقض نحو جندي إسرائيلي يحرس موقفًا لحافلات السيارات الإسرائيلية.
الشاب طعن جندي صهيوني اسمه غال كيدان ثم استولى على بندقيته من طراز (M16)، فقتله برصاصها، وأخذ يتجول في المفترق، ويطلق النار، حتى وقعت عينه على الحاخام أحيعاد إتيغنر٬ فأطلق النار عليه، ثم قاد سيارة هذا الحاخام الذي توفي لاحقًا، وبعد نحو 10 دقائق من بدء هذه العملية المزدوجة؛ كان الشاب المقاوم قد وصل إلى مفترق مستوطنة «غيتي أفيخاي»٬ وهو يقود السيارة بشكل جنوني، ثم قام بإطلاق النار من النافذة ليصيب جنديًا إسرائيليًا آخر، وحين حلت الساعة العاشرة بالتمام كان الشاب الفلسطيني قد تخلى عن السيارة مدججًا بالسلاح الذي سيطر عليه واتجه نحو بلدة بروقين التابعة لسلفيت حيث اختفى فيها.
وماهي إلا دقائق معدودة حتى اختفى منفذ العملية، ليتسلل الرعب إلى نفوس الإسرائيليين، خاصة بعد الفشل في معرفة هوية الشاب الذي قام بها، الامر الذي يزيد من احتمالية تكرار نفس العملية التي سماها الإسرائيليون «عملية أرائيل المزدوجة»٬ فيما سماها الفلسطينيون «عملية سلفيت».
ورغم عدم معرفة هوية منفذ العملية إلا أنها أدخلت حالة من البهجة في نفوس الملايين من الشعب الفلسطيني، لكن ماهي إلا ساعات قليلة حتى تم الكشف عن البطل الذي قام بها، وفي وقت لا يساوي في حساب الزمن لحظات بات اسمه الأكثر تداولا على ألسنة الجميع، وذلك بعدما اعلن الاحتلال أن «منفذ العملية هو الشاب عمر أبو ليلى (19 عامًا) من قرية الزاوية القريبة من سلفيت، وهو ليس معروفًا لأجهزة الأمن الإسرائيلية، كمن لديه ماضٍ في العمل المسلح أو النشاط السياسي».
“دمعته قريبة، يحزن على الغريب والقريب.. كنت أعطيه مصروفا ويعود ليخبرني أنه تبرع به في المسجد أو اشترى حلوى للأطفال”.. والدة الشهيد
من هو عمر أبو ليلى؟
في منزل بقرية الزاوية (غرب محافظة سلفيت شمال الضفة الغربية)، ولد عمر، الابن الأكبر لعائلته والذي كان مقررا له أن يحتفل بعامه الـ19 بعد شهرين، طالب جامعي، عٌرف عنه حب الناس وفعل الخير، كذلك حبه لوطنه الذي اختار لنفسه أن يكون جنديا في معسكر الدفاع عنه وإن لم يكن عضوا في أي فصيل سياسي.
خاض اشتباكات عدة مع رفقاءه في المقاومة ضد أهداف إسرائيلية على مدار حياته، لم يكن يوما جبانا ولا خائفا مهما كانت درجة التحديات، حسبما أشارت والدته غدير أبو ليلى في حديثها الذي كشفت من خلاله الكثير من التفاصيل الخفية عن حياة البطل الشاب.
الأم ذات الأعوام الـ 37 عاشت اسوا أيام حياتها خلال الليالي الثلاث الماضية، منذ الإعلان عن اسم ابنها كمنفذ لعملية سفليت، إلا أنها لم تفعل شيئا سوى انتظار خبر استشهاد عمر مع كثير من الدعاء، حيث لم يمنحها ضابط القوة الإسرائيلية التي اقتحمت منزلها عدة مرات خيارات كثيرة؛ “إن لم تسلموه سنأتي به بالرصاص”، كما قال لها.
كيف استقبلت والدة بطل #عملية_سلفيت #عمر_أبو_ليلى التي أسفرت عن مقتل وإصابة عدد من الصهاينة خبر استشهاده ..؟ وماذا قالت عن أيامه الأخيرة وكيف كانت علاقته بها .. ؟#استشهاد_المطارد #عملية_سلفيت_البطولية #القدس_لنا pic.twitter.com/wWmDDtb51w
— جابر الحرمي (@jaberalharmi) March 21, 2019
خرج عمر صباح الأحد من منزله بحسب والدته التي قالت إنه “لأول مرة لم أره عند مغادرته، لكنني ظننت أنه ذهب للجامعة أو العمل”، وهكذا استمر ظنها حتى وصلتها الأخبار عن عملية إطلاق نار قرب مستعمرة أريئيل القريبة، اتصلت به مرارا لكن بلا رد، وفي كل الأحوال لم تظن أنه كان جزءا من الحدث.
تقول والدته “عمر فاجأنا.. كان مفاجأة للجميع”، مضيفة أنه -الأكثر حنانا بين أبنائها- “دمعته قريبة، يحزن على الغريب والقريب.. كنت أعطيه مصروفا ويعود ليخبرني أنه تبرع به في المسجد أو اشترى حلوى للأطفال”، فيما ذهبت شقيقته الصغرى أنها الأحب إلى قلبه وهي أكثر من يجالس من أشقائه ويلاعبها ويشاهد التلفاز معها يوميا.
وأضافت أنه كان “شجاعا من صغره وحتى استشهاده”، ثم أضافت متأثرة بتفاعل كبير من أبناء قريتها ومن الفلسطينيين عموما الذين احتفوا بعمليته “نرفع رأسنا لبطولته، وإن شاء الله بيجي أمثاله آلاف ليكملوا مسيرة تحرير فلسطين”.
حرص البطل الشاب على إكمال تعليمه وامتهان تركيب وصناعة الألمنيوم. بحسب الأم التي أضافت “أنه شخص واع، ويقوم بالعمل الذي يريده عن قناعة، ويبدو أنه اختار الشهادة، وفتح الله له الطريق إليها”، معتقدة أن ابنها الذي كان قليل الكلام “استشهد وسرّه معه”.
“رامبو” الفلسطينيين
تحول عمر إلى أيقونة لكثير من الشباب الفلسطيني، فيما وصف والده المعتقل في سجون الاحتلال أن ابنه أصبح “رامبو” مضيفا في حديثه للمحققين العبريين أن الشهيد ليس منتميا لأي فصيل فلسطيني، وغير ناشط سياسيا، موضحا أنه شخص محبوب وصاحب أخلاق عالية، ثم أضاف “لم ينقصه مال ولا حب، ولديه سيارته الخاصة، وهو طالب جامعي مجتهد ولديه طموحات كثيرة”.
حالة من الغليان سيطرت على العقلية العسكرية الصهيونية التي تحطمت على أيدي شاب لم يكمل العقد الثاني من عمره، وعلى مدار 72 ساعة كاملة فشلت الآلة المخابراتية الإسرائيلية في تحديد مكان عمر، الذي تحول فجأة إلى حديث الشارع، الفلسطيني والعبري على حد سواء.
أجهزة الأمن مطالبة بتوفير إجابات واضحة ومقنعة حول كيفية نجاح أبو ليلى في الانسحاب من المكان، والوصول إلى المبنى الذي قتل فيه في بلدة عبوين
لكن وبعد 3 أيام نجحت القوات الصهيونية في استهداف البطل ليرتقي شهيدا في بلدة عبوين شمال رام الله المحتلة، بعد أن خاض اشتباك مسلح ضد ثلاث كتائب من القوات الخاصة العبرية، إذ تمت محاصرته في منزل مهجور ولم يستسلم، وخاض مواجهات مناوشات مع القوة التي استهدفته لكن الكثرة كانت لها الكلمة العليا ليسقط عمر.
وفي المنزل الذي أعلن الاحتلال اغتيال الشاب داخله بقرية عبوين، لا زال أصحاب البيت والجيران في صدمة من الدمار الذي حل في البناء القديم غير المأهول، إذ يقول صاحب المنزل عزام حمد إن قوات إسرائيلية خاصة حاصرت المكان مساء الثلاثاء، ونادت عبر مكبرات الصوت: “عمر أبو ليلى سلّم نفسك وإلا سنهدم البيت على رأسك”. ثم بدأ الجنود إطلاق النار.
قال ﷺ في الحديث ( ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم ، الأول رجل انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عزوجل ، فإما أن ينصره الله ويكفيه ، وإما أن يقتل فيقول الله : إنظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه …)
هنيئا لعمر نحسبه من الشهداء ?? #عمر_ابو_ليلى pic.twitter.com/rBwcyZsidW— Abdullah M Eletribi (@AboodEletribi) March 21, 2019
اسئلة في انتظار الاجابة
تعاملت الصحافة العبرية مع العملية على انها اختراق واضح ومكتمل للأجهزة الامنية الصهيونية، فرغم اغتيال منفذها إلا أن قدرته على الانسحاب والهروب لمدة 3 أيام أثارت الكثير من التساؤلات حول القدرة الأمنية للجهاز العسكري الصهويني.
وبحسب الخبير العسكري الإسرائيلي في القناة 13 أور هيللر، فإن “وضع اليد على منفذ عملية سلفيت، وقتله، شكل بشرى إيجابية للجيش الإسرائيلية وأجهزة المخابرات خشية من تكرار نموذج نعالوة، مع أن البحث الأمني والتحري الاستخباري خلف من وقف بجانب أبو ليلى، وساعده، وخطط معه العملية لم ينته بعد”
مؤكدا أن “تصفية الحساب الإسرائيلي مع أبو ليلى انتهت بقتله، لكن العمل الأمني والتحقيق الاستخباري ما زال مستمرا، لأن أجهزة الأمن مطالبة بتوفير إجابات واضحة ومقنعة حول كيفية نجاح أبو ليلى في الانسحاب من المكان، والوصول إلى المبنى الذي قتل فيه في بلدة عبوين”.
وتساءل هيللر: “أين اختفى أبو ليلى خلال الأيام الثلاثة، من ساعده، وكيف وصل إلى مشارف رام الله، كل هذه الأسئلة انطلقت فور أن ترك أبو ليلى سيارته التي استقلها بعد تنفيذ العملية، حيث استنفرت كل أجهزة الأمن وحرس الحدود والقوات الخاصة، وجندوا العملاء الجواسيس، والوسائل التقنية في محاولة للوصول إلى المعلومة الذهبية التي قد تمثل طرف خيط إلى مكان أبو ليلى”.
وهكذا نجح عمر في زلزلة جيش بأكمله، محطما الأصنام التي صنعها الصهاينة بشأن قوة جيشهم، معطيا الأمل لجيل خلف جيل من الشباب في الزود عن أراضيهم والدفاع عن مكتسباتهم التاريخية، ليسطر عمر صفحة جديدة ناصعة البياض في سجل تاريخ المقاومة الحافل، المقاومة غير المسيسة، التي تنطلق من الوازع الوطني بعيدا عن أي مكاسب سياسية أو مادية.