ترجمة وتحرير: نون بوست
أجّلت المحكمة الجنائية الدولية لمدة ستة أشهر إصدار مذكرات اعتقال رسمية بحق كبار المسؤولين السياسيين الإسرائيليين الذين أشرفوا على الإبادة الجماعية على غزة، رغم أنها استجابت في وقت قصير لطلب مماثل يتعلق بادعاءات ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بارتكاب جرائم في أوكرانيا.
من المؤكد أن هناك معايير مزدوجة، إلا أن قرار المحكمة الجنائية الدولية الأخير مرحب به بعد أن رفضت سابقا الاستجابة لتوصية المدعي العام كريم خان في 20 مايو/ أيار، وأجلت قرار إصدار مذكرات الاعتقال إلى أجل غير مسمى.
إن قرار الدائرة التمهيدية الأولى في المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت في ضوء الأدلة الدامغة على مسؤوليتهما عن جرائم دولية خطيرة هو تطور مهم للغاية. إنها ضربة قوية ضد الإفلات من العقاب الجيوسياسي وانتصار للمساءلة.
ولكن إذا تم تقييم هذا الإجراء الذي اتخذته المحكمة الجنائية الدولية من خلال قدرته على التأثير على سلوك إسرائيل على المدى القصير وجعله أكثر انسجامًا مع القانون الدولي، ومع المواقف السائدة في الأمم المتحدة والجنوب العالمي والرأي العام العالمي، فيمكن اعتبار قرار المحكمة الجنائية الدولية بادرة عديمة الجدوى.
يرى البعض أن الأثر الملموس لمذكرات الاعتقال، إن وُجد، سيكون تغييرًا طفيفًا في خطط سفر نتنياهو وغالانت المستقبلية، فالقرار يُلزم الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية البالغ عددها 124 دولة باعتقالهم إذا جازفوا بدخول أراضيهم، أما الدول غير الأطراف، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا والصين وإسرائيل وغيرها، فلا تخضع حتى لهذا الالتزام البسيط.
حدود القرار
ينبغي أن نتذكر أن فلسطين طرفٌ في معاهدة المحكمة الجنائية الدولية. وبالتالي، إذا ما وطأت أقدام نتنياهو أو غالانت الأراضي الفلسطينية المحتلة في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، فإن السلطة في رام الله ستكون ملزمة قانونًا بالقيام باعتقالات.
سيشكل التفكير في اعتقال مسؤول إسرائيلي اختبارا لشجاعة السلطة الفلسطينية بشكل يفوق سلوكها السابق بكثير، مهما كانت الأدلة ضده قوية.
لكن هذا التقييم للأثر الملموس يُغفل حقيقة أن هذه الخطوة تشكّل تطورًا تاريخيًا مهمًا للنضال الفلسطيني ولمصداقية المحكمة الجنائية الدولية على حد سواء.
وقبل تقديم الحجة التي توضح أن هذه الخطوة التي أقدمت عليها المحكمة الجنائية الدولية خطوة تاريخية، فإن مسؤوليتنا تحتم أن نعترف بالقيود المهمة التي تنطوي عليها:
أولًا وقبل كل شيء، رغم أن توصية المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى الغرفة الفرعية للمحكمة صدرت في مايو/ أيار (أي بعد ثمانية أشهر من 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، إلا أنها لم تتضمن “الإبادة الجماعية” ضمن الجرائم المنسوبة إلى هذين المسؤولين، وهي بالطبع جوهر الإجرام في العدوان الإسرائيلي، كما أنها معبرة عن دورهما فيه.
هناك أيضًا قصور ملحوظ يتمثل في التأخير الطويل الذي شهدته المحكمة الجنائية الدولية بين التوصية بإصدار مذكرات الاعتقال وقرار المحكمة الفرعية.
وهذا أمر لا يمكن تبريره من الناحية الموضوعية في ضوء الظروف الاستثنائية المروعة من دمار ومجاعة ومعاناة في غزة خلال هذه الفترة الفاصلة بين التوصية وصدور القرار، وهي معاناة تفاقمت بسبب عرقلة إسرائيل للمساعدات الإنسانية التي تقدمها منظمة الأونروا وغيرها من المنظمات الدولية الإغاثية والإنسانية للسكان المدنيين في غزة، وهم في أمس الحاجة إلى الغذاء والوقود والكهرباء ومياه الشرب والإمدادات الطبية والعاملين في المجال الصحي.
ويخضع قرار المحكمة الجنائية الدولية للطعن في اختصاصها القضائي بعد إصدار أمر الاعتقال، إذ أن قبول ولايتها القضائية الصادر في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني مؤقت من الناحية الشكلية لأن اعتراض إسرائيل على السلطة القضائية للمحكمة الجنائية الدولية جاء قبل أوانه، ولكن يمكن تقديم الطعن في المستقبل بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية القرار.
وحتى في حال تنفيذ الاعتقالات، وهو أمر مستبعد، فمن غير المتوقع أن يتم يستمر احتجازهم طويلا بسبب قانون الكونغرس الأمريكي الذي يجيز استخدام القوة لـ”تحرير” المتهمين من مواطني الولايات المتحدة أو حلفائها من قبضة المحكمة الجنائية الدولية.
وقد كانت هناك بالفعل تلميحات بأن بعض أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين سوف يصادقون على عقوبات ضد خان وأعضاء الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية، لكن مثل هذه المبادرات إذا تم تشريعها ستزيد من الحطّ من سمعة الولايات المتحدة كداعم لسيادة القانون الدولي.
أهمية القرار
رغم هذه القيود الهائلة، فإن تفعيل السلطة الإجرائية للمحكمة الجنائية الدولية هو في حد ذاته تذكير قاسٍ للعالم بأن المساءلة عن الجرائم الدولية يجب أن تشمل جميع الحكومات، خاصة أن الأدلة قدمها خبراء محايدون يتمتعون بالكفاءة المهنية، تحت رعاية مؤسسة دولية مخولة بموجب معاهدة دولية تم التصديق عليها على نطاق واسع لتحديد الاختصاص القانوني لاتخاذ مثل هذا القرار المثير للجدل.
إن القرارات الرسمية للمحكمة الجنائية الدولية تصدر دون الخضوع لحق النقض الذي أصاب مجلس الأمن الدولي بالشلل منذ اندلاع العنف في غزة.
لكن ذلك لا يعني أنه سيتم تنفيذ القرار أو أن الملاحقة القضائية ستمضي قدمًا، ناهيك عن احترام نتائج الإدانة المستقبلية في حال حدوثها، وهذا ما يكشفه للأسف تاريخ محكمة العدل الدولية منذ تأسيسها في عام 1945.
مع ذلك، فإن كلاً من المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية متحررتان رسميًا من “الاعتبارات الجيوسياسية” التي غالبًا ما تطغى على قرارات القانون الدولي أو ميثاق الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات غير القضائية.
إن النتيجة التي توصلت إليه المحكمة الجنائية الدولية بشأن مذكرات الاعتقال هي تطبيق مباشر وموثوق به للقانون الدولي، ولهذا فإنها لا توَاجَه بحجج مضادة بل بإدانات فجة؛ حيث يصف نتنياهو قرار المحكمة الجنائية الدولية بأنه “سخيف” وأنه مظهر من مظاهر “معاداة السامية”، وقد مارست إسرائيل خلال الفترة الماضية مثل هذا النوع من الهجمات اللفظية على الأمم المتحدة نفسها.
إن أهمية إصدار مذكرات الاعتقال مستقبلا هي مساعدة فلسطين في كسب “حرب الشرعية” على المثُل العليا للقانون والأخلاق والخطاب العام.
أنصار الواقعية السياسية الذين يواصلون الهيمنة على صانعي السياسة الخارجية في الدول الكبرى يتجاهلون دور القانون الدولي والمعايير الكونية في تحقيق الأمن العالمي في ظل الأوضاع الجيوسياسية الملتهبة، ويعتبرونها مجرد ملهيات، ويرون أن من الأفضل التعامل في كل الأحوال عبر القوة العسكرية.
لكن هذه الرؤية تتناسى كل تلك الحروب التي انتصر فيها الطرف الأضعف عسكريا ضد الاستعمار في القرن الماضي، وكان على الولايات المتحدة أن تتعلم هذا الدرس في حرب فيتنام؛ حيث فازت في المعارك الجوية والبحرية والبرية ومع ذلك خسرت الحرب.
لقد انتصر الطرف الأضعف عسكريًا في حرب الشرعية التي غالبًا ما تحكمت في النتائج السياسية للصراعات على الهوية منذ عام 1945، وتعكس تلك الحروب تراجع الفاعلية التاريخية للأدوات العسكرية حتى في ظل ثورة الابتكارات التكنولوجية في مجال التسليح.
لهذا السبب، توصل عدد متزايد من الخبراء إلى استنتاج مفاجئ مفاده أن إسرائيل خسرت الحرب بالفعل، وأنها عرّضت أمنها وازدهارها المستقبلي، وربما وجودها للخطر.
وفي نهاية المطاف، قد تحقق المقاومة الفلسطينية النصر رغم دفعها ثمنًا غاليا جراء ما يحدث من إبادة جماعية.
وإذا ما تحققت هذه النتيجة، فإن أحد العوامل الدولية التي ستحظى بالاهتمام هو قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، مهما بدا هذا الإجراء عديم الجدوى اليوم.
المصدر: ميدل إيست آي